اقتباس
أخي الخطيب: قد يحسن التغافل عن كلمة أفلتت من لسان فَرْدٍ سرعان ما ندم عليها وتنصل منها أو تولى المقربون منه بيان خطئه فيها، لكن إذا استشرت قالة سوء وانتشرت وكان لها سبب "موهوم" ولم تجد من القوم من ينقضها أو ينقدها، فقد تحتمت المصارحة...
لعل كل خطيب مر بتلك التجربة العصيبة؛ أن يجد نفسه في مسجده أو في حيه وقد وُضع في موقف صعب يحار كيف يتصرف فيه، أو حلت بأهل الحي أزمة لا يدري بما يأمرهم حيالها... وهي مواقف قد تُسقط الخطيب والداعية من عيون جمهوره إذا أساء التصرف فيها والتعامل معها فيتهاوى كل ما يحملونه له من تقدير وحب ومهابة وإكبار، لكنها -لا غيرها- قد ترفع الخطيب وتعليه وتعزز مكانته في قلوب الناس إذا أحسن التعامل معها وأدرك وعرف كيفية الخروج منها حتى يتربع بسببها داخل سويداء قلوبهم فلا يصدرون في كل ملمة إلا عن مشورته.
لكن من أين نستقي الاستراتيجية المناسبة في الأزمات؟ وممن نستمد بنودها وأركانها؟ أقول: ممن مرت به الكثير من الأزمات وخرج منها في كل مرة عزيزًا كريمًا مؤيَدًا، ممن وُفِق في حل كل معضلة وفي معرفة وجه كل نازلة، ممن ثَبَت في الزعازع وثبَّت القلوب من حوله، من المؤيد بوحي السماء النبي المرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-.
لقد مرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أزمات عديدة، أزمات في مكة من تعذيب وتنكيل وقتل... وأزمات في المدينة من خوف وغزو واضطراب... أزمات بين المسلمين وبين الكفار واليهود، وأزمات بين المسلمين بعضهم البعض كذلك المهاجري الذي كسع الأنصاري حتى كادت تكون الفتنة، وأزمات أخرى بين المسلمين والمنافقين خاصة رأسهم عبد الله بن سلول، وأزمة مست عرض أم المؤمنين عائشة تُعرف بحادثة الإفك، وأزمة بسبب بريرة تلك الجارية التي أراد أهلها أن يبيعوها على شرط أن لهم الولاء، بل وكانت أزمة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنصار حين حرمهم -صلى الله عليه وسلم- من الغنائم وأعطاها للطلقاء... وغيرها كثير من الأزمات.
وإننا نحاول في هذي السلسلة من المقالات أن نستمد ونستقي أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الأزمات بمختلف أشكالها وألوانها وصورها، وننتبع ملامح المنهج الذي اتبعه -صلى الله عليه وسلم- في الخروج منها، والمسلك الذي سلكه عند التعامل معها، واضعين نصب أعيننا أن الأزمة مع الأحباب والأصحاب غير الأزمة مع الشانئين والأعداء، والأزمة الشخصية غير الأزمة العامة، والأزمة المعلنة غير الأزمة المكتومة... وسينحصر حديثنا هنا -إن شاء الله- على: "استراتيجية التعامل مع الأزمات النفسية الوجدانية".
