اقتباس
وهكذا فاصنع -أيها الخطيب- مع كل حامل لمعتقد باطل، فمن جاءك زاعمًا أن صاحب الضريح يرى ويُحسُّ بما حوله، أو أنه يُسَيِّر الأحداث! فقل له: فلماذا مات وقُبِر ولم يدفع عن نفسه؟! ولما هو عاجز؛ لا يستطيع القيام من لحده؟! ولما لا يمد يده فيصافح من جاءه زائرًا أو راجيًا! أيُسيِّر أمر الكون ولا يستطيع حتى النهوض من مرقده؟!
يعيش كثير من الناس وهم يحملون في طيات عقولهم وفي جنبات فؤادهم اعتقادات خاطئة وأوهامًا خادعة وقناعات مستقرة راسخة، يعتبرونها بديهيات وحقائق لا مراء فيها وهي في الواقع ترهات لا أساس لها! ويعدُّونها مسلَّمات وهي مغالطات! قد صاحبوها وصاحبتهم عمرًا حتى صارت جزءًا من كيانهم، يدافعون عنها دفاع الغيور عن عرضه أو دينه، بل يعدونها من أصول الدين وأساساته، وهي دخيلة عليه وغريبة عنه!
وربما جعل بعضهم من آية أو حديث سندًا لخرافته؛ فها هم اليهود والنصارى أهل كتاب؛ وليسوا كفارًا، بدليل أن الله خاطبهم في القرآن اثنتي عشرة مرة بقوله -تعالى-: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ)! وغفلوا أن الله -تعالى- وَسَـمَهم بالكفر مرارًا، فقال: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 70-71]، وقال -عز من قائل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30]...
والحلف بغير الله كالنبي أو الولي أو الأب... مباح جائز، بدليل حلف الله -تعالى- بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر: 72]! وحلفه -عز وجل- بالتين والزيتون والفجر والضحى والقلم... فقاسوا أنفسهم على الجليل -عز وجل-! ولله أن يقسم بما شاء، لا يُسأل عما يفعل.
ويعتقد البعض ويؤمن أنه "في كل يوم جمعة ساعة نحس"! وما دروا أنه "خير يوم طلعت عليه الشمس"([1])، وأن فيه ساعة إجابة "لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله -تعالى- شيئًا، إلا أعطاه إياه"([2])، وليست ساعة نحس!... ومن القناعات الباطلة: التشاؤم بشيء معين، ومنها الفهم الخاطئ للاستمتاع بالشباب... وألف قناعة باطلة لن تبذل كثير جهد لتحصيها في رواد مسجدك.
وهؤلاء الناس -الذين يحملون قناعات مغلوطة- يختلفون، وتختلف طبائعهم وأغراضهم وشخصياتهم ومواقفهم؛ فمنهم الجاهل الذي ينبغي أن يُعلَّم، ومنهم المعاند الذي يجب أن يُروَّض، ومنهم المقتنع بخطأ ما المؤمن به الذي يعتبره كبد الحقيقة وعين الصواب، وفي هذا المقال نحاول أن نقدِّم استراتيجية لزلزلة تلك القناعات الفاسدة التي علقت بالعقول وبالقلوب ليسهل هدمها ثم إزالتها... ويتلخص ذلك في الأساليب التالية:
الأسلوب الأول: تشكيكه في معتقداته:
فما دامت تلك القناعة مستقرة منذ زمان في قلبه فلن تنجح -أيها الخطيب- في تخليصه منها ما لم تشككه أولًا في صحتها، وهو منهج استقيناه من القرآن حين يقول مشككًا المشركين في قدرات آلهتهم: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 34-35]، فمن لا يخلق ولا يهدي لا يستحق أن يُعْبَد.
وهنا يوجِّه الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع مع قومه نفس هذا المنهج؛ منهج "التشكيك في القناعات الفاسدة" آمرًا إياه أن يقول: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر: 38]؛ إنهم عاجزون عن جميع ذلك، والعاجز لا يكون إلهًا!
وهذه المرة يشككهم القرآن في إمكانية سماع آلهتهم لهم أو دفاعها عنهم، فيقول: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) [الأحقاف: 5-6]، وعندها ينبت الشك في قلوبهم: ماذا لو كان حالهم كذلك! فيا خيبتهم -إذن- ويا ضياع عبادتهم!
فلتنتهج -أيها الخطيب- نفس هذا المنهج؛ لتشكك صاحب القناعة الفاسدة في قناعته، فلتقل لمن يعتقد نفع المشعوذ والساحر: "إن كان يملك النفع فلما لم ينفع نفسه؟! لماذا هو فقيرٌ حالته بؤس وضنك! ولماذا لا يدفع عن نفسه المرض والهرم؟!".
