عناصر الخطبة
1/ حقيقة الاستعانة ومعناها 2/ حث الأنبياء أقوامهم على الاستعانة بالله 3/ ثمرة إفراد الله بالاستعانة دون سواه وحاجة العبد إليها 4/ أهمية الاستعانة بالله 5/ حاجة النفس إلى التربية على الاستعانة بالله 6/ مقامات الناس في الاستعانة 7/ آثار الاستعانة بالله والاستعانة بغيره 7/ معينات استعانة العبد بربه ومولاه 8/ الاستعانة بالله المخرج من المصائب والآلام 9/ لا حزن مع الاستعانة بالله.اقتباس
إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا على الاستعانة بالله والاعتماد علي الله والثقة به وبذل المستطاع من الأسباب المادية والشرعية لتستقيم أحوالنا وتفرج همومنا وتدفع عنا البلايا والمصائب والفتن، ذلك أنه لما ضعف التوكل على الله وقع عدد من المسلمين في الشرك و لجأ كثير من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفرد بالعز والجلال، وتوحد بالكبرياء والكمال، وجلّ عن الأشباه والأشكال؛ أذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه وهو الخالق المتعال، وأشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له له الملك, وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، وعلي آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه، ومن اتبعهم بإحسان إلي يوم الدين، أما بعـــد:
أيها المؤمنون: عباد الله: الاستعانة بالله تحقيق للتوحيد، و عصمة للقلب، وملاذ للنفس، وطمأنينة للفؤاد، ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أحفظ ولا أسلم للمؤمن من الاستعانة بالواحد الأحد -جل وعلا-؛ فهل يُهْزم من استعان به؟ وهل يخاف من لجأ إلى محرابه؟ وهل يحرم من انطرح على أعتابه؟.
إن الاستعانة بالله -جل وعلا- حفظ للمرء، وصيانة للنفس، وحماية للدين، وأمنٌ من المخاوف، وضمان من المخاطر، ونجاة من المهالك، ونصرة على الأعداء، وحرز من الشيطان، ولذلك كانت بالاستعانة بالله من أجل العبادات وأعظمها وأكثرها أثراً وتوفيقاً.
والاستعانة بالله معناها طلب العون من الله -تعالى-, المتضمن لكمال الذل من العبد لربه -سبحانه-، وتفويض الأمر إليه وحده، واعتقاد كفايته.
وقد أمر الأنبياءُ أقوامهم بالاستعانة بالله وحده, قال-سبحانه-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128], وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستعانة بالله وحده؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا استعنت فاستعن بالله" (رواه الترمذي).
قال الصنعاني -رحمه الله-: "وَقَوْلُهُ: "إذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ" مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]؛ أَيْ نُفْرِدُك بِالِاسْتِعَانَةِ, أَمَرَهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ أَيْ إفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ.
وَفِي إفْرَادِهِ -تعالى- بِالِاسْتِعَانَةِ فَائِدَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إلَّا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ؛ فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ؛ فَهُوَ الْمَخْذُولُ, وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ", وَعَلَّمَ -صلى الله عليه وسلم- الْعِبَادَ أَنْ يَقُولُوا فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ".
فَالْعَبْدُ أَحْوَجُ إلَى مَوْلَاهُ فِي طَلَبِ إعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ, قَالَ سَيِّدَنَا يَعْقُوبُ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]".
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "بقدر ما يركن الشخص إلى غير الله -تعالى-, بطلبه, أو بقلبه, أو بأمله؛ فقد أعرض عن ربه إلى من لا يضره ولا ينفعه".
معاشر المسلمين: ولعظم هذه العبادة وأهميتها؛ فإن الله أفردها من بين سائر العبادات, وتعبد المسلم بها في كل ركعةٍ يصليها؛ فإنه يقرأ قوله -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ), وفي هذه الآية اجتمع أمران عظيمان عليهما مدار العبودية؛ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تبرؤ من الشرك, (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تبرؤ من الحول والقوة، وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر؛ فالمعنى لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك, قال ابن تيمية -رحمه الله-: "تأملت أنفع الدعاء؛ فإذا هو سؤال العون على مرضاته, ثم تأملته فرأيته في الفاتحة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)".
فالعبادة هي الغاية التي خلق الناس لأجلها, والاستعانة هي الوسيلة إليها؛ فإذا لم يعن الله عبده على طاعته, ولم يطلب العبد إعانته على ذلك؛ لا تحصل منه تمام العبادة, ولذلك علَّم النبي -عليه الصلاة والسلام- معاذاً دعاءً يحافظ عليه بعد كل صلاة مكتوبة, يطلب العون من ربه في أداء عبادته؛ فعنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ" فَقَالَ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ؛ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (رواه أَبُو داود والنسائي وأحمد).
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وأما الاستعانة بالله -عز وجل- دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره, ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله -عز وجل-؛ فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول, وهذا تحقيق معنى قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله, وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة, فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات, وترك المحظورات, والصبر على المقدورات, كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة, ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله -عز وجل-, فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه" (جامع العلوم والحكم لابن رجب).
وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز" (أَخْرَجَهُ مُسْلِم), يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب؛ فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله -تعالى-؛ فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله -عزّ وجلّ-.
عبـاد الله: إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تربية أنفسنا على الاستعانة بالله والثقة به والتوكل عليه لنحقق العبودية الحقة لله وكمال الإيمان به -سبحانه وتعالى- القائل:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال4-3:].
إننا بحاجة إلى تربية أنفسنا على الاستعانة بالله والاعتماد علي الله والثقة به وبذل المستطاع من الأسباب المادية والشرعية لتستقيم أحوالنا وتفرج همومنا وتدفع عنا البلايا والمصائب والفتن، ذلك أنه لما ضعف التوكل على الله وقع عدد من المسلمين في الشرك و لجأ كثير من الناس إلى ارتكاب المحرمات والموبقات لتأمين متطلباتهم وتوفير حاجياتهم وتحقيق رغباتهم؛ فسفكت الدماء وضيعت الأمانات وظهر الغش والجشع وحلت الشحناء والبغضاء بين الناس وباع الرجل دينه بعرض من الدنيا قليل وسكت كثير من الناس عن قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فظنوا وهم في حالة ضعف أن الرزق والأجل يمكن أن يتحكم بهما أحدُ من البشر وأرضى الناس المخلوق بضعفه وفقره وحاجته ونسوا الخالق -سبحانه- بقوته وقدرته وسعة ملكه.
قال الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 41].
وقال شقيق البلخي: لكل واحد مقام؛ فمتوكل على ماله، ومتوكل على نفسه، ومتوكل على لسانه، ومتوكل على سيفه، ومتوكل على سلطانه، ومتوكل على الله؛ بل ظهر القلق والخوف والهلع في حياة الناس على الحاضر والمستقبل والطعام والشراب والأولاد والوظيفة والمال والغنى والفقر والصحة والمرض بسبب ضعف الاستعانة بالله والتوكل عليه؛ لأن قلوبهم لم تتصل بالله ولم تعتمد عليه فضاقت النفوس وتكدرت الأحوال ولم يصل المرء إلى غايته ومبتغاه فخسر دينه ودنياه وآخرته.
لقد نسي هؤلاء أن الله هو الذي بيده الموت والحياة، وكل شيء عنده بمقدار وأنه كتب الآجال وقدر الأقدار وحكم بين العباد ولا يجري في هذا الكون أمر؛ إلا بإرادته ومشيئته وعنده علم الغيب لا ينازعه فيه أحد، قال تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]؛ قَالَ رَجُلٌ لِمَعْرُوفٍ الكرخي: أَوْصِنِي، قَالَ: "تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَكُونَ جَلِيسَكَ وَأَنِيسَكَ، وَمَوْضِعَ شَكْوَاكَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَكَ جَلِيسٌ غَيْرُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّفَاءَ لِمَا نَزَلَ بِكَ كِتْمَانُهُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَعُونَكَ وَلَا يَضُرُّونَكَ، وَلَا يُعْطُونَكَ وَلَا يَمْنَعُونَكَ" (التوكل لابن أبي الدنيا).
ومن ترك الاستعانة بالله العظيم ذي الجمال والجلال, والكبرياء والعظمة, والجبروت والملكوت, واستعان بغيره من المخلوقات العاجزة الضعيفة؛ وكله الله إلى من استعان به؛ فصار مخذولا, قال الشاعر:
إن لم يكن عونٌ من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده
روي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ماذا تصنع إذا سول لك الشيطان الخطايا؟ قال أجاهده، قال هذا يطول، أرأيت إن مررت بغنم؛ فنبحك كلبها، ومنعك من العبور ماذا تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: هذا يطول عليك، لكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك، إذا أردت التخلص من الشيطان ووسوسته؛ فاستعن بخالقه يكفه عنك ويحميك.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "لا تستعن بغير الله؛ فيكلك الله إليه", ومن كلام بعض السلف: "يا رب! عجبت لمن يعرفك؛ كيف يستعين بغيرك؟!".
أيها المؤمنون: لقد اقترنت الاستعانة في القرآن الكريم بركن من أركان الإسلام؛ فقرن بينها وبين الصلاة؛ فكانت صفة الصبر ملازمة مع الصلاة في موضعين من مواضع وعظ الله تعالى وتوجيهه لعباده المؤمنين، فقال الله -عز وجل: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].
اللَّهُمَّ أَعِنِّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبـاد الله: فكم نحن بحاجة إلى الاستعانة بالله، للخروج من الفتن، وإصلاح الأوضاع، والنصر على الأعداء، ودفع الخطوب والمكاره، وكم نحن بحاجة للاستعانة بالله، في دفع الهموم والأحزان؛ فإذا أصابَ الإنسان حزن تجِد السرّور ليسَ لَه سبيلا إليه والبؤس على وجهِه؛ فينعزِل عنِ النّاس، وتكونُ الكَآبة فراشِه والهمّ سمائه؛ فلِمَاذا كلّ هذا ؟!!.
صحيح أنّ من طَبيعَة الإنسانِ أن يَحزَن إذا أصابتهُ مُصيبَة، ولكِنَّ المؤمِن لا يجعَل الحَزَن يتمَلّكهُ، بل يُفوِّض أمرَهُ إلى الله ويستعين به ويعلَمُ عِلمَ اليَقين أنّ الله عليمٌ حَكيم له في كلّ أمرٍ حِكمة وأنّ قدرُ اللهِ كلّه خير وأنّ اليسر آتٍ بعدَ عُسر، قال تعالى: (فإنّ معَ العُسرِ يُسرا * إنّ معَ العُسرِ يُسرا) [الشرح5-6]، وقال -سبحانه-: (وعسَى أن تكرهوا شيئًا وهُوَ خيرٌ لَكُم وعسَى أن تُحِبُّوا شيئًا وهُو شرٌ لَكُم واللهُ يعلَمُ وأنتُم لا تعلمون) [البقرة: 216]؛ فإذا مرَّت عليهِ الآيات وأحاديث رسولِ الله اطمأنَّ قلبه، وزاح همّه.
فيَا مَن أصَابتهُ الهُموم، وأظلّتهُ الغُيوم، اعلَم أنَّ الحَزَنَ مذموم، ولهذا لم يأْمر الله به في موضع قط ولا أَثنى عليه، بل جاءَ نهيٌ عنه في غيرِ موضع؛ فقالَ اللهُ تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آلَ عِمران: 139]، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا) [التّوبة: 40].
عباد الله: الحزن والهموم بلية من البلايا التي نسأَل الله دفعها وكشفها لذلِك يقولُ أهل الجنّة: (الحمدُ للهِ الذي أذهَبَ عَنَّا الحزَن) [فاطِر: 34].
وقد كانَ رسول اللهِ -صلّى اللهُ علَيهِ وسَلّم- يتعوّذ من الهَمِّ والحَزَن؛ فاتّخِذ من رسولِ اللهِ قُدوة وادعُ بما دعا صباحًا ومساءًا؛ فقد كان يقول: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال".
والهمّ والحزَن قرينَان وكلاهُما ألمٌ للقَلب؛ فالحَزَن: هو الألم النّاتـــج على مـا مضى، والهــمّ: هو الألَم النّاتج من خوفٍ على ما يُستَقبَل؛ فكُن على علمٍ أنّ ما مضَى؛ فقد مَضى ولن تملِكَ الرّجوع إليه وتغييره، والمُستقبَل؛ فهُو في علمِ الغيب لا يعلَمه إلّا الله فتوكّل عليه وثق بالله، وعِش يومَك و اسعَ فيه ولا يستوقِفَك حزن الماضي أو همّ المستقبَل.
واعلَم يا عبدالله: أنه لا حزن على دُنيَا إن كانَ اللهُ معك، واستعنت به على سائر أمورك، وقولُ اللهِ تعالى حكايةً عن نبيِّه (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا)
فدلَّ أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه؛ فما له وللحزن، رأى إبراهيم بن أدم رجلا مهموما
فقال له: أيها الرجل إني أسألك عن ثلاث تجيبني، قال الرجل: نعم
فقال له إبراهيم بن أدهم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟
قال: كلا، قال إبراهيم: أفينقص من رزقك شيء قدره الله لك؟
قال: لا.. قال إبراهيم: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله في الحياة؟
قال: كلا .. فقال له إبراهيم بن أدم: فعلام الحزن يا رجُل؟!!
وها أنَا أُجدِّد السّؤال لكلِّ مَهمومٍ حزِين.
علامَ الحزن؟!!
يقول الإمام الشّافعي -رحمه الله-:
سهرت أعيـن، ونامـت عيون ***في أمور تكون أو لا تكون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفس***فحملانك الهموم جـنـون
إن ربـاً كفـاك بالأمس ما كان ***سيكفيك في غـدٍ ما يكون
فاستعينوا يا عباد الله: على أنفسكم وتقصيرها بالله، والتزموا أمره وأدوا فرائضه، واستعينوا على أموركم وأحوالكم بالله، واستعينوا بالله في صلاح الأولاد وجلب الأرزاق، واستعينوا على نوائب الدهر وفتن الزمان وتقلبات الأحوال بالله؛ يجعل لكم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل عسر يسرا، واصبروا في مرضات الله و على طاعاته، واثبتوا على الحق مهما قل السالكين طريقه، ولا يغرنكم هول الباطل وضجيجه وادفعوه بما استطعتم من أسباب؛ فإنه إلى زوال قال- سبحانه-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].
فاللهم يا موضع كل شكوى! ويا سامع كل نجوى! ويا شاهد كل بلوى! يا عالم كل خفية! ويا كاشف كل بلية! يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين! ندعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت قوته، وقلّت حيلته، دعاء الغرباء المضطرين، الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين! اكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان، واحفظ بلادنا واحقن دمائنا وردنا إلى دينك رداً جميلا.
اللهم بك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا؛ فاغفر لنا وارحمنا، وأنت أرحم الراحمين.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
التعليقات