ومن خلال تتبعنا لعدة أزمات نفسية وجدانية مرت بالأمة وتعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم-، حاولنا أن نبرز أركان الاستراتيجية المناسبة التي يجدر التعامل على أساسها مع ذلك النوع من الأزمات، وتتكون تلك الاستراتيجية من البنود التالية:
البند الأول: بعث الطمأنينة في القلب:
فما دامت الأزمة وجدانية نفسية فلا بد فيها من خطاب القلب والتحاور مع القلب بما يفهمه، فإن من يمر بأزمة نفسية يحتاج -قبل كل شيء- إلى مواساة قلبه الجريح ووجدانه المكلوم، ولقد مرت بالأنصار -رضوان الله عليهم- أزمة نفسية وجدانية مريرة؛ فقد آووا ونصروا وقُتِّل ذوهم في سبيل نصرة الدين وضحوا بكل غال وثمين وسمحوا لإخوانهم المهاجرين أن يشاركوهم في وطنهم وأموالهم... فلما كانت غزوة حنين وغنم المسلمون الغنائم، خصَّ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الطلقاء من أهل مكة وحرمهم هم رغم تضحياتهم، فأثر ذلك تأثيرًا بالغًا في نفوس بعضهم حتى قالوا: "لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه" يقصدون: ونسيَنا بعد كل ما قدمنا.
وأنا أستشعر وأظن أنهم ما قالوا ذلك إلا وقد تملكهم الخوف من أن يترك -صلى الله عليه وسلم- سكنى المدينة المنورة ويعود إلى مسقط رأسه مكة، فقد قالوا: "أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟"([1])، وتصوروا أن تخصيص القوم بالغنائم أول أمارات ذلك... وعندها بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- طمأنتهم قائلًا: "كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم"([2])، وأكدها مرة أخرى: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟"([3])، ثم أعلن تمنيه أن لو كان فردًا منهم: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"([4])، ثم أعلن انحيازه الكامل إليهم: "ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها"، ثم أشعرهم بمدى قربهم منه وتقديمه -صلى الله عليه وسلم- لهم على غيرهم قائلًا: "الأنصار شعار والناس دثار"([5]).
وفي كل ما سبق تطييب لخاطرهم، وإزالة لقلق كان يعصف بقلوبهم، وإخمادًا لهواجس كانت تترد في صدورهم...
ولقد عاصرت أزمة بين فردين من أفراد المسجد، فقد كنا في رمضان وقبل أذان المغرب بساعات جاء أحدهما جالبًا بعض الطعام ليوزَع على الصائمين فيفطروا عليه، فسلَّمه إلى آخر وهو المتطوع بالقيام بمهام التوزيع والتفطير... وساعة الإفطار إذا بالمتبرع يخاطب المتطوع أمام الناس قائلًا: "أين باقي الطعام؟! أين ذهبت به؟! هل أرسلته إلى بيتك؟!"، وعندها تسمر المتطوع في مكانه واجمًا ثم فرت الدموع من عينيه ثم سقط على ركبتيه منخرطًا في بكاء مرير، والتف حوله الناس يقلبونه ويخاطبونه دون فائدة، ثم قام واقفًا وانطلق خارجًا من المسجد كأنه لا يراهم ولا يسمعهم، وانقطع عن المسجد يومًا ويومًا وأيام.
وتتابع الناس يزورونه في بيته وقد لزم الفراش مريضًا وقد أصابه ما يشبه الشلل في قدميه، وصاحبنا المتبرع الذي آذاه وجرحه وفضحه يأبى أن يزوره أو يعتذر إليه! حتى ألح عليه خطيب المسجد ووعظه ونصحه وعرَّفه بخطئه، فاصطحبه وجمع من الناس وذهبوا لذلك المريض الجريح مرهف الحس، ودخلوا عليه وبدأ المتبرع يعتذر والمتطوع لا يقبل عذره، والخطيب يذكِّره بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا"([6])، والناس تضاحكه وتداعبه قائلين: "لم نعرف طعمًا لإفطار منذ أن تركتنا"، "لقد حنَّ إليك المسجد واشتاق"، "إن الجميع افتقدك ويسأل عنك"...
وما زالوا به حتى علت وجهه ابتسامة وخرجت من فمه ضحكة قد افتقدناها، وما أن فعل إلا وقد نشطت ساقاه وكانتا قد تجمدتا، وعاد إلى مسجده بعد أن اطمأن قلبه أن أحدًا لا يشك في أمانته وأن أحدًا لا يستغني عنه وأن الجميع يحبونه.
