عناصر الخطبة
1/ حقيقة الدنيا وتقلبها 2/ فضائل رمضان 3/ من حكم الصيام 4/ استغلال الوقت بالطاعات 5/ التحذير من قضاء الوقت بالمعاصي 6/ من هدي النبي في الصيام 7/ الإسراف وجوعى الصومالاهداف الخطبة
1/التذكير بفضائل الصيام وحكمه وأسراره 2/ دعوة المسلمين إلى الانتفاع من مواسم الخير 3/ بيان شيء من هدي النبي في الصيام 4/ التحذير من ضياع الأوقات في رمضان5/ غرس معاني الأخوة الإيمانية والاهتمام بمآسي المسلمين .اقتباس
فيه صبرٌ على حمأة الظمَأ ومرارةِ الجوعِ ومُجاهدة النفس في زجرِ الهوى, جَزاؤهم بابٌ من أَبواب الجنة لا يدخُلُه غيرُهم، فيه تذكيرٌ بحالِ الجوعَى من المساكِين والمُقتِرين, يَستَوي فيه المُعدِم والمُوسِر, كلُّهم صائِمٌ لربه مُستغفِرٌ لذنبه, يُمسِكون عن الطعام في زمنٍ واحدٍ ويُفطِرون في وقتٍ واحد, يتساوَوْن طيلةَ نهارهم بالجوع والظمأ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيّها المسلِمون: اعلموا أن الدنيا حلوة خضرة، جميلة نضرة، نعيمٌ لولا أنه عديم، ومحمود لولا أنه مفقود، وغناء لولا أن مصيره الفناء، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيم عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبد فيها مسؤول، من تعلّق بها التاط بشغل لا يفرغ عناه، وأملٍ لا يبلغ منتها, وحرصٍ لا يدرك مداه، أيامُها تسير في خبَب، وشهورها تتتابع في عجب، وزمانها انحدر من صبَب، الدنيا كلُّها قليل، وما بقي منها إلا أقل القليل، كالسغب شُرب صفوُه وبقي كدره، مخاطرٌ ومعاسر، وفتنٌ زوائر, صغائرٌ وكبائر, والناس يتقلبون فيها مؤمن وكافر، وتقيٌّ وفاجر، وناجٍ وخاسر، وسالمٌ وعاثر، فطوبى لمن حفظ نفسه وأولاده، من موجبات السخط والذم، ووسائل الشر والهدم.
أيها الإخوة في الله: ها هي اللَّيالي والأيّام تذهب سِراعًا، والعامُ يطوِي شهورَه تِباعًا، وسنَّةُ الله في كونه قدومٌ وفوات، والله أكرمَ عبادَه فشرعَ لهم مواسِمَ في الدَّهر تُغفَر فيه الذنوبُ والخطِيئات، ويُتَزوَّد فيها من الأعمالِ الصالحات، وفي العامِ شهرٌ هوَ خيرُ الشهور، بعثَ الله فيه رسولَه صلى الله عليه وسلم وأنزل فيه كتابَه، يَرتقِبُه المسلِمون في كلِّ حولٍ وفي نفوسِهم له بهجَة، يُؤدُّون فِيهِ رُكنًا من أركان الإسلام يُفعَل خالِصًا، ويتلذَّذ فيه المسلم جائعًا، يُحقِّق العبدُ فيه معنى الإخلاصِ لينطلقَ به إلى سائرِ العبادات بعيدًا عن الرّياء, ثوابُ صومِه لا حدَّ له من المُضاعفة, بل ذلك إلى الكريم، قال عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" متفق عليه.
الصيامُ يُصلِح النفوس, ويَدفعُ إلى اكتساب المحامد والبُعد عن المفاسد, به تُغفَر الذنوب وتُكفَّر السيئات, قال صلى الله عليه وسلم: "من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه" متفق عليه.
شهرُ الطاعةِ والإحسانِ والمغفرَةِ والرّضوان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخلَ رمضانُ فُتِّحت أبوابُ السماء، وغُلِّقت أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسِلَت الشياطين" متفق عليه.
لياليه مُباركةٌ، فيه ليلةٌ مُضاعَفَةٌ هي أمّ الليالي: ليلة القدر والشرف خيرٌ من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه.
