عناصر الخطبة
1/ من أسماء الله سبحانه "الديان" ودليله 2/ معاني اسم الله "الديان" 3/حساب الديان للعباد دقيق وشامل 4/من آثار الإيمان باسم الله الدّيان 5/سنة الله في خلقه أن الجزاء من جنس العمل 6/الكيس من حاسب نفسه في الدنيا.اقتباس
وإذا علم المؤمن أن الرب -سبحانه- ديّان، وأن يوم القيامة يوم جزاء وحساب، وأنه سيجد أعماله كلَّها محضرة خيرها وشرها؛ فإنه سيحسب لذلك اليوم عدته، فالكيّس من حاسب نفسه ما دام في دار المهلة والعمل. قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "البر لا يبلى والإثم لا ينسى، والدّيان لا ينام، فكن كما شئت كما تدين تدان", والحساب يومئذٍ بالحسنات والسيئات...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
إخوة الإيمان: فإن من أسماء الله -سبحانه- التي وردت في السنة النبوية اسم "الدّيان", فتعالوا نغذي إيماننا بمعرفة دليله ومعناه وآثاره الإيمانية في حياة المسلم، جاء من حديث عبد اللهِ بنُ أُنَيسٍ قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم- يقولُ: "يَحشُرُ اللهُ العبادَ يومَ القيامةِ، أو قال النَّاسَ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال قُلْنا وما بُهْمًا قال ليس معهم شيءٌ، ثُمَّ يُنادِيهم بصوتٍ يسمَعُه مَن بَعُد كما يسمَعُه مَن قَرُب: أنا الدَّيَّانُ أنا المَلِكُ لا ينبَغي لأحدٍ من أهلِ النَّارِ أن يدخُلَ النَّارَ وله عند أحدٍ من أهلِ الجنَّةِ حقٌّ حتَّى أقُصَّه منه، ولا ينبَغي لأحدٍ من أهلِ الجنَّةِ أن يدخُلَ الجنَّةَ ولأحدٍ من أهلِ النَّارِ عنده حقٌّ حتَّى أقُصَّه منه حتَّى اللَّطمةَ" قال: قُلْنا كيف وإنَّما نأتي عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: "الحسناتُ والسَّيِّئاتُ " (أخرجه أحمد والترمذي وحسنه الألباني).
أيها المؤمنون: ولاسم الله "الديان" معاني ومدلولات منها: أن الديان: هو المجازي المحاسب، إذ يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين عراة ليس عليهم ثياب, حفاة بلا نعال، غرلاً غير مختونين، بُهمًا ليس معهم شيء من متاع الدنيا, ثم يحاسبهم ويجازيهم على ما قدموا في حياتهم الدنيا.
ولذلك سُمّي يوم القيامة بيوم الدين؛ لأنه يوم الحساب والجزاء, قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) [النور: 25] قال ابن عباس: "(دينهم) أي: حسابهم"، وقال تعالى يحكي قول الكفار: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات: 53]، أي: "لمجزيون بأعمالنا".
ومن معاني اسم الله الديَّان: أنه القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات, دانت له الخليقة, وعنت له الوجوه, وذلت لعظمته الجبابرة، ملك قاهر على عرش السماء مهيمن، يرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويقرب من يشاء، ويقصي من يشاء، فهو الديان الذي يدين العباد أجمعين لحكمه وقهره.
ومن معاني الديان: أنه الحاكم والقاضي الذي يحكم بين عباده, قال تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [الحج: 56، 57], ويفصل بينهم, قال -سبحانه-: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة: 25].
عباد الله: الديَّان: جاء بصيغة المبالغة، وتعني المبالغة في الكمّ، والمبالغة في النوع، فحسابه -سبحانه- للعباد شامل لجميع أعمالهم, فالله -عز وجل- سيحاسب عن كل الذنوب مهما كثرت، صغرت أو كبرت, قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93], وقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
معشر الكرام: وإذا علم المؤمن أن الرب -سبحانه- ديّان، وأن يوم القيامة يوم جزاء وحساب، وأنه سيجد أعماله كلها محضرة خيرها وشرها؛ فإنه سيحسب لذلك اليوم عدَّته، فالكيّس من حاسب نفسه ما دام في دار المهلة والعمل. قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "البر لا يبلى والإثم لا ينسى، والدّيان لا ينام، فكن كما شئت كما تدين تدان".
والحساب يومئذٍ بالحسنات والسيئات, وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أتدرون ما المفلِسُ؟" قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: "إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه. ثمَّ طُرِح في النَّارِ" (رواه مسلم).
بل إن من كمال مجازاة الديان -سبحانه- أنه يجيء بنفسه في ذلك اليوم للفصل بين العباد, قال تعالى: (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) [الفجر: 22], وقال -سبحانه-: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة: 210].
وحساب الديان حسابٌ دقيقٌ, فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنَّ رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم- جليسٌ بينَ يديهِ فقال: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ لي مملوكينَ يكذبونني ويخونني ويعصونَني فأضربُهم وأسبُّهم، فَكيفَ أنا منهم فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم-: "يُحسَبِ ما خانوكَ وعصوكَ وَكذَبوكَ فإن كانَ عقابُك إيَّاهم دونَ ذنوبِهم كانَ فضلًا لَك، وإن كانَ عقابُك إيَّاهم بقدرِ ذنوبِهم كانَ كفافًا لا لَك ولا عليكَ، وإن كانَ عقابُك إيَّاهم فوقَ ذنوبِهم اقتُصَّ لَهم منكَ الفضلَ الَّذي يبقى قِبلَك". فجعلَ الرَّجلُ يبكي بينَ يدي رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم- ويَهتِفُ فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم-: ما لهُ أما تقرأُ كتابَ اللَّهِ تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ليَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، فقال الرَّجلُ يا رسولَ اللَّهِ ما أجدُ شيئًا خيرًا لي من فراقِ هؤلاءِ: "أشهدُك أنَّهم أحرارٌ كلُّهم" (أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظيم امتنانه، نشهد أن لا إله إلا هو وحده تعظيما لشانه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فإن معرفة اسم الله الديان -سبحانه- تثمر للعبد ثمرات متنوعة، يعيش بها مؤمناً مطمئناً في ظلال هذه الأسماء, ومن ذلك:
الخوف من الله -سبحانه- واجتناب مظالم العباد؛ لأن العبد يعلم أن هناك يومًا لا ريب فيه لا فرق فيه بين غني وفقير ومسكين وأمير، فالكل بين يدي حكم عدل ديان. قال -عليه الصلاة والسلام-: "من قذف مملوكَه، وهو بريءٌ مما قال، جُلِدَ يومَ القيامةِ، إلا أن يكونَ كما قال" (أخرجه البخاري)؛ فاحذر -عبد الله- أيّ ظلم أو أذى، فقد يسكت المظلوم في الدنيا ولا يطالب بحقه, أو لا يستطيع المطالبة به لضعفه؛ فيأخذ حقه منك يوم الدين.
ومن آثار الإيمان باسم الله الدّيان: تسلية المظلومين والمقهورين في هذه الدنيا، وذلك بأن هناك يومٌ لا ريب فيه سيقتص فيه الديان –سبحانه- من الظالمين ويشفي صدور المظلومين ممن ظلمهم, (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
وإذ كان الدّيان -سبحانه- سيقتص للحيوانات بعضها من بعض فكيف بالإنسان؟! قال -عليه الصلاة والسلام-: "لتُؤدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلِها يومَ القيامةِ, حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجلْحاءِ من الشَّاةِ القرْناءِ" (أخرجه مسلم).
ومنها: توخي العدل مع الناس لمن ابتلاه الله بالحكم بينهم أو مجازاتهم في الدنيا. يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ويلٌ لديان اﻷرض من ديان السماء إلا من عدل."
ومن آثاره: الحرص على أداء الأعمال بأمانة ونصح للآخرين، والبعد عن خداعهم أو غشهم والتحايل عليهم. قال -سبحانه-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 1 - 6].
ومن آثار الإيمان باسم الله الدّيان: أن الجزاء من جنس العمل فهذه سنة الله في شرعه وقدره, يقول ابن القيم -رحمه الله-:" لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر, فمن ستر مسلما ستره الله, ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة, ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة, ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته, ومن ضار مسلما ضار الله به, ومن شاقَّ شاق الله عليه, ومن خذل مسلما في موضع يحب نصرته فيه خذله الله في موضع يحب نصرته فيه, والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء, ومن أنفق أُنفق عليه, ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه, ومن جاوز تجاوز الله عنه, ومن استقصى استقصى الله عليه, فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل".
ومن آثار الإيمان باسم الله الدّيان: التوبة إلى الله والتخلص من مظالم العباد ورد الحقوق إلى أهلها.
أما والله إنّ الظلم لؤمٌ *** وما زال المسيءُ هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ومن آثار الإيمان باسم الله الدّيان: أن يحاسب المرء نفسه على ما عملت من خيرٍ أو شر, ففي الدنيا متسع للتوبة والإنابة, قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم". وقال الحسن: "المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
التعليقات