وكذلك فليصنع الخطيب الذكي ليطبب القلب المكلوم والفؤاد المجروح، ويواسي خاطر الحزين ويجبر كسر المنكسر، فإن أفلح فقد استطاع أن يجتاز بالمأزوم أزمته، أو كاد.
البند الثاني: المكاشفة والمصارحة:
لقد كانت -تلك التي مضت- أزمة، وقد عالجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن جمعهم وحدهم وخصَّهم بالخطاب، فأسقط المواراة والدوران والتجاهل والتغافل والتأجيل، وبدأ المصارحة والمواجهة، فكانت أولى كلماته -صلى الله عليه وسلم- لهم أن قال: "ما قالة بلغتني عنكم؛ وجدة وجدتموها في أنفسكم!..."([7])، ثم واصل كلامه.
أخي الخطيب: قد يحسن التغافل عن كلمة أفلتت من لسان فَرْدٍ سرعان ما ندم عليها وتنصل منها أو تولى المقربون منه بيان خطئه فيها، لكن إذا استشرت قالة سوء وانتشرت وكان لها سبب "موهوم" ولم تجد من القوم من ينقضها أو ينقدها، فقد تحتمت المصارحة، وقد تحتمت في واقعة الأنصار، فهذا سيدهم سعد بن عبادة يسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟" فيجيب قائلًا: "يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي"([8])، وكأنه يضم صوته إلى صوتهم! فعند هذا لا بد من المكاشفة والمصارحة ولا يجدي ساعتها تغافل أو تسويف، بل قد يضر.
نعم، إن التسويف والتأجيل في هذه الحالة يضر ولا ينفع، فإن شجرة الشوك يسهل اقتلاعها نبتة ناشئة، فإذا نمت وتفرعت وسرحت جذورها في الأرض كان اجتثاثها أصعب ومؤنته أكثر، ولن تستطيع تطهير الأرض من جميع جذورها!
البند الثالث: الرد إلى الهدف الأصيل:
ففي نفس الأزمة الوجدانية السابقة، كان من أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- في العلاج أن ذكَّرهم بالهدف الأصيل الذي من أجله آووا ونصروا، فإنهم ما ضحوا من أجل المال، ولما بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بايعوه إلا على الجنة ولا شيء إلا الجنة، فلما يغضبون الآن لما مُنعوا شيئا من الدنيا مع أنه لم يكن هدفًا لهم!
فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم في هذا العتاب المؤثر: "أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟!"([9])، ولعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما عاتبهم بذلك إلا ليذكِّرهم بالعهد الأول وبالبيعة الأولى، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنقباء من الأنصار: "تؤووني وتمنعوني؟"، قالوا: نعم، فما لنا؟ قال: "الجنة"([10])، ولم يعدهم بشيء سواها، وعن جابر أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبث عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ، وفي منازلهم بمنى، يقول: "من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي، وله الجنة؟"([11]).
وبعد تمام الهجرة وتشريف المدينة بقدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يزدهم على الجنة شيء، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: خطب ثابت بن قيس عند مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ فأجابه -صلى الله عليه وسلم- بكلمة واحدة: "الجنة"، فقال ثابت: رضينا([12]).
والخطيب اللبيب يفعل ذلك مع رواده فإن كان شكا له أحدهم أنه يود أرحامه ولا يودونه، ذكره بالهدف الأصلي؛ لماذا تصل رحمك هل ليصلوك؟! فإن قال: نعم، فقل له: إذًا ما أنت بواصل رحم إنما أن مكافئ، وساق حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"([13])، وإن قال: لا، فقل: فلما تصلهم إذًا؟ سيقول: ابتغاء رضا الله وأجره، فقل له: فإن الأجر لك وإن قطعوك، فلا تحزن ألا يصلوك.