فيه صبرٌ على حمأة الظمَأ ومرارةِ الجوعِ ومُجاهدة النفس في زجرِ الهوى, جَزاؤهم بابٌ من أَبواب الجنة لا يدخُلُه غيرُهم، فيه تذكيرٌ بحالِ الجوعَى من المساكِين والمُقتِرين, يَستَوي فيه المُعدِم والمُوسِر, كلُّهم صائِمٌ لربه مُستغفِرٌ لذنبه, يُمسِكون عن الطعام في زمنٍ واحدٍ ويُفطِرون في وقتٍ واحد, يتساوَوْن طيلةَ نهارهم بالجوع والظمأ؛ ليتحقَّق قولُ الله في الجميع: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92] والقرآنُ العَظيمُ أصلُ الدِّين وآيةُ الرِّسالة نزَلَ في أفضلِ الشّهور, (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1] ونزولُه فيه إيماءٌ لهذه الأمة بالإكثار من تلاوتِه وتدبُّره، وكانَ جبريل عليه السلام ينزل من السماء ويُدارِسُ فيه نبيَّنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلمكاملَ القرآن، وفي العامِ الّذي تُوفِّي فيه عرضَ عليه القرآنَ مرّتين. وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان أقبلَ على تلاوة القرآن وتركَ الحديثَ وأهلَه.
وللصّدقة نفعٌ كبيرٌ في الدّنيا والآخرة؛ فهي تَدفَع البلاء، وتُيسِّر الأمور، وتجلِبُ الرّزقَ، وتُطفِئُ الذّنوب كما يُطفِئُ الماءُ النارَ، وهي ظلٌّ لصاحِبِها يوم القيامَة. والمالُ لا ينقُص بالصدقة؛ بل هو قرضٌ حسنٌ مضمونٌ عند الغنيّ الكريم، (مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]. يُضاعفُه في الدنيا بركةً ونقاءً، ويُجازيه في الآخرة نعيمًا مُقيمًا، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِن يومٍ يُصبِح العبادُ فيه إلا ملَكان ينزِلان، فيقول أحدهما: اللّهمّ أعطِ مُنفِقًا خلَفًا، يقول الآخر: اللّهمّ أعطِ مُمسِكًا تلَفًا".
فتحسَّس دورَ الفقراء والمساكين ومساكنَ الأراملِ والأيتام، ففي ذلك تَفريجُ كُربةٍ لك ودفع بلاءٍ عنك، وإشباعٌ لجائعٍ وفرحةٌ لِصَغير، وإعفافٌ لأُسرةٍ وإغناءٌ عن السّؤال، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان أكرمَ الناس وأجودَهم، إن أنفقَ أجزلَ، وإن منحَ أغدَقَ، وإن أعطَى أَعطى عطاءَ من لا يخشى الفاقَة، وكان يستَقبلُ رمضان بِفَيضٍ من الجُود، ويكون أجودَ بالخير من الريحِ المُرسَلة. والمالُ لا يُبقِيه حرصٌ وشُحٌّ، ولا يُذهِبُه بذلٌ وإنفاق.
ولَيَالي رَمَضَان تاجُ ليالي العام، ودُجاها ثمينةٌ بالعِبادة فيها، قال عليه الصلاة والسلام: "أَفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل" رواه مسلم. ومَن صلَّى مَعَ الإمامِ حتى ينصَرفَ كُتِب له قيامُ ليلة، وفي كلِّ ليلةٍ يُفتَح بابُ إجابةٍ من السماء، وخزائنُ الوهَّاب مَلأى، فَسَل مِن جُودِ الكريم، واطلُب رحمةَ الرّحيم، فرمضانُ شهرُ العطايا والنّفحات والمِنَن والهِبات، وأعجزُ الناسِ من عَجزَ عن الدّعاء.
والأيام صحائفُ الأعمار، والسعيدُ من خلَّدها بأحسَنِ الأعمال، ومن نقلَه اللهُ من ذلِّ المعاصي إلى عزِّ الطاعة أغناه بلا مالٍ، وآنسَه بلا أنيس. وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، ومن عرفَ ربَّه اشتغلَ به عن هوى نفسِه.