وقل لمن يؤمن برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة في الدنيا: هل رأيته أنت؟! ولما لا يدعي رؤيته -صلى الله عليه وسلم- يقظة إلا أقطاب جماعة بعينها دون سواهم من البشر؟! وإن حصل ذلك فلما فُتح الباب لاجتهاد العلماء إن كان بالإمكان سؤاله -صلى الله عليه وسلم- يقظة عما يشكل علينا؟!
الأسلوب الثاني: التساؤل التقريري والتهكمي:
لعلك جربت -أخي الخطيب- وأنت صغير أنك قد أخطأت خطأً، فأجلسك والدك مُسائلًا إياك أسئلة ما يقصد بها إلا أن يستخرج منك اعترافًا بخطئك، وتلك هي الأسئلة التقريرية، أو يقصد بها التوبيخ التأديبي وإشعارك بالخطأ كي لا تعود إليه، وتلك هي الأسئلة التهكمية.
وقد استخدم رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- كلا النوعيين من الأسئلة في جدالهم مع أقوامهم وفي استخراج ما استقر في عقولهم من معتقدات خاطئة، فها هو الخليل إبراهيم يُسائل قومه عن أصنامهم قائلًا: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء: 72]، والإجابة المنطقية: إنها أحجار لا تسمع ولا تعقل ولا تنفع ولا تضر، ومن كان هكذا فليس أهلًا للعبادة!
وهو نفس ما فعله نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع النصارى، فعن الربيع بن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للنصارى حين ادعوا أن عيسى ابن الله: "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟" قالوا: بلى! قال: "ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟" قالوا: بلى! قال: "ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه؟" قالوا: بلى! قال: "فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟" قالوا: لا! قال: "أفلستم تعلمون أن الله -عز وجل- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟" قالوا: بلى!
قال: "فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟" قالوا: لا! قال: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟" قالوا: بلى! قال: "ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟" قالوا: بلى! قال: "ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام، ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟" قالوا: بلى! قال: "فكيف يكون هذا كما زعمتم؟" قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا([3]).
فقد جاءوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعندهم معتقد راسخ في قلوبهم أن عيسى هو ابن الله -حاشا لله- فاستخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم أسلوب التساؤل التقريري، فكانت النتيجة أن أدركوا أن عيسى لا يملك شيئًا من صفات الألوهية التي كان ينبغي أن يحمل منها قدرًا كبيرًا؛ باعتباره "ابن الله"! تعالى الله عما يشركون.
ولعل هذه الواقعة كانت أمام عيني ابن القيم وهو يكتب قصيدته التي فنَّد فيها جميع حجج من يعبدون المسيح -عليه السلام- مبينًا تهافتها وتفاهتها في أسئلة تهكمية قائلًا:
أعُـــــبَّـــــــــاد الـــمــــســــيـح لنا ســــــــــؤال *** نـــــــــريـــد جـــــــــوابــه مـمـــــن وعـــــــــاه
إذا مـــات الإلـــــه بــــصــنــــع قـــــــــــــوم *** أمـــــــــــاتــــــــوه فــــــمـــــــــــــا هــذا الإله؟
وهــــــل أرضـــاه ما نـــالــــــــــوه مــــنـــــه؟ *** فـــــبـــــــشـــــــراهــــــم إذا نـالــوا رضــــاه
وإن ســـخــــط الــــذى فــــعـــــلوه فيه *** فــــقــــــوتـهـــــــم إذا أوهـــــت قــــــــــواه
وهــــل بــقــي الــوجــــــــــــــود بـــلا إلـــه *** سـمـــيـع يستـجــيـب لـمن دعاه؟
وهل خلت الطباق السبـــــــع لـمــا *** ثـــــوى تـحت التراب، وقد علاه
وهـــــل خـــلــــت العــــــــوالـم مـــن إله *** يـــــدبــــــرهــا، وقـــد سـمرت يداه؟
وكيف تـخـــلت الأمــــــــلاك عـــنـــــه *** بــنـــصــرهـــــــــم، وقد سمعوا بكـاه؟
وكيف أطاقت الخشبات حمل الـ *** إله الـحـــــــــق مــــشدودًا قـــــفـــــــاه؟
وكيف دنــــا الـحــــديــد إلـيـــه حتى *** يـخـــــالــــطــــــــه ويــــلــــــحـقـــــه أذاه؟
وكيف تـمــكــنــــت أيـــدى عــــداه *** وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟
وهــــــل عــــــــاد الـمسيح إلى حياة *** أم الـمــــــحـيـي لــــــه رب ســـــــــواه؟
ويـــــا عــــجــــبًا لــــقــــبر ضــــم ربًــــــــا *** وأعـــجـــب مــنــه بــطن قد حواه!
أقـــام هـــنـــاك تسعًا مـــن شـــهــور *** لدى الظلمات من حيض غذاه
وشــــــق الـــفــــرج مـــولـــــودًا صغيرًا *** ضـــعــــيــــــفًا فـــاتــحًــا للــثــدي فـــــاه
ويــــأكل، ثـم يـــــشرب، ثم يأتي *** بلازم ذاك، هــــــــل هـــــــــــــذا إلـه؟!
تعالى الله عــــــــن إفك النصارى *** ســــــيــــــسـأل كـــلـــهــــم عمـا افــتــراه
أعُـــــبَّـــــــــاد الصليب: لأى معنى *** يُعـــــظَّـــــم أو يُقبَّـــــــــح مـــــن رمــاه؟
وهل تقضى العقول بغير كسر *** وإحــــــــراق لــــــــــــــــــه، ولـمن بغاه؟
إذا ركـــــــــــــــب الإلــــه عليه كرهًا *** وقــــــد شُـــــــــــــــدت لتســـمير يداه
فــــــذاك الـمركب الـملعون حقًا *** فــــدســـه، لا تـــبــــــســـــــه إذ تـــراه
يُـــهـــــــان عليـه رب الـخلق طرًا *** وتعبده؟! فـــــإنــــك مـــــن عـــداه
فإن عــــظَّمته مـــن أجل أن قد *** حــــوى رب العباد، وقد علاه
فــــــهـــــــــلا للقبور سجدت طرًا *** لـــضــم الـــقــبر ربك في حشاه؟
فـيـا عــبـد الـمسيح أفق، فهـذا *** بـــدايـــتــــه، وهــــذا مـــنـــتــهــاه([4]).
وقد بلغ ابن القيم في تساؤلاته تلك قمة الروعة والإفصاح؛ فقد فنَّد مزاعمهم وقناعاتهم الباطلة وزلزلها من جميع جوانبها، من خلال أسئلة تقريرية وتهكمية أبطل كل واحد منها عقيدة من عقائدهم، بحيث لم يبق لشبههم معنى ولا قيمة.
وهكذا فاصنع -أيها الخطيب- مع كل حامل لمعتقد باطل، فمن جاءك زاعمًا أن صاحب الضريح يرى ويُحسُّ بما حوله، أو أنه يُسَيِّر الأحداث! فقل له: فلماذا مات وقُبِر ولم يدفع عن نفسه؟! ولما هو عاجز؛ لا يستطيع القيام من لحده؟! ولما لا يمد يده فيصافح من جاءه زائرًا أو راجيًا! أيُسيِّر أمر الكون ولا يستطيع حتى النهوض من مرقده؟!
وقل للقائل بتناسخ الأرواح متهكمًا: تُرى في أي جسد كانت روحك قبل أن تأتيك؛ لئن كانت في جسد كافر فكيف أصبحت مؤمنة؟! وإن كانت لمرابٍ فاسق فكيف تحولت إلى تقية صالحة؟! وما مدة صلاحية تلك الروح؛ ألجسد واحد أم لاثنين؟! وإن علمتَ بانتقال الروح من جسد إلى جسد، فتُراك تدرك ما هي صورتها؛ أغازية أم سائلة أم صلبة؟! وأين مكانها في الجسد أفي القلب أم في القدم...؟! لئن علمت ذلك، فلأنت أعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال له ربه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الاسراء: 85]؛ فلم يخبره بكنهها! وإن لم تعلمه فكيف -إذن- تقول بتناسخها؟! وما دليلك على تنقُّلِها؟!
الأسلوب الثالث: تصحيح المعايير:
قد تترسخ في الذهن قناعة خاطئة، ويكون سبب ترسخها هو خلل في المقاييس والمعايير التي يزن بها المرء الأمور، والحل ها هنا سهل؛ وهو أن تصحح -أخي الخطيب- للمخطئ مقاييسه ومعاييره لتكون منضبطة بضابط الشرع، وبالمثال يتضح المقال:
يروي سهل بن سعد أن رجلًا مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -صلى الله عليه وسلم- لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟" فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيك في هذا؟" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"([5]).