وأراك تعي تمام الوعي -أخي الخطيب- أنه في خضم الأحداث ينسى الإنسان ما نوى، فقد تكون نيته ومقصده ومبعث قيامه بالعمل الصالح نبيل سام أصيل ثم لما يبدأ في تطبيقه يغرق في التفاصيل وينسى ما من أجله قام! وإني لأذكر ذلك الرجل الذي جاء يستدل على عمل صالح يتقرب به من الله -تعالى-، فدلُّوه على إنشاء جمعية خيرية توزع الطعام والكسوة على الفقراء، فلما بدأ العمل الفعلي وجاء يوم توزيع المؤن على الفقراء، إذا بهم يتزاحمون حوله، ويطالبونه كأنما "هو خادم لهم" -هكذا قال-، وإذا بمن لم يحصل على ما يريد من مساعدات يوبخه ويقرعه!
فما كان من الرجل إلا أن قوَّض بناء الجمعية كلها -بدلًا من أن يتفادى تلك السلبيات بشيء من التنظيم- قائلًا ومُصرِّحًا: "إن هؤلاء الفقراء لا يستحقون ما يبذل لهم، ولا يستأهلون التعب في سبيلهم، لأنهم لا يشكرون"! ولو وجد هذا الرجل من يرده إلى الهدف الأصيل، لما نكص على عقيبه.
ورحم الله ذلك الصحابي الجليل الذي يضرب به المثل في وضوح الهدف والتمسك به والذي لم تشغله الأحداث عن نيته الأولى، فقد روى شداد بن الهاد أن رجلًا من الأعراب جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبيًا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فأخذه فجاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا؟! فقال: "قسمته لك" قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة، قال: "إن تصدق الله يصدقك" فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهو هو"، فقالوا: نعم، قال: "صدق الله فصدقه"، ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قدَّمه فصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاته عليه: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا أنا شهيد عليه"([14]).
البند الرابع: المواساة بالبشرى والكلمة الطيبة:
كل خطيب -يمارس دوره الاجتماعي المنوط به- يدرك أن ممن حوله من يشعر دائمًا بالنقص، نعم، من الناس من يحيا وهو يحس أنه أقل من غيره، إما لفقره أو لعيب في جسده أو لسُبة لحقت عائلته لا دخل له فيها... وأمثال هؤلاء قد تجرحهم أقل كلمة وقد يؤذيهم أيسر إهمال، لذا فهم يحتاجون معاملة خاصة تساهم في معالجة نفسياتهم الحساسة المرهفة وأزمته النفسية الدائمة التي يحيونها.
ولعل من هؤلاء زاهر بن حرام -رضي الله عنه-، يروي أنس بن مالك أن زاهرًا كان من أهل البادية وأنه كان يهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدية، فيجهزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن زاهرًا بادينا، ونحن حاضروه"، قال: فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت إليه، فلما عرف أنه النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يشتري هذا العبد؟" فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدًا، قال: "لكنك عند الله لست بكاسد -أو قال:- بل أنت عند الله غال"([15]).
فقد جاءت زيادة في عدة روايات للحديث قول أنس عن زاهر: "وكان رجلًا دميمًا"([16])، وينبئك عن تأثير دمامته تلك في نفسيته قوله: "تجدني يا رسول الله كاسدًا"، فهو يشعر أنه لو بِيِع عبدًا لما رغب أحد في شرائه لدمامته! لذا كانت له من النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة الخاصة التي لم نعهدها من النبي -صلى الله عليه وسلم- مع غيره، وما ذلك إلا تطييبًا لخاطره، ومعالجة لأزمة نفسية مستمرة معه ملازمة إياه.
وهذا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- الذي لعله كان الفارسي الوحيد بين الصحابة، وقد حُرم من كنية "مهاجري" كما حُرِم من لقب "أنصاري"، وقد حاول الصحابة أن يعوضوا عنده ذلك الشعور بالغربة أو الوحدة الذي قد يتسلل إلى صدره، فكان هذا الموقف الرقراق العذب الذي يقطر رهافة حس وذوق ومواساة ومحبة وأخوة، وقد رُوي بسند ضعيف: قالت "المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سلمان منا أهل البيت"([17])، فشرَّفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بتشريف أعلى وأغلى من كونه مهاجريًا أو أنصاريًا مواساة لخاطره، فكان أفضل وسام يضعه على صدره.
وتمر أزمة نفسية بثابت بن قيس -رضي الله عنه- أزمة نفسية شديدة بسبب جهارة صوته، يرويها أنس بن مالك فيقول: "لما نزلت هذه الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ، فقال: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟" قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنا من أهل النار! فذكر ذلك سعد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل هو من أهل الجنة"، وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"([18]).
ولنا أن نتصور كيف كانت حالة ثابت النفسية، لقد كان يحب القرب من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتمنى الجنة ويتخيل نفسه بين قصورها ونعيمها، وفجاءة يجد نفسه مطرودًا من رحابها، فيقعد قانطًا محبطًا منقطعًا عن الجماعات معتقدًا أنه من أهل النار! ثم جاءته بشرى النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي شعر بغيابه -وهكذا فليحاول الخطيب-، ولا أشك أن تلك البشرى النبوية قد أزالت وبددت ومحت تمامًا كل أثر لتلك الأزمة الوجدانية التي مرت بثابت -رضي الله عنه-.
ولا أجرؤ أن أقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعاني شيئًا لكونه لا يعيش له ولد ذكر، فهو أكمل الخلق -صلى الله عليه وسلم- نفسًا وقلبًا، لكن ما لا أشك فيه هو كونه -صلى الله عليه وسلم- بشرًا يعتريه ما يعتري البشر، وكونه قد عُيِّر بذلك فقيل عنه: "أبتر"، فعن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه، فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل يثرب، فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، فقال: أنتم خير منه، فنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3]([19])، فقد طيَّب الله نفس نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وقد يتولى الكيس الفطن إذا بلغ من كمال الشخصية والثقة بالنفس شأوًا علاج نفسه وتحصينها كي لا يصيبه وهن ولا ضعف ولا أذى نفسي بسبب مؤثر سلبي تعرَّض له، فيصنع كما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كانت العوراء أم جميل بنت حرب تسب النبي -صلى الله عليه وسلم- فتقول: "مذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا"([20])، ومثلها كثير من كفار مكة، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأصحابه: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا وأنا محمد!"([21]).
فالصغير والكبير في مكة يعلم أنهم لا يقصدون بقولهم ذلك إلا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وكأنما أرد -صلى الله عليه وسلم- بكلامه هذا تحصين نفسه أن تتأثر بكلامهم، وتسلية أصحابه الذين -لا شك- يؤذيهم أن يُسب نبيهم -صلى الله عليه وسلم- ولا يستطيعون لذلك دفعًا.
([4]) البخاري (3779)، ومسلم (1061).
([5]) البخاري (4330)، ومسلم (1061).
([7]) أحمد واللفظ له (11730)، ومسند ابن الجعد (2033)، وأصله في الصحيحين كما تقدم.
([11]) ابن حبان (7012)، وأحمد (14653)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 6973).
([12]) الحاكم (5033)، والنسائي في الكبرى (8171)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
([14]) النسائي (1953)، والحاكم (6527)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن النسائي).
([15]) ابن حبان (5790)، وأحمد (12648)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 5760).
([16]) مسند البزار (6922)، وأحمد (12648)، وغيرهما.
([17]) الحاكم (6541)، والطبراني (6040)، وضعفه الألباني (الضعيفة: 3704).
([18]) البخاري (4846)، ومسلم (119).
([19]) ابن حبان (6572)، والنسائي في الكبرى (11643)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 6538).
([20]) الحاكم وصححه (3376)، ومسند الحميدي (325)، وحسنه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 6477).
التعليقات