وبعضُ الناس أرخصَ لياليَه الثّمينةَ باللهو وما لا نَفعَ فيه، فإذا انقَضَى شهر الصيام ربِح الناسُ وهو الخاسِر، ومنَ الناس من يصومُ وهو لا يُصلِّي، والصّوم لا يُقبل إلا بتوحيدٍ وصلاةٍ.
والمرأةُ مَأمورةٌ بالإكثارِ مِن تلاوة القرآنِ والذكرِ والاستغفارِ، والإكثارِ من نوافِل العباداتِ، وصلاةُ التراويح في بيتِها أفضلُ من أدائِها في المساجِدِ، قال عليه الصلاة والسلام: "وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ" رواه أبو داود. وعليها بالسِّتر والحياء ومراقبةِ ربها في غَيبَة وليِّها وشهودِه، والصّالحةُ مِنهنَّ مَوعودَةٌ برضا ربِّ العالمين عَنها، وتمسُّكها بدِينها واعتزازُها بحجابها، وسِترها يُعلِي شأنَها ويُعزِّزُ مَكانَها، وهي فخرُ المجتمَعِ وتاجُ العفاف وجوهرةُ الحياة.
أيها المسلمون: احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبالون ذماً، وضمنون لا يخافون لوماً، وآمنون لا يعاقَبون يوماً، ومجرمون لا يراعون فطراً ولا صوماً، عدواناً وظلما، جرَّعوا الشباب مسموم الشراب، وما زادهم غير تتبيب، فتهييجٍ وتشبيب، وتدمير وتخريب، مآربُ كانت عِذابا فصارت عَذاباً. فيا من رضي لنفسه سوء المصير، وارتكب أسباب [التضييق] والتحقير، أخسر بها من صفقة، وأقبح بها من رفقة.
يا مطلقي النواظر في محرمات المنظور، ها أنتم في خير الشهور، فحذار حذار من انتهاك حرمته، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أخرجه البخاري يا طليقاً برأي العين وهو أسير، يا مساماً حياضَ الردى وهو ضرير، يا من رضي عن الصفا بالأكدار، وقضى الأسحار في العار والشنار، وكلَّ يوم يقوم عن مثل جيفة حمار، عجباً كيف تجتنب الطريق الواضح، وتسلك مسالك الردى والقبائح؟! ما بال سمعك عليه ستور؟! ما بال بصرك لا يرى النور؟! وأنت في دبور، وغفلة وغرور، وما أنت في ذلك بمعذور. فبادر لحظات الأعمار، واحذر رقدات الأغمار، ولا تكن ممن يقذفون بالغيب من مكان بعيد، إذا قيل لهم: توبوا سوَّفوا ولا مجيب.
أيها المسلمون، مواسمُ الخيرات أيام معدودات، مصيرها الزوال والفوات، فاقصروا عن التقصير في هذا الشهر القصير، وقوموا بشعائره التعبدية، وواجباته الشرعية، وسننه المروية، وآدابه المرعية، و"لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر"، و"فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر"، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات، حسا حسوات من ماء، وكان إذا أفطر صلى الله عليه وسلم قال: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". و"من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه، فإنما أطعمه ربه وسقاه"، ولا كفارة عليه ولا قضاء, فأحسنوا استقبال شهركم وأحسنوا صيامه وقيامه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيه منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون: إن مما يؤسِف الناظر ويُحزن الخاطر ظاهرةً مقيتة وعادة قبيحة سرت في صفوف بعض المسلمين، ألا وهي ظاهرة الإسراف في المآكل والمشارب في شهر رمضان، زيادة على قدر الحاجة، وإكثار على مقدار الكفاية، نهمٌ مُعِرّ، وشرهٌ مضرٌّ، بطنةٌ مورثة للأسقام، مفسدة للأفهام، وبطر وأشر، حمل الكثير إلى رمي ما زاد من الأكل والزاد في النفايات والزبالات مع المهملات والقاذورات، في حين أن هناك أكباداً جائعة وأُسرًا ضائعة تبحث عما يسدّ جوعَها ويسكِّن ظمأها.
