اقتباس
فالعقل وعاء فارغ؛ إن ملأته عسلًا ثم صببت منه، أنزل عسلًا، وإن ملأته حنظلًا ثم سكبت منه لن يُنزِل إلا حنظلًا.. فكي يكون العقل صحيحًا لابد أن نتحكم فيما يدخله، فإن أدخلنا إليه كل صحيح سليم نافع، استقام لنا العقل واستقامت لنا "مخرجاته"؛ من أحكام وأفكار واستنتاجات...
إن ما بين عقل وعقل كما بين السماء والأرض؛ فعقل نابه واعٍ يجيد التفريق بين الغث والسمين، لا تنطلي عليه الخدع والأباطيل، فيه ضياء ونور قد جعل الله له فرقانًا... وعقل آخر لا يدري ولا يعلم ولا يدرك ولا يعي، قد يُصِّدق الشيء الذي لا يُعقل، وقد يقتنع بالأمر وبنقيضه معًا! فشتان ما بين هذا العقل وذاك.
وقد حاولت في الجزء الأول من هذا المقال أن أقدِّم وصفة دوائية للعقول الفوضوية التي يلاحظها الخطيب في بعض سامعيه، في شكل استراتيجية محددة البنود لإعادة تشكيل تلك العقول وتأهيلها، وقد ذكرت هناك ثلاثة بنود وهي:
البند الأول: إعادة ترتيب الأولويات.
البند الثاني: إعادة تدوير النيات.
البند الثالث: تشكيل الثقافة التي تدير العلم. والآن موعدنا مع مجموعة أخرى من البنود:
البند الرابع: ضبط المقاييس والموازين:
أخي الخطيب: إن سببًا خطيرًا من أسباب الفوضى التي تراها داخل عقول بعض جمهورك هو اختلال المقاييس والموازين التي يقيسون بها الأحداث والأشخاص والمواقف... فإن كان المقياس عند بعضهم في الحكم على الرجال هو المال والجاه والشرف.. فكل فقير ضعيف عندهم حقير وإن كان تقيًا، وكل غني شريف عندهم عزيز وإن كان فاجرًا عصيًا!
ولقد أبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الميزان واستبدله بآخر؛ فعن سهل -رضي الله عنه- قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"([1]).
ومرة أخرى يصحح -صلى الله عليه وسلم- فوضى الموازين والمقاييس فيقول: "رب أشعث، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"([2])؛ فهو في مقاييس المخدوعين لا يساوي، لكنه في ميزان الإسلام أغلى من الذهب.
ولو عدنا الآن إلى مقاييس ذوي العقول اللبيبة لوجدناها تقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]، وتقول: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"([3]).
ولن تزال تلك الفوضى العقلية تتزايد وتتكاثف وتتوثق حتى تتحقق نبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تقول: "سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه في أمر العامة"([4])... ولن يكون ذلك كذلك إلا حين تبلغ "فوضى العقول" ذروتها.
فليكن ديدنك مع جمهورك -أخي الخطيب- أن تُمَسِّكهم بالمقياس الإسلامي الصحيح وبالمعيار الإيماني القويم؛ "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى"([5])...
البند الخامس: إعمال العقل، وعدم إهماله:
ستجد -أخي الخطيب- من جمهورك من عقله في أذنيه؛ يُصدِّق كل ما يسمع، ويعتمد كل ما يقال، ويريح عقله من "مشقة" التفكير والتحليل والتدقيق والترجيح!
فيهمل عقله ويعطِّله، وإذا ما سئل، أفتى بكل ثقة، وخاض بكل جراءة، وتجاسر بكل عنفوان؛ يردد ما كان يسمع من وسائل الإعلام ومن هذا وذاك... فإن طلبت منه الدليل على ما قال، أجابك: يقولون كذا، وأظن كذا، وأحسب كذا! وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بئس مطية الرجل زعموا"([6]).
وأنت تعلم -أخي الخطيب- أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يُعْمِلُون عقولهم حتى في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يتنزل عليه الوحي من السماء، وهذا مثال:
يروي ابن عمر -رضي الله عنهما- فيقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يعنف واحدًا منهم"([7]).
وقد رجح ابن القيم -رحمه الله- أن الذين أعمَلوا عقولهم وأدوا صلاة العصر في وقتها وفهموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد منهم الإسراع لا تأخير الصلاة عن وقتها هم الأصوب، فقال -بعد أن ذكر خلاف الفقهاء-: "والذين صلوا في الطريق، جمعوا بين الأدلة، وحصلوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضًا -رضى الله عنهم-"([8]).
وها هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا مباشرًا، فيذهب لأدائه، لكنه يرى ما يستوجب عليه ألا ينفذ الأمر النبوي، ليس عصيانًا له -حاشاه- بل لأنه أعمل عقله فعلم ما لو علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لتراجع عن أمره، فعن أنس -رضي الله عنه- أن رجلًا كان يتهم بأم ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "اذهب فاضرب عنقه"، فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر([9]).
فعلِّمهم -أخي الخطيب- كيف يستخدمون عقولهم التي وهبهم الله إياها ولا يعطِّلوها، وأن تكون طاعتهم المطلقة لأوامر الدين حتى ولو لم يفهموها، وألا يعطوا لغير الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- نفس المنزلة والقداسة؛ بل يشهروا سلاح التفكير والتحليل قبل أن يَقْبَلوا أو يُصدِّقوا أو يقتنعوا.
البند السادس: التحكم في الـمُدخَلات إلى العقول:
تدرك معي -أيها الخطيب اللبيب- أن العقل وعاء فارغ؛ إن ملأته عسلًا ثم صببت منه، أنزل عسلًا، وإن ملأته حنظلًا ثم سكبت منه لن يُنزِل إلا حنظلًا.. وكذا عقول جماهيرنا؛ كي تظل صحيحة مستقيمة لابد أن نتحكم فيما يدخلها، فإن أدخلنا إليها كل صحيح سليم نافع، استقامت لنا عقولهم واستقامت كذلك "مخرجاتها"؛ من أحكام وأفكار واستنتاجات... والعكس بالعكس.
ولهذا السبب غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا لما قرأ الفاروق عمر -رضي الله عنه- من كتب اليهود، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فغضب وقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا، ما وسعه إلا أن يتبعني"([10]).
هكذا يخاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر أن يدخل شيء من هذه الصحف إلى عقله، مع أن عمر رجل تفر منه الشياطين كما قالها -صلى الله عليه وسلم- نفسه: "إيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط، إلا سلك فجا غير فجك"([11])، ومع أنه الملقب بالفاروق؛ الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل... ورغم هذا كله يخاف -صلى الله عليه وسلم- عليه من المدخلات الرديئة إلى عقله، فما بالك بمن دون عمر؟!
وبناء عليه: فمن المدخلات الرديئة كتابات أهل الزيغ والضلال، وكذا قنواتهم التليفزيونية ومواقعهم على الشبكة العنكبوتية... فحذِّر جمهورك منها، ورشح لهم من يقرؤون له ويستمعون إليه...
ومن جملة المدخلات إلى العقول التي يجب على الخطيب أن ينبه جمهوره إلى خطورتها: ما يسمعوه ويتعلموه من أصدقائهم؛ فإنهم لا محالة متأثرون به شاءوا أم أبوا: "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة"([12])، فكي يحافظ المسلم على عقله ويصونه مما يضره لابد أن ينتقي جلساءه.
يُتبع إن شاء الله.
[1])) رواه البخاري (5091).
[2])) رواه مسلم (2622).
[3])) رواه مسلم (2564).
[4])) رواه ابن ماجه (4036)، وابن حبان (6844)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1887).
[5])) رواه أحمد (23489)، ومسند الحارث (51)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2700).
[6])) رواه أبو داود (4972)، والأدب المفرد (762)، وصححه الألباني (الصحيحة: 866).
[7])) رواه البخاري (946)، ومسلم (1770).
([8]) زاد المعاد، لابن القيم (3/119)، ط: مؤسسة الرسالة، بيروت.
[9])) رواه مسلم (2771).
([10]) رواه أحمد (15156)، والدارمي (449)، وحسنه الألباني (إرواء الغليل: 1589).
([11]) رواه البخاري (3683)، ومسلم (2396).
([12]) رواه البخاري (5534)، ومسلم (2628).
التعليقات
زائر
27-02-2024رفع الله قدرك وزادك علما إني أحبك في الله