عناصر الخطبة
1/ معاني اسم الله الرب وحقيقة الربوبية 2/ هل الرب اسم الله الأعظم 3/ هدايات اسم الله الرب.اقتباس
إن ركون قلب العبد إلى اسم الله الرب ليولد في هذا القلب أنوارًا وهدايات، ومنها: الطمأنينة إلى أقدار الله وأفعاله: فالرب -عز وجل- لا يفعل بخلقه إلا ما فيه خيرهم وإلا الأصلح لهم، فهو من تفضل بخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم تكفل برزقهم وحفظهم وهدايتهم، ووهبهم وامتن عليهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن لهذا الكون مالكًا يملكه ويدبر أمره ويقوم على شئونه، يرزق ويكلأ ويمنح ويرعى ويحفظ، يربي ويؤدب ويقوِّم، يتصرف في الأمور والأقدار والآجال، يصون أولياءه ويدني أصفياءه، يمهل العاصي ويثيب الطائع، يصلح الأجساد والأرواح والقلوب؛ وإننا إن أردنا أن نجمع كل ما مر في كلمة واحدة قلنا: "إن لهذا الكون ربًا"، فإن كلمة الرب شاملة لكل هذا، ذاك هو الله رب العالمين.
أيها المسلمون: إن من أسماء الله الحسنى اسم الله الرب، ومعناه: المربي لجميع خلقه بالرزق والتدبير والحفظ والعناية، والمربي لأوليائه بإصلاح قلوبهم وتصفية أرواحهم وتهذيب أخلاقهم، ومنه قول الله -تعالى-: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) [النساء: 23]؛ فإن "الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من رجل آخر، سميت ربيبة لتربيتها في حجر الرجل" (تفسير الخازن).
ومن معاني اسم الله الرب: القائم بالشيء المصلح له، "يقال: رببت الشيء أربه ربًا وربابة: إذا أصلحته وقمت عليه" (اشتقاق أسماء الله للزجاجي)، و"يقال: رب فلان الضيعة يربها: إذا أصلحها فالله -تعالى- مالك العالمين ومربيهم ومصلحهم" (الخازن)، وفي الحديث: "هل لك عليه من نعمة تربها" (مسلم)، أي تقوم عليها وتصلحها.
ومن معانيه: المالك، ومنه قوله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2]، أي مالكهم، يقال: رب الدار ورب الشيء أي مالكه، قال القرطبي: "رب العالمين: أي مالكهم، وكل من ملك شيئًا فهو ربه، فالرب: المالك" (تفسير القرطبي)، "ورب الشيء، مالكه، فالله -عز وجل- مالك العباد... ومصدر الرب: الربوبية، وكل من ملك شيئًا فهو ربه، يقال: هذا رب الدار ورب الضيعة" (اشتقاق أسماء الله للزجاجي).
وعليه: فالرب -سبحانه وتعالى- هو الخالق لجميع المخلوقات، والمالك لكل الموجودات، والمتكفل برعايتها وهدايتها، والمدبر لها أمورها.
ويجب الانتباه هنا إلى أنه لا يصح أن يطلق اسم الرب معرفًا بالألف واللام كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب -عز وجل-" (رواه مسلم)، كما لا يحوز أن يطلق لفظ: "رب" بلا تعريف ولا إضافة كقوله -تعالى-: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس: 58]؛ إلا على الله -عز وجل- وحده لا شريك له، وفي هذه الحالة لا يجوز تأنيثه أبدًا، يقول الزجاجي: "ولا يقال: الرب معرفًا بالألف واللام مطلقًا إلا لله -عز وجل-؛ لأنه مالك كل شيء" (اشتقاق أسماء الله للزجاجي)، ولا يطلق على المخلوق إلا مضافًا إلى غيره، فيقال: "رب البيت" مثلًا، وهنا يجوز تأنيثه فيقال: "ربة المنزل"...
أيها المؤمنون: وحقيقة الربوبية ومعناها: "الإقرار الجازم بأن الله -تعالى- رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له ولا مماثل، ولا سمي له ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته، ومقتضيات أسمائه وصفاته، قال الله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2]، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16].
وتوحيد الله -تعالى- ربًا مالكًا وخالقًا ورازقًا مما لم يستطع أحد أن يجحده حتى الكفار والمشركون، بل الجميع قد أقروا به، قال الله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت: 61]، وقال -عز من قائل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت: 63]، وقال -سبحانه-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [الزخرف: 87].
وهذا النوع من التوحيد لا يُدخل الكافر في الإسلام ولا يعصم دمه ولا ماله؛ فقد قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة واستحل دماءهم وأموالهم رغم إقرارهم السابق، لأنه لا بد من توحيد الألوهية والأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية؛ فمما فطر الله الناس عليه.
