عناصر الخطبة
1/الانقياد لله وأهميته في إصلاح العبد لدينه 2/مظاهر الانقياد لله وصوره 3/أثر الانقياد في إصلاح دين العباد ومساوئ غيابه.اقتباس
إِنَّ الِانْقِيَادَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالتَّسْلِيمَ لَهُ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَالْمَلْجَأُ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَرَزَايَاهَا، هُوَ الْمَلَاذُ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمَضْمُونُ لِلْوُصُولِ إِلَى جَنَّةِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ التَّطْبِيقُ الْعَمَلِيُّ لِلْإِيمَانِ بِكَلِمَةِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدٌ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَلَا يَتَحَقَّقُ لِلْعَبْدِ شَرَفُ الْعُبُودِيَّةِ لِمَوْلَاهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَا تَتَجَسَّدُ حَقِيقَةُ تِلْكَ الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يُطِيعَهُ وَيَسْتَسْلِمَ لَهُ وَيَنْقَادَ لِأَوَامِرِهِ وَتَتَيَقَّنَ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَيَخْضَعُ الْعَبْدُ وَيَذِلُّ وَيَنْقَادُ الِانْقِيَادَ الْكَامِلَ لِسَيِّدِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَبْدًا حَقِيقِيًّا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الِانْقِيَادَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالتَّسْلِيمَ لَهُ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَالْمَلْجَأُ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَرَزَايَاهَا، هُوَ الْمَلَاذُ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمَضْمُونُ لِلْوُصُولِ إِلَى جَنَّةِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ التَّطْبِيقُ الْعَمَلِيُّ لِلْإِيمَانِ بِكَلِمَةِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ مُذْعِنٌ مُنْقَادٌ لِلَّهِ -تَعَالَى- لَا يُجَادِلُ وَلَا يُرَاوِغُ، بَلْ يُسَلِّمُ وَيُطِيعُ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الْأَحْزَابِ: 36].
وَلَا صَلَاحَ لِدِينِ الْعَبْدِ وَلَا اسْتِقَامَةَ لِإِيمَانِهِ حَتَّى يُلَبِّيَ أَوَامِرَ دِينِهِ صَادِقًا مِنْ جَوْفِ قَلْبِهِ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ؛ (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[النُّورِ: 51]، تَمَامًا كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الْبَقَرَةِ: 131]، أَيْ: أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ فَخَضَعَ وَاسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ.
وَالِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ كَذَلِكَ عَلَامَةُ الْإِيمَانِ، مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النِّسَاءِ:65].
وَالِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ -تَعَالَى- نَجَاةٌ لِلْعَبْدِ مِنْ غَضَبِ مَوْلَاهُ، فَالْمُسْتَسْلِمُ لِلَّهِ فِي أَمَانٍ مِنَ الْعِقَابِ، بَلْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ أَلَّا يُعَذِّبَهُ أَبَدًا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)[لُقْمَانَ: 22]؛ أَيْ: وَمَنْ يُخْلِصُ لِلَّهِ الْعَمَلَ وَيَنْقَادُ وَيَسْتَسْلِمُ لِأَمْرِهِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِأَوْثَقِ مَا يُتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَخَذَ مَوْثِقًا مَتِينًا مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الِانْقِيَادَ لِلَّهِ -تَعَالَى- لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ بِاللِّسَانِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْطَبِعَ عَلَى الْأَرْكَانِ وَأَنْ تُطَبِّقَهُ الْجَوَارِحُ، وَلِذَلِكَ مَظَاهِرُ وَصُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ؛ مِنْهَا:
الرِّضَا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا؛ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَلَا يَدَّعِيَنَّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)[النِّسَاءِ: 60-61]؛ فَمَا رَغِبَ عَنِ التَّحَاكُمِ لِدِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَّا مُنَافِقٌ.
نَعَمْ، إِنَّهُمْ مَرْضَى الْقُلُوبِ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، يَشُكُّونَ فِي صَلَاحِيَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ لِلتَّطْبِيقِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ يَكْشِفُ حَالَهُمْ؛ (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ)[النُّورِ: 48-50].
أَمَّا هَذَا فَرَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ حُرِّمَ عَلَيْهِ لُبْسُ الذَّهَبِ، بَلْ وَأَبَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي غَيْرِ اللُّبْسِ مَعَ أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ!"، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، إِنَّهُ لَيْسَ فَقَطْ تَسْلِيمًا وَانْقِيَادًا لِلدِّينِ، بَلْ وَرِضًا وَامْتِثَالًا وَتَفْوِيضًا وَحُبًّا.
وَمِنْهَا: الِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْحِكْمَةُ؛ فَلَوِ اقْتَصَرْنَا فِي طَاعَةِ رَبِّنَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ مِنْ تَشْرِيعَاتِهِ لَمَا كُنَّا مُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَلَا مُنْقَادِينَ لَهُ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ الْأَوَامِرِ مَعْرُوفَةَ الْحِكْمَةِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "كَمَالُهُ -تَعَالَى- يَأْبَى إِطْلَاعَ خَلْقِهِ عَلَى جَمِيعِ حِكْمَتِهِ".
وَلَا تَظْهَرُ حَقِيقَةُ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَعُبُودِيَّتِهِ الْحَقَّةُ إِلَّا حِينَ يَمْتَثِلُ بِلَا قَيْدٍ وَلَا شَرْطٍ، تَمَامًا، كَمَا فَعَلَ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَدْ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلَقَدْ ضَرَبَ نَبِيُّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- الْقُدْوَةَ فِي التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ، حِينَ هَمَّ الْأَبُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَامْتَثَلَ الْوَلَدُ لِأَمْرِ رَبِّهِ؛ (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصَّافَّاتِ: 102]... وَقَبْلَ ذَلِكَ أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِتَرْكِ أَهْلِهِ فِي الصَّحْرَاءِ فَتَرَكَهُمَا، "فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَتُسْأَلُ عَائِشَةُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَتُجِيبُ: "كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)؛ هَذَا هُوَ السَّبَبُ وَهَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ عِنْدَهَا: "أَنَّنَا أُمِرْنَا"، وَإِذَا أُمِرَ الْعَبْدُ فَمَا لَهُ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ سَيِّدِهِ.
وَفِي الْحَجِّ مَشَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِلِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلِلطَّاعَةِ غَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ؛ كَالْإِحْرَامِ مِنْ أَمَاكِنَ مُعَيَّنَةٍ، وَرَمْيِ الْجَمَرَاتِ، وَجَعْلِ الْكَعْبَةِ عَلَى يَسَارِ الطَّائِفِ... فَنَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ نُدْرِكِ الْحِكْمَةَ مِنْهُ.
وَهَذَا هُوَ حَالُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَسْلِمِ الْمُنْقَادِ لِلَّهِ؛ يُطِيعُ أَمْرَ الشَّرْعِ حَتَّى لَوْ ظَنَّ عَقْلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ خَيْرًا لَهُ، يُحَدِّثُنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا؛ نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ..."(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، فَكِرَاءُ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا لَا يَجُوزُ.
وَمِنْهَا: تَقَبُّلُ الْمَصَائِبِ بِقَلْبِ الْمُسْتَسْلِمِ لِقَضَاءِ اللَّهِ؛ بِقَلْبِ مَنْ آمَنَ بِقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 216]؛ فَقَدِ اتَّفَقْنَا أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ عَلِمْنَاهَا أَوْ جَهِلْنَاهَا، وَالