اقتباس
فوضى عارمة داخل العقول تحتاج إلى إعادة تنظيم وترتيب وتبويب؛ فوضى في سُلَّم الاهتمامات، وفوضى في أسباب الهموم وأحجامها، وفوضى في تصديق كل ما يقال، وفوضى في تقييم الغير والحكم عليه، بل وفوضى في فهم الدين ومبادئه، وفوضى في مظاهر التدين، وفوضى في كيفيات التقرب إلى الله...
منذ بضع وعشرين سنة وقد أنعم الله -تعالى- عليَّ أن أعتلي المنابر وأن أجلس في المساجد وأن يأتيني الناس سائلين مستفسرين في أمور دينهم، فأفتيهم فيما أعلم واستمهلهم لما لا أعلم، ومن مخالطتي لهم أدركت ما أحسب أن كل خطيب مسجد يدركه؛ أدركت أن هناك مشكلة كبيرة وفوضى عارمة في عقول كثير من الناس.
نعم، فوضى عارمة داخل العقول تحتاج إلى إعادة تنظيم وترتيب وتبويب؛ فوضى في سُلَّم الاهتمامات، وفوضى في أسباب الهموم وأحجامها، وفوضى في تصديق كل ما يقال، وفوضى في تقييم الغير والحكم عليه، بل وفوضى في فهم الدين ومبادئه، وفوضى في مظاهر التدين، وفوضى في كيفيات التقرب إلى الله -عز وجل- وتعيين سبل رضاه! وفوضى في منهج التلقي والاستدلال... حتى صارت بعض العقول -سامحوني- كأنها مجمع نفايات وقاذورات وأساطير وخزعبلات!
وإن من أهم مهماتنا كخطباء نعتلي المنابر أن نقصي تلك الفوضى العقلية، ونعيد ترتيب عقول الناس من جديد، وهذا هو ما أحاول وضع خطة واستراتيجية محددة له في هذا المقال من خلال البنود التالية:
البند الأول: إعادة ترتيب الأولويات:
كثيرون ممن ترى عيناك -أيها الخطيب- يعانون من خلط في ترتيب أولوياتهم، وأغلبهم لا يشعرون بذلك؛ فمنهم من همُّه دنياه وفقط، وهو غافل تمامًا أن هناك آخرة، نعم، فهم في دنياهم غارقون، وُلدوا لأسرة مترفة تتنقل بين النوادي والشواطئ والقرى السياحية والملاهي الليلية.. وهذي كل حياتهم! فهؤلاء ليس للدين أي مكان يُذكر في قلوبهم، فضلًا عن أن يكون ضمن أولوياتهم.
فمثل هؤلاء يحتاجون -أولًا- أن يُدخل أمر الآخرة ضمن اهتماماتهم وأولوياتهم، وثانيًا: أن يُقدَّم شيئًا فشيئًا حتى يكون في صدارتها، ولن يصنع ذلك أحد مثلك أيها الخطيب اللبيب.
ومنهم من يبر صديقه ويبالغ في حسن معاملته، وهو مقصِّر في حق أولاده وزوجته!... ومنهم من ينفق على الفقراء والمساكين ويغنيهم، ووالديه في فقر وعوز وحاجة! ونسي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول"([1])، ويقول: "دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك"([2])...
ومنهم من "تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك؛ فالنجاسة محذورة وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة"([3])...
"وفرق أخرى حرصت على النوافل، ولم تعتن بالفرائض، فترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يحرص على المبادرة إليها في أول الوقت، وينسى قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-"([4]): "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه"([5]).
وكثير جدًا من الناس الآن قد وقعوا في هذا الخلط الذي وجد مستراحًا ومستقرًا في عقولهم! فجهلوا الترتيب بين الأمور، والتيقظ لما بينها من فروق، وتقديم أهمها على مهمها، "ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور، وهذا غرور في غاية الغموض؛ لأن المغرور فيه في طاعة، إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية؛ حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها"([6]).
