اقتباس
ولتضع غايتك بين عينيك ولا تحد عنها؛ فالغاية "هداية الملحد لوجه الله ذي الجلال والإكرام"؛ لا أن تعنِّته ولا أن توبخه ولا أن تفضح جهله وخواء عقله ولا أن تشنِّع عليه وتسخر منه... فإن لم تكن هذه غايتك -أيها الخطيب- فستتحمل الوزر؛ لأنك لن تزيده إلا ضلالًا!
لأنْ تُخاطب ألف مسلم عاصٍ أو غافل أو جاهل لهو أهون عليك -أخي الخطيب- من أن تواجه ملحدًا واحدًا، هذا ما تدركه عند تعاملك مع فئة الملحدين؛ فإن المسلم العاصي سرعان ما يرجع إذا ما ذكَّرته بالآخرة وخوَّفته من عقاب الله، وإن المسلم الغافل قد توقظه آية واحدة تمس قلبه، وإن المسلم الجاهل يكفيه أن تعلِّمه الحق فتراه متبعًا إياه... أما الملحد فإنك لا تستطيع أن تحاوره بقرآن ولا بسنة ولا أن تخاطبه بحلال ولا بحرام ولا أن تخوِّفه بجنة ولا بنار! وفوق ذلك فأغلب الملحدين يتبنَّون موقف الكبر والعناد، متعالين على كل توجيه وإرشاد!
فما تنفقه من وقت وجهد وكلام مع ملحد واحد أضعاف أضعاف ما تنفقه مع ألف مسلم عاصٍ أو غافل أو جاهل!
ولقد بدأنا الجزء الأول من هذا المقال بتقديم "نصائح لابد منها قبل البدء في التعامل مع الملحد"، والتي جاءت كالتالي:
النصيحة الأولى: حنانيك على نفسك.
النصيحة الثانية: لا تستهن بهداية نفس.
النصيحة الثالثة: اشفق عليه، ولا تقسو.
النصيحة الرابعة: كن واعيًا بطبيعة الإلحاد.
النصيحة الخامسة: تسلح قبل البدء، كي لا تكون له فتنة.
ثم قدمنا بعد تلك النصائح خطوة واحدة من خطوات التعامل مع الملحدين وكانت:
حدد نوع الملحد الذي تحاوره... وهاك مزيد من الخطوات:
الخطوة الثانية: تعرَّف على سبب إلحاده:
فإن معرفة "لماذا ألحد الملحد" هو الذي يحدد طريقة علاج ذلك الملحد؛ فإنه لو جاءك رجلٌ غاضب ثائر قد أحمر وجهه وانتفخت أوداجه، فإن أفضل وأقصر طريق لإزالة غضبه هو إزالة أسباب ذلك الغضب، ولن تتمكن من إزالتها حتى تعرف ما هي.
ومن الأسباب المنتشرة للإلحاد: عدم تحمل المصائب التي تنزل به: وعدم فهم المغزى والحكمة من الابتلاءات، فقد تتوالى عليه البلايا حتى تشدهه، وليس له من إيمان يرده إلى الصبر والتسليم، ولا عقل راجح يجد لما أصابه تفسير وتعليل... فإذا به يهرف فيقول: "لو كان لهذا الكون إله عادل حكيم لما ظلمني بهذه المصائب! فماذا يفيد من إشقائي وتعذيبي؟!"، نعم؛ هكذا يقولون!
ولن يفيد مثل هذا -أخي الخطيب- أن تتلو عليه؛ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 155]، ولا غيرها من الآيات والأحاديث النبوية التي تتكلم عن الابتلاء؛ فإنه لا يؤمن بجميع ذلك! وإنما يفيده أن تضرب له الأمثال التي تقرب إلى عقله مفهوم الابتلاء وحكمته وضرورته...
فقل له: تخيل أن أحدهم بنى مدرسة لكنه وضع لها نظامًا غريبًا؛ فلا امتحانات فيها ولا درجات ولا تقديرات، بل في نهاية كل عام ينجح الجميع بلا استثناء، ومَن في الصف الأول ينتقل إلى الثاني ومَن في الثاني ينتقل إلى الثالث وهكذا... ألا يكون هذا من الظلم البين؛ لأنه يُسوِّي بين من جد واجتهد وبين من غفل ولهى! بل إن هذه المدرسة يكون وجودها من العبث الذي لا وزن له ولا قيمة؛ فإن أغلبية طلابها لن يذاكروا ولن يتعلموا لأنهم على كل حال ناجحون! كذلك كيف وعلى أي أساس ستحدد إدارة المدرسة "قائمة الشرف" التي تضم أوائل المدرسة ما دامت لا تعقد امتحانات من الأصل؟!