لقد اختلطت المعايير على الرجل؛ فظن أن مقياس الأفضلية هو الغنى والجاه، فصحح له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، ووضَّح له أن معيار قياس الناس عندنا يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، ولقد وعى المسلمون هذا المعيار حتى قال عبيد بن عمير مُعبِّرًا عنه: "يؤتى بالرجل الطويل العظيم يوم القيامة، فيوضع في الميزان، فلا يزن عند الله جناح بعوضة وقرأ: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105]"([6]).
فاصنع -أيها الخطيب- كما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن جاءك من ظن أن مداراة الفاسقين من النفاق، فهو يتوقح معهم ويسيء معاملتهم فيقع في المتاعب؛ لئلا يقع -طبقًا لاعتقاده الخاطئ- في النفاق! فقل له: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة"، فلما دخل ألان له الكلام، فقالت عائشة: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟! قال: "أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس، اتقاء فحشه"([7])، فالمعيار الجديد يقول: إن التلطف مع الفاسق؛ اتقاءً لشره، يسمى: "مداراةً" مباحة، لا نفاقًا.
وقل لمن ظن الحياء يجلب الشر: قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء لا يأتي إلا بخير"([8])؛ فعلِّمه معيار الشرع بدلًا من معايير الناس...
وقل لمن يعدُّ الموت في سبيل الله "خسائر بشرية": بل هم شهداء "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل"([9])؛ فأعطه ميزان الآخرة بدلًا من ميزان الدنيا... وقل لمن يعتبر الزكاة غُرمًا: بل هي نماء وطهارة، قال الله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103]... فأعطه بالمعيار معيارًا، وبالمقياس مقياسًا... فإذا صلحت معاييره ومقاييسه استقام لك عقله وقلبه...
الأسلوب الرابع: المجابهة بحقيقة صادمة:
قد يقتنع الإنسان بقناعة ما حتى تتأصل في وجدانه وتتحكم في أركانه وتملك عليه نفسه، ومثل هذا يحتاج إلى صدمة ليفيق، وإلى زلزلة عنيفة ليرجع، وإلى لسعة أو لدغة ليُقلِع، فلا تصلح معه المواربة أو التلميح، بل لا بُدَّ معه من المجابهة والتصريح.
فهذا رجل استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليجمع الزكاة، فجاءه حين فرغ من عمله، فقال: يا رسول الله، "هذا لكم وهذا أهدي لي!"، فعنده قناعة أن ما أُهدي إليه هو حقه الخالص، فهزه النبي -صلى الله عليه وسلم- هزة عنيفة ليزلزل بها ما استقر في ذهنه من خلط، قائلًا له: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فنظرت أيهدى لك أم لا... فوالذي نفس محمد بيده، لا يغل أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه"([10]).
وهذا معاذ بن جبل كان يملك اعتقادًا أنه لا يكلُّ من العبادة إلا منافق، وكان يصلي بقومه، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: "إنه منافق"، فشكاه الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فواجه -صلى الله عليه وسلم- معاذًا قائلًا: "يا معاذ، أفتان أنت!" فكررها ثلاثًا([11])... وهي كلمة شديدة على معاذ؛ وذلك ليفيق -رضي الله عنه- ويغيِّر قناعته الخاطئة.
ولقد كان لمعاذ -رضي الله عنه- نصيب آخر من هذه الزلزلة النبوية، وذلك حين أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلسانه، وقال: "تكف عليك هذا"، فقال معاذ: "يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟"، فقد كان مقتنعًا أنما الكلام مجرد هواء لا يضر، فأيقظه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار، إلا حصائد ألسنتهم؟"([12])، فقد كانت صرخة بددت تلك القناعة الخاطئة.
وهذا أبو ذر يُعَيِّر رجلًا بأمه الأعجمية، فيجابهه -صلى الله عليه وسلم- بكلمة زلزلت كيانه قائلًا: "يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية"([13])، وقد أثرت فيه حتى صار بعدها يُعامل خادمه كما يُعامل أخاه من أبيه وأمه.
ومرة أخرى يطلب أبو ذر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوليه ولاية، وكأنها حق له لما بذله للإسلام! فكان رد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ضرب بيده على منكبيه، ثم صدع في وجهه قائلًا: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة..."([14])، وما كان يصلح في هذا الموقف إلا هذه الزلزلة والمجابهة.
فزَلْزِل -أيها الخطيب- من لقيته سادرًا في غفلته، مقتنعًا بخطئه، مصرًا على قناعاته الباطلة، حتى يفيق ويرجع ويثوب إلى رشده.
التعليقات