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه *** مرضان مختلفان داوى الأخطرا"([7])
فعلى الخطيب أن يعيد ترتيب الأولويات في عقول جمهوره؛ فيعلمهم أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن الطاعة متعدية النفع أفضل من مقصورة النفع، وأن الفرض مقدَّم على النفل، وأن الواجبات مراتب بعضها فوق بعض، وأنه عند الاضطرار يُرتَكب أخف الضررين... وما هذه إلا مجرد أمثلة.
البند الثاني: إعادة تدوير([8]) النيات:
تعمدت أن أستخدم لفظة: "تدوير" هنا لأن مطابق للمعنى الذي أقصده؛ "فالتدوير" مصطلح يُستخدم في مجال التصنيع اليوم؛ ويقصدون به: تفتيت المعادن القديمة وطحنها ثم صهرها وإعادة تشكيلها بأشكال جديدة بعد تخليصها من الشوائب"، وهو نفس ما ينبغي فعله بالعقول والأفكار؛ فإن كثيرًا من الناس اختلطت عليهم النيات ومُلئت بالشوائب والعوالق والأكدار، فلا تكاد تسلم لامرئ نية من شائبة شهوة أو هوى أو حب شهرة وسمعة ورياء!...
فإني لأعرف رجلًا بنى مسجدًا وأحسنه وأتمه، وكان يؤذن فيه ويصلي بالناس إمامًا في الصلوات الخمس، لكنه كان مستقبح الصوت في الأذان، إذا أذَّن فزع من صوته النساء والأطفال -بلا مبالغة-، وكان كذلك لا يُحسِن تلاوة القرآن، فكان الناس يكرهون أذانه وإمامته بهم، وكان إذا تقدم إليه رجل ينصحه ويرشح له من يؤذن أو يؤم الناس في الصلاة وبَّخه وانتهره وصدَّه وصاح به قائلًا: "هذا المسجد مسجدي، وأنا أحق به"!
ولو أدرك هذا الغرض الذي تُبنى من أجله المساجد؛ "من بنى مسجدًا لله بنى الله له في الجنة مثله"([9])، لما تباهى بما بناه، ولكان أبعد له من الرياء، ولما حرص على إمامةٍ ليس أهلًا بها، ولكان أقرب له أن يكون من "الأتقياء الأخفياء".
ولقد قصصت عليكم قبل ذلك قصة ذلك الرجل الذي وفقه الله لإنشاء جمعية خيرية توزع المال والطعام والكسوة على الفقراء، فلما بدأ العمل الفعلي وجاء يوم توزيع المؤن على الفقراء، إذا بهم يتزاحمون حوله ويرفعون أصواتهم عليه ويلحون في مساءلته، بل ويوبخه منهم من لم يحصل على كل ما يريد! فما كان من الرجل إلا أن نفذ صبره وتبدلت نيته وفسدت، ثم قوَّض بناء تلك الجمعية من أساسها!
وهذا "سعيد" -أو سمِّه ما شئت- كان يعطف على أحد الفقراء الضعفاء؛ فيخدمه ويعطيه ويداويه ويبذل نفسه في العناية به، لكن هذا الضعيف كان له قريب غني، فقابله "سعيد" يومًا، فقال له: "لماذا لا ترعى قريبك الفقير وتعينه"، فما كان من الغني إلا أن تعذَّر وتنصَّل وتنكَّر، فافسد الشيطان نية "سعيد" وأثار في قلبه الحرد والعناد، ووسوس له قائلًا: "إن ذلك الغني هو أولى بخدمة قريبه وأوجب عليه منك"، فتهرَّب "سعيد" من الضعيف الذي كان يعينه، وقطع عمله الصالح!... ولو فقه لحرص على الاستئثار بخدمة الضعيف؛ لأنه أولى بالأجر.
فهذا وذاك وأمثالهما بحاجة لمن يردهما إلى "النية الوحيدة" التي بدونها لن يُتقبل عملهم ولن يُبارك فيه ولن يستمر ولن يؤتي ثمرته؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)[الأنعام: 162-163]، ولقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"([10]).