ثم أسْقِط -أخي الخطيب- هذا على الواقع قائلًا: فالدنيا كتلك المدرسة؛ فإن فيها طيبون وخبيثون وخيِّرون وشريرون ومجتهدون ومقصرون، فلو لم يكن فيها ابتلاءات وامتحانات يميز الله بها الخبيث من الطيب لكانت عبثًا...
ومن أسباب الإلحاد: كثرة التعرض للشبهات مع الجهل بالدين: فهو يجلس أمام المرجفين الذين يشككون في الدين على الشاشات والفضائيات والشبكة العنكبوتية وما أكثرهم! فتلقى شبهاتهم في قلبه أرضًا خصبة؛ لأنه لم يحصنه بعلم شرعي ولا بإيمان نقي ولا بعقيدة صافية...
والتعامل مع هذا الملحد -أخي الخطيب- يكون بالرد على شبهاته بإجابات عقلية مقنعة قوية، ويسَهِّل عليك الأمر أن شبهاتهم تلك مكررة محفوظة قد أشبعها علماؤنا تفنيدًا وردًا وإبطالًا، ولن تعدم من الكتب ومواقع الشبكة العنكبوتية ما يعينك على ذلك، وقد أشرنا إلى جانب منها في الجزء الأول من هذا المقال([1]).
ومن أسباب الإلحاد: قصور عقله عن استيعاب بعض أحكام الدين فيراها متناقضة، أو بالية عتيقة عفا عليها الزمان، أو غير معقولة المعنى! فيقول لك: كيف يأمر الإسلام بتحطيم الأوثان ثم يأمر أتباعه بتقبيل حجر وبالطواف حول حجارة؟! يقصد الحجر الأسود والكعبة المشرفة.. ويقول: كيف يدعي الإسلام أنه دين العدل والمساواة ثم يفرِّق بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة والتحجب؟!...
ويقول: كيف لدين نزل منذ خمسة عشر قرنًا في بيداء على أُميين بسطاء أن يناسب عصر التحضر والتمدن والتقدم وغزو الفضاء!... إلى غيرها من ترهات أنتجها ضيق أفقه وضعف عقله وقلة علمه وكسله عن إنفاق وقت أو جهد للسؤال عما لا يعلم أو البحث عن إجاباته!
ومهمتك هنا -أخي الخطيب- أن توسع مداركه وتدل عقله الكليل على مواضع القصور، وأن تتفق معه على مقدمات بديهيات ثم تتنتقل منها إلى نتائج ناصعات... ففي النقطة الأولى -مثلًا- تقول له: إن النهي عن عبادة الأوثان لا يختلف عليه عاقلان؛ فإنها جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تستحق أن تُعبد، ألست متفقًا معي على ذلك؟ فسيقول: بلى... فانتقل وقل له: لكن إن أراد مديرٌ أن يختبر طاعة موظفيه، أو أبٌ أن يمتحن انقياد أولاده له، أو قائدٌ عسكري أن يُجرِّب امتثال جنوده؛ فأمرهم بما لا يفهمون اختبارًا لهم، أليس له أن يفعل؟ فإن قال: بلى، فقد انتهى الأمر، وإن عاند وقال: لا، فقل له: إن الواقع يكذِّبك؛ فإنه بالفعل يصنعون ذلك، والخالق -عز وجل- أولى أن يفعله.
وفي النقطة الثانية فلتقل له: إن كان عندي ابنان أحدها صغير ضئيل ضعيف، والأخر كبير ضخم قوي، وهما يعملان في أرض زراعية، أيكون من العدل أن أكلِّف كليهما بعمل متساوٍ؛ فأكلف الضعيف أن يحمل مقدارًا من تربة الأرض مثلما يحمل القوي، أم يكون العدل بأن أكلف كلًا بما يطيق؟!
وإن كان لي ولدان كلٌ في كلية منفصلة، فالأول كليته بجوار المنزل، والآخر كليته في سفر بعيد، أيكون العدل أن أسوي بينهما في النفقة؛ فأعطي هذا مائة وهذا مائة مثلها، أم أن العدل أن أعطي كلًا ما يكفيه؟!
وسيتفق معك حتمًا على هاتين المقدمتين؛ لأن العقل يقرهما، وعندها فقل له: هل تنكر أن التركيب الجسدي والنفسي للمرأة -في الأعم الغالب- هو أضعف من الرجل؟ فسيقول: لا أنكر، فقل له: لذا خفف الله عنها في تحمل الشهادة وعافاها من الكد والعمل والمطالبة بالإنفاق على غيرها.