أيها المؤمنون: يقول بعض علمائنا أن اسم الله الرب هو اسم الله الأعظم، ويمكن أن يُستدل لذلك بقول اثنين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هما: أبو الدرداء وابن عباس -رضي الله عنهم- فقد كانا يقولان: "اسم الله الأكبر رب رب" (الحاكم والطبراني وحسنه الألباني).
وقالوا: أن اسم الله الرب هو أول اسم نزل به القرآن، وهو كذلك أول اسم من أسماء الله الحسنى يأمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ به قائلًا -عز من قائل-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1]، كذلك؛ فإنه أكثر أسماء الله -عز وجل- الذي يردده الخلق ويدعونه به ويسألونه به، وإلى اسم الله الرب يُنسب الأفذاذ المخلصون من عباده فيقال: "عالم رباني" أي راسخ في العلم، -وأيضًا-؛ فاسم الله الرب اسم يشمل العديد من الأسماء الحسنى الأخرى؛ فالرب هو الخالق وهو المالك وهو القيوم وهو المنعم؛ كما وضحنا عند الكلام عن معاني هذا الاسم الكريم.
وقد اختلف العلماء في اسم الله الأعظم على أقوال كثيرة، وليس هذا القول بأقواها، "وهناك اجتهاد مقبول أن اسم الله الأعظم هو الاسم الذي يتعلق بحالك؛ فاسم الله الأعظم المتعلق بالمريض الشافي، والفقير اسم الله الأعظم له المغني، والمظلوم اسم الله الأعظم له العدل، والمقهور اسم الله الأعظم له الناصر" (شرح أسماء الله الحسنى للنابلسي).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن ركون قلب العبد إلى اسم الله الرب ليولد في هذا القلب أنوارًا وهدايات، ومنها:
الطمأنينة إلى أقدار الله وأفعاله: فالرب -عز وجل- لا يفعل بخلقه إلا ما فيه خيرهم وإلا الأصلح لهم، فهو من تفضل بخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم تكفل برزقهم وحفظهم وهدايتهم، ووهبهم وامتن عليهم، وحتى في ابتلاءاته -عز وجل- لهم فما يبتلي إلا لينبِّه ويُحذِّر، كما قال -عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]؛ بل قال -تعالى- عن الفاسقين: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]؛ فما يحرِم إلا ليمنح، ولا يمرِض إلا ليشفي، ولا يمتحن إلا ليرفع... سبحانه هو الرب -عز وجل-.
ومنها: عدم التطلع إلا إليه ولا الرجاء إلا فيما عنده؛ فما دام الله -تعالى- هو الرب المالك لكل شيء والخالق لكل شيء والمدبر لكل أمر، فما عسانا نحتاج من سواه؟! وسواه لا يملك إلا صورة؛ فإن الملك الحقيقي لله وحده، ففي الحديث القدسي يقول الرب -تبارك وتعالى-: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" (رواه مسلم)، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده" (متفق عليه).
ومنها: العودة والتوبة إليه -سبحانه- مهما زادت الذنوب والخطايا؛ وكيف لا؛ والأب أو الأم يقبلان ولدهما ويصفحان عنه مهما أساء ومهما ابتعد؛ فالولد من صلب أبيه ومن رحم أمه؛ قطعة منهما، ولله المثل الأعلى؛ فالرب -عز وجل- هو الذي خلق وهو الذي فطر وابتدئ وهو اللطيف بعبده: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]؛ فهما أخطأ العبد؛ فالرب -عز وجل- يقبله ويفرح بتوبته ويعفو عن قبيحه، وهو -تبارك وتعالى- الذي يهتف بعبده؛ فيقول: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" (الترمذي)، وهو الذي يبسط يده إليهم صباح مساء ليتوبوا.
ومنها: دعاء الله باسمه الرب؛ فإن العبد ليشعر أنه أقرب أسماء الله -تعالى- إلى لسانه وأسرعها تبادرًا إليه عند الدعاء؛ بل لقد أكثر القرآن من تعليمنا أن ندعو به؛ فقد ورد لفظ "ربنا" في القرآن أكثر من تسعين مرة، ولفظ: "رب" أكثر من مائة وعشرين مرة، ولفظ: "ربي" أكثر من ثمانين مرة، فلعله أكثر أسماء الله الحسنى ذكرًا في القرآن بعد اسمه -تعالى- (الله) يقول -سبحانه تعالى- معلِّمًا إيانا الدعاء به: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة: 286].
فيا ربنا وخالقنا ومالكنا نعوذ بك من الحاجة والفقر إلا إليك، ولا تكلنا ربنا إلا عليك.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التعليقات