فليزرع الخطيب في عقول جمهوره وازعًا يردهم إلى الإخلاص كلما مالت بهم نياتهم عن الجادة، وليُعلِّم تلك العقول كيف تحترز وتحذر من كل أمر يبدِّل نياتها ويحيد بها عن الغاية، فيظل العقل منتبهًا متحفزًا ضد كل ما يُفسد النيات.
البند الثالث: تشكيل الثقافة التي تدير العلم:
فإن العلم الأكاديمي شيء، والثقافة التي توظف هذا العلم شيء آخر، وما العلم -مع بالغ أهميته- إلا جزء صغير من الثقافة، وبالمثال يتضح المقال، فإن الكيميائي اليهودي الذي اخترع القنبلة الذرية قد جاء اختراعه ثمرة لعلمه الأكاديمي المحض، لكن لأن من ثقافته اليهودية التوراتية الإيمان بأرض الميعاد في فلسطين فقد قام بتوظيف اختراعه للضغط على الحلفاء في الحرب العالمية للاعتراف بحق يهودي في فلسطين! وهكذا قادت الثقافة العلم ووضعته في سياقها([11]).
وإن العالم الذي درس العلوم الشرعية؛ من فقه وأصول فقه وتاريخ تشريع وتفسير وحديث ومصطلح حديث... إن كان ذا معتقد وثقافة فاسدة؛ كأن يكون شيعيًا أو حلوليًا أو صوفيًا... فإنه يوظِّف كل ما يملك من علم وفصاحة ومهارات إقناع لإثبات ونصرة معتقده الفاسد، ولعل هذا ما قصده النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"([12])؛ فيلوي أعناق النصوص ويُحمِّلها ما لا تحتمل ويستدل بما ليس بدليل... والعكس بالعكس.
ومهمة الخطيب هنا إذا قدَّم لجمهوره العلم ألا يقدِّمه مجردًا، بل أن يقرن به المعتقد الحق والثقافة الصحيحة؛ فإذا علَّمهم قول الله -عز وجل-: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، علَّمهم معه أن الاستواء معلوم وأن الكيف مجهول وأن الإيمان به واجب وأن السؤال عنه بدعة...
وإذا حفَّظهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة"([13])؛ نبههم بعده أن العمل الصالح لابد منه ولا غنى عنه، وأن هذا الحديث يتكلم عن علم الله المسبق بالأشياء، وأن من يُختم له بالسوء مع عمله الصالح لم يكن مخلصًا فيه؛ بل كان مرائيًا... ولا يتركهم تتلاعب بهم الشياطين.
ولتكن -أخي الخطيب- حريصًا على تثقيفهم الثقافة الحقة كحرصك على تعليمهم العلم الصحيح والمعتقد الصحيح.
يُتبع إن شاء الله
[1])) رواه البخاري (1426)، ومسلم (5355).
[2])) رواه مسلم (995).
[3])) إحياء علوم الدين، للغزالي (3/404)، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
[4])) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 245)، ط: مكتبة دار البيان، دمشق.
[5])) رواه البخاري (6502).
[6])) إحياء علوم الدين، للغزالي (3/404)، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
[7])) مجموع الفتاوى (20/54)، ط: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية.
[8])) المراد بالتدوير هنا: إعادة التشكيل، و"التدوير" مصطلح يُستخدم في الصناعات اليوم؛ يقولون: "تدوير الحديد القديم" ويقصدون: صهره وإعادة تشكيله بأشكال جديدة.
[9])) رواه البخاري (450)، ومسلم (533).
[10])) رواه البخاري (2810)، ومسلم (1904).
[11])) ينظر: مقدمة كتاب "إعادة تشكيل العقل المسلم" د. عماد الدين خليل (ص: 12)، الصادر ضمن سلسلة "كتاب الأمة" بدولة قطر.
[12])) رواه ابن حبان من حديث عمران بن حصين (80)، وأحمد من حديث عمر بن الخطاب (143)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1013).
[13])) رواه مسلم (2651).
التعليقات