ثم قل له: أتنكر أن الرجل مكلف بأعباء هي أثقل مما تُكلَّف به المرأة، وأنه أقدر على التحمل من المرأة؟ ولن يستطيع أن ينكر، وعندها فقل له: لذا خصه الإسلام في بعض الحالات بميراث أكثر ليستطيع تحمل أعبائه الزائدة...
وأما عن النقطة الأخيرة فسله: كم عمر الشمس؟ فسيقول: قديم قديم، فقل له: فهل عجزتْ أو كلتْ رغم مرور ملايين السنين عليها أن تضيء وجه الأرض؟ فسيجيب بالنفي، وعندها فقل له: فكذلك تلك القواعد والأحكام الربانية التي تنزلت من خمسة عشر قرنًا هي كالشمس صالحة لم تخفت بمرور القرون؛ لأن أغلب أحكام الإسلام جاءت كقواعد عامة وخطوط عريضة تُحْكِم الإطار الخارجي للدين، في حين تُبقي سعة للاجتهاد والمرونة والتجديد...
وستدرك -أخي الخطيب- بسليقتك وبديهتك ما تصنع مع من سبب إلحاده: الفتنة بعلماء السوء الذي يقولون ما لا يفعلون؛ بأن تفْصِل في ذهنه ما بين المنهج والأشخاص مُقدمًا النماذج من الشرق والغرب... وكذلك مع من سبب إلحاده: الرغبة في التفلت من قيود الدين: الذي يريد الانصياع لشهواته ونزواته ورغباته، لكن الدين يعيقه بحلاله وحرامه؛ فبيِّن له أن المرء إن يلقى ربه مسلمًا عاصيًا خير له من أن يلقاه كافرًا!...
الخطوة الثالثة: حدد أهدافك المرحلية ووسائلك لتحقيقها:
فلا تترك للملحد حرية إدارة الجلسة وتوجيهها حيث أراد، ولا تجعل محاورتك له تطوافًا في شتى المواضيع، بل كن أنت القائد وأدر دفة الحديث حيث أردت، ولا تنسق وراء كل جملة يلقيها؛ فإن الجدال والنقاش بحر لا ساحل له.
ولتضع غايتك بين عينيك ولا تحد عنها؛ فالغاية "هداية الملحد لوجه الله ذي الجلال والإكرام"؛ لا أن تعنِّته ولا أن توبخه ولا أن تفضح جهله وخواء عقله ولا أن تشنِّع عليه وتسخر منه... فإن لم تكن هذه غايتك -أيها الخطيب- فستتحمل الوزر؛ لأنك لن تزيده إلا ضلالًا!
فهذه هي الغاية والهدف البعيد؛ هدايته إلى ربه -عز وجل-... ثم لتضع بعده أهدافًا قريبة توصل إليه، فيكون هدفك القريب في جلستك الأولى مع الملحد هو: استكشاف عقله وإدراك سبب إلحاده ومدى استجابته للأدلة العقلية وإذعانه لها، وهل هو من المتكبرين المعاندين أم من المطحونين المغرورين!... ثم على ضوء ذلك تكون -أخي الخطيب- قد جهزت للجلسة الثانية أهدافًا قريبة أخرى، من مثل: استغلال نقاط الاتفاق بينك وبينه، والبناء على ما قررتماه في الجلسة الأولى؛ وليس البدء من جديد... ثم تدخل في الجلسة الثالثة وقد أعددت له أسئلة استنكارية لما لا يُعقل من إنكاراته للخالق وللجزاء وللأديان وللإسلام وللغاية السامية من الوجود...
ومما يحدد هذه الأهداف القريبة: مساق الحديث، وطبيعة الملحد، ورؤيتك وذكاؤك أنت؛ أيها الخطيب اللبيب، وما ذكرتُ منها إلا مجرد نماذج.
([1]) ومن الكتب المفيدة في ذلك غير ما ذكرنا هناك:
كتاب: "للكون إله" للدكتور: صبري الدمرداش، ويحتوي على معلومات عن الكواكب والنجوم والكون كله تحمل قارئها على الإيمان.
وكتاب: "الله يتجلى في عصر العلم"، تأليف: نخبة من العلماء الأمريكيين، ترجمة الدكتور: الدمرداش عبد المجيد سرحان.
وكتاب "صراع مع الملاحدة حتى العظم"، عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي.
كتاب: "الفيزياء ووجود الخالق"، للدكتور: جعفر شيخ إدريس.
التعليقات