فاتقوا الله عباد الله، فما هكذا تُشكر النعم، وتستدفَع النقم، (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26، 27], وتوسطوا فالتوسط محمود، وأنفقوا باعتدال، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29], ولا خير في السرف، ولا سرف في الخير، قال جل في علاه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
أيها الأحبة في الله، بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه صدرَ النهار إذ جاءه قوم حفاة عراة، مجتابو العَبَاءِ, متقلّدو السيوف, فتمعّر وجهه صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة, فدخل بيته ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال بعد أن حمد الله وأوصى بتقواه, "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره" حتى قال: "ولو بشقِّ تمرة"، قال الراوي: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفه تعجَز عنها، بل قد عجَزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كَومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مُذهَبة، فقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عمل بها مِن بعدِه من غير أن يَنقُصَ من أوزارهم شيء" أخرجه مسلم.
كومان من طعام وثياب أرهصهما مشهد قوم لم يُشرفوا بعدُ على الموت, ولا أكل الجوعُ أجسادهم, فقد كانت لهم بقية من قوةٍ أطاقوا بها أن يتقلدوا السيوف, وأن يقدموا المدينة من شُقّة بعيدة, إنما ظهرت عليهم أمارةُ الفاقة والبؤس فحسب, غير أن ذلك كان كافيًا لأنْ تُعلن حالةُ الطوارئ والاستنفار في المدينة, فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ثم يخرج, ويُجمع الصحابة, ويخطب فيهم صلى الله عليه وسلم خطبةً ليست بخطبة الجمعة, فيأمرهم بتقوى الله, ويذكّرهم بوشيجة الإيمان, ويحثهم على الصدقة, فيتتابعُ الناس يلقون بصدقاتهم بين يديه صلى الله عليه وسلم، فيذهب الحزن والتمعر عن وجهه الطاهر, وينقلب كأنه مُذهبة رضًا بصنيع أصحابه .
هذا ما فعله المشهدُ بمجتمع المدينة, أثارَ في النفوس مشاعرَ الحزن والرحمة, ثم سُرعان ما تبدلت إلى مشاعر رضًا وارتياح ؛ لأنها كانت مشاعر إيجابية, تُفجِّر طاقاتِ الخير الكامنةَ, وتحولها إلى أعمال مثمرةٍ تُغيّر الواقع, وتُحِلّ الفرح والرضا محل الحزن والألم .
بدأت رابطة المرحمة بالألم والحزن لمشهد الفاقة, وانتهت بكومين من طعام وثياب, وبُشرى من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم للمبادرين بالإحسان. تلك هي المشاعر الصادقة وقرت في القلب وصدّقتها الأعمال, أصلها ثابت في القلب وفرعها ممتد بأيدٍ نديةٍ بالرحمة والإحسان, وحيثما تكن الفاقة فحبل الإحسان إليها ممدود.
فما عسانا نفعل ونحن نرى هذه الأيام التي نستقبل فيها رمضان بالزحام الشديد والإقبال الكبير على شراء المواد الغذائية واللحوم والخضار وغيرها, وكأننا محرومون منها طوال العام! ما بالنا ونحن نرى مشاهد مبكية لإخواننا المسلمين في الصومال ؟! أنهكهم الفقر، وأسلمتهم المجاعةُ إلى الموت، يفري فيهم فريًا, فمنهم من قضى نحبه وليس به من بأس إلا الجوعُ, ومنهم من ينتظر ليس بينه وبين الموت إلا رمقات يسيرة, فشبح الموت جاثمٌ في بدنه الهزيل, يدفعه ـ بإذن الله ـ طعام يسير يُشبع جوعته ويسد رمقه.
