عناصر الخطبة
1/النهي عن استعجال إجابة الدعاء 2/لله تعالى الحكمة البالغة في المنع والعطاء 3/وسائل إجابة الدعاء 4/محاورة ابن الجوزي مع نفسه في إجابة الدعاء.اقتباس
يا عبد الله! إن في المنع عطاء لا يُدْرَك إلا مع الوقت، وفي عدم إجابة الدعاء حماية لن تكتشفها إلا إذا دارت الأيام بك؛ فأسلم خطام نفسك لرَبّك، وقل له: "ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك"، وماذا على الإنسان لو يستسلم لخالقه ويُسلم لربه فيسلم؟!
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الحكيم الخبير يعلم سرنا وجهرنا وهو السميع البصير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله يا خير أمة، وكونوا ممن رضي بالله ربًّا.
ومضى رمضان بلياليه الجميلة وروحانيته الفريدة، فكم انطلقت في تلك الليالي من دعوات في الحناجر، وترقرقت دموع في المحاجر!، كم سالت من عبرات!، وكم أُقيلت من عثرات!، وكم رفعت من دعوات!
وتمضي الأيام وأولئك الذين لجت حناجرهم بالدعوات ينتظرون ثمار دعواتهم ونتائج ابتهالاتهم، ينتظرون في الصباح نتاج دعوات المساء، ومع مرور الأيام والداعي لا يرى في الظاهر ثمار دعواته يتسلل إليه اليأس، ويسيطر عليه القنوط ويغلب عليه السآمة والكلل والملل، وتخرج من فلتات لسانه كلمات تُعبّر عن ذلك الملل واليأس.
وإذا لم ينطق اللسان نطق بها الجنان: قد دعوت فلم أُرَ يستجب لي، سألت الله كثيرًا أن يرزقني فما رزقني، استغفرت كثيرًا فلم أجد للاستغفار تفريجًا لهم ولا كسبًا لرزق، تركت أشياء لله فلم يعوضني خيرًا منها، أرى غيري أكثر ذنوبًا وأحسن مني حالاً، ونحو هذه الكلمات التي أورثتهم ضعفًا في الدعاء واهتزازًا في اليقين.
إن هؤلاء وأمثالهم بحاجة إلى تعلم فقه العبودية لله، والتي تعني ألا تشترط على الله، وألا يعترض على قضاء وحكم مولاه، وتقتضي أن تؤمن أن كل ما جاءك، ولو كان ذرة من خير فأنت لا تستحقه، وإنما هو فضل من الله ونعمة، وأن نوقن في قرارة نفوسنا أننا مذنبون مقصرون ظالمون جاهلون، وأنه لا حق لنا عند الله إلا ما كتبه على نفسه.
العبودية تقتضي أن يوقن العبد أنه خادم عند سيده، وأنه مهما خدم سيده سيبقى مقصرًا، وأن مجرد إذن سيده له بخدمته هو فضل منه؛ فالتحلي بالعبودية لله شرف وعزّ وحرية حقيقية. والعبودية تتطلب الخضوع لله، ولو خضع العبد لم يرد إلا ما أعطاه الله، ولم يرض إلا بما اختاره الله.
يا أيها المستيئس من الإجابة: كيف غاب عنك الموجود، وجعلت همّك في المفقود؟! استعرض شريط حياتك وتحسّس لطف الله الكامن في أدقّ تفاصيله، ألم يعطك مرارًا عقب المنع؟ ويبدّل ضرك عافية، ويتولاك في أعتى أزماتك؟!
إن لله في كل لحظة من لحظات حياتك لطفًا يحتضنك، وسترًا يغشاك، وعفوًا يسبغك، والله ذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
يا من تقول استغفرت فلم أجد أثرًا، وتصدقت فلم أجد عوضًا: من الذي عيّشك فيما مضى من عمرك؟! من أطعمك؟! من سقاك؟! من عافاك؟! أليس هو الله العظيم الكريم الرحمن الرحيم؟!
مَن الذي وفَّقك للذكر والاستغفار؟ من الذي أعطاك لتتصدق؟ من الذي أعطاك عينين ولسانًا وشفتين وهداك النجدين؟!، هل سألت ربك يومًا أن يعطيك عينين أو لسانًا أو شفتين أو قلبًا ينبض، أو عقلا يفكّر، أو كِلْية تعمل أو دمًا يجري في عروقك بالحياة.
إنك لم تسأله ذلك؛ لأنها نعم لم تفقدها، وقد أعطاكها الله ولم تسألها، فكيف تشكو ربك وتقول: دعوته فلم يرزقني ولم يعطني.
إن هؤلاء وأمثالهم بحاجة إلى التذكير بألا يكون لديهم صورة محددة للرزق وإجابة الدعاء، لماذا نحصر الرزق في المال ومتع الحياة؟!.. فحينما لم ترزق ما سألت ظننتَ أن الله ما أعطاك.
إن الرزق لا يُقاس بالكثرة، وإنما يُقاس بالقناعة وملاحظة النّعم، فحين تسأل الله الرّزق، لا تقف منتظراً هذا الرزق، بل عدّد على نفسك وفرة النّعم التي أعطاك الله إيّاها، حينها ستدرك فعلاً أن الله يرزقك ويعطيك ولا يزال يعطيك.
يا أيها المستبطئ للإجابة: حينما تستغفر وتذكر وتصلي وتصوم وتتصدق فلا تفعل ذلك لأجل الرزق فحسب! بل افعل ذلك تقرّبًا وتعبّدًا لله، فمتعة الاستغفار ليست في انتظار ثمرته من الرزق، وإنما متعة الاستغفار في صدق الانطراح بين يدي الله، والاعتراف بين يديه والتلذّذ بالقرب منه. وتأكّد تمامًا أن رصيدك من الاستغفار والدعاء. إن لم تجده اليوم في الدنيا، فستجده في الآخرة عملاً يكون لك شفيعًا عند ربك -بإذن الله- فإن شئت أن تستقلّ من الاستغفار أو تستكثر.
يا أيها الداعي ربه: اعلم أن الله وكيل عليك وليس وكيلاً عنك؛ فإذا دعوت الله ولم تر إجابة فاعلم أنه قد أجابك، ولكنك اخترت عين الشيء، واختار الله غايتك منه؛ فثق بالله وارضَ بقسمته فله الحُكْم والحكمة، وما أنت عند انكشاف الحُجُب إلا حامد لقضائه فيما غاب عنك في المنع والإعطاء، إنه الحكيم العليم يُدبّر الأمر ويخلق ما يشاء ويختار، ينظر في المصالح والمفاسد، ويحقق ما يشاء ويمنع ما يشاء، ويدخر الأجر أو يدفع مصيبة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
يا أيها الداعون المستبطئون: لا تظنوا أن الدعاء يُستجاب بمجرد النطق به؛ فللدعاء شروط للاستجابة وموانع تحول دونه وفي الحديث: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ".
والاستجابة لا تعني تحقيق ما تطلب وتريد، وإنما مرجع ذلك إلى حكمة الله ورحمته واختياره لعبده وفي الحديث "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا"، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ".
يا معشر الداعين الآيسين: يقول ربنا: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر"، وإن كلمات اليأس والقنوط وعبارات الجزع من عدم تحقيق مطالبكم هو أذًى لله، وانتقاص لجلاله، وجحود لكرمه وأفضاله وهو القائل (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:53].
يا أيها الداعي: اسأل الله ما شئت، وادع بما شئت ومتى شئت، ولكن علّق القلب بمن دعوتَ ومَن سألتَ، لا بما سألتَ ودعوتَ، وثق أن الله سيختار لك ما يُصلحك.
إن دعواتكم التي همستم بها في سجداتكم قد سمعها السميع البصير، وارتقت إلى سماء الحكمة وحُسن التدبير؛ فثقوا أن الله لن يضيّعها، وستجدون غبّها ولو بعد حين، فأحسنوا الظن بربكم، ولا تملوا من الدعاء ولا تكلوا ولا تعجلوا، فهل أنتم أعلم وأرحم أم الله؟!، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وكم لله في تدبيره من حكمة ولطف؛ فسلموا واستسلموا للخالق المجيد...
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "رأيت من البلاء أن المؤمن يدعو فلا يُجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثرًا للإجابة؛ فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر!!
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مَرَض يحتاج إلى طبّ؛ ولقد عرض لي من هذا الجنس؛ فإنه نزلت بي نازلة فدعوت فلم أرَ الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده، فتارة يقول: الكرم واسع، والبخل معدوم، فما فائدة التأخير؟!
فقلت له: اخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً، ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياكِ ومساكنةَ وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو، لكفى في الحكمة.
قالت: فَسَلِّني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة!!
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله -عز وجل- مَالِك، وللمَالِك التصرُّف بالمنع والعطاء؛ فلا وَجْه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيتِ الشيء مصلحةً، والحكمةُ لا تقتضيه.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي".
الرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيكِ؛ فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك، في منع حاجتك، لذنبٍ ما صدقتِ في التوبة منه.
فابحثي يا نفس عن بعض هذه الأسباب لعلك تقعين بالمقصود.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب؛ فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخيرٌ عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح، وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أُسِرْت، وإن أُسِرْت تنصرت!!
والسادس: أنه ربما كان فقد ما فقدته سببًا للوقوف على الباب واللجوء إلى الله، وحصوله سببًا للاشتغال به عن المسؤول، وهذا الظاهر؛ بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك!!
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك؛ من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى ربّ الأرباب.
يا عبد الله! إن في المنع عطاء لا يُدْرَك إلا مع الوقت، وفي عدم إجابة الدعاء حماية لن تكتشفها إلا إذا دارت الأيام بك؛ فأسلم خطام نفسك لرَبّك، وقل له: "ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك"، وماذا على الإنسان لو يستسلم لخالقه ويُسلم لربه فيسلم؟!
اللهم صلِّ وسلِّم...
التعليقات