صور المأساة مشاهد مبكية مؤلمة, يرق لها كل قلبٍ, حتى كشفت المفوضية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن مائة ألف صومالي فروا إلى العاصمة مقديشو خلال شهرين هرباً من شبح المجاعة بمناطق جنوب البلاد, ويواجه نحو أربعة ملايين في الصومال وحده خطر المجاعة من بين 12 مليون بالقرن الإفريقي وفق أرقام منظمات اغاثية, وتقدر تعرض 3,7 ملايين شخص لخطر المجاعة في الصومال, وهو ما يشكل نحو ثلث السكان, وفي تطور يدل على حجم الكارثة يقول مسؤلو إغاثة بأن أمهات صوماليات يائسات يتركن أطفالهن المحتضرين على جوانب الطرق ليلقوا حتفهم خلال توجههن إلى مراكز الغذاء الطارئة, والنساء والأطفال من أكثر الأشخاص تأثراً بأزمة الجفاف, حتى أصيب كثير من الأطفال بالإمراض المعدية كالحصبة والإسهال وفقر الدم وسوء التغذية المؤدي بهم إلى الموت لأنهم لا يجدون علاجاً ولا غذاءً!!
فمن ذا يترجم مشاعرَ الرحمة والشفقةِ إلى أعمال إيمانية تسهم في رفع المعاناة, وتُحيي نفوسًا مؤمنة قد أشرفت على الموت ؟! فهي منه قاب قوسين أو أدنى, ومن أحيا نفسًا محترمة فكأنما أحيا الناس جميعًا, وأحق النفوس بالحياة والإحياء هي نفسُ المسلم, فهي أكرم النفوس عند باريها . وإحياء النفس المؤمنة في الصومال شرفٌ يستطيعه كل أحد.
الصومال ! دولة إسلامية, لا تواجه أزمة مجاعة فحسب, بل تعاني ومنذ عقدين من الزمن أزمات إنسانية وسياسية ودينية, ومن العار علينا كمسلمين أن تسبقنا إلى إغاثة إخواننا هناك منظماتٌ تنصيرية أو إنسانيةٌ من بلاد كافرة, وهل يكون الكافر أقربَ وشيجةً إلى المسلم من أخيه المسلم؟! وهل يرضى المسلم لأخيه الملهوف أن تطعمَه منظماتٌ تنصيرية لتُنَصِّرَه وتضلَّه عن سبيل الله؟! من ذا من المسلمين يرضى أن ينوبه كافرٌ في إطعام أخيه وإغاثته؟!
وأعظم العار في هذا أن تجودَ بعضُ الدول الإسلاميةِ بمئاتِ الملايين لأغنى دولة في العالم مواساة لها في كارثتها, ثم تبخل بعُشر معشارِ ذلك على جوعى المسلمين في الصومال!! أما إنه لخزيٌ وعارٌ ذلك العطاء السخي لو لم يكن في المسلمين ملهوفٌ جائع، فكيف ومئات الآلاف منهم مهددون بالموت جوعًا؟! كيف وهم إخوتنا وأحق الناس بمواساتِنا وصدقاتِنا؟!.
أيها الأحبة في الله: هناك في أرض الصومال يُطفَأ غضبُ الربِّ سبحانه, وبين أيدي جوعاها تُلتمس رحمةُ الرحمن الرحيم, فــــ "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء".
هناك في أرض المجاعة والفاقة والجفافِ والبُور تجارةٌ مأمونة لا تبور, أرباحها مضاعفة مضمونة, وخسارتها مأمونة. إنها التجارة مع الله, وبمالٍ هو له جعلنا مستخلفين فيه, أعطانا إياه لنقرضه بعضه, فينمِّيه لنا ويُرْبيه, وإنما المال مال الله يضعه حيث شاء, فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء, (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد: 7].
أيها المحسنون: لنتذكر أن ما ننفقه في سبيل الله هو الذي يبقى لنا، وأن ما نُبقيه وندّخرُه فإنما ندخرُه لغيرنا, "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك - يا ابنَ آدم - من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدّقتَ فأمضيت؟!" رواه مسلم، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟" قالوا: ما منا أحدٌ إلا مالُه أحبُّ إليه، فقال: "فإن مالَه ما قدَّم، ومالَ وارثِه ما أخَّر" رواه البخاري، وفي الصحيحين: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا"، ويصدق ذلك قوله جل جلاله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) [سبأ: 39].
اللهم يا كاشف الهم ويا فارج الغم اكشف ما بإخواننا في الصومال, اللهم ارحم ضعفهم وعجزهم وفقرهم وجوعهم, اللهم أغثهم بغيثك العميم, واشف اللهم مرضاهم وكن لأطفالهم ونسائهم وضعفائهم, اللهم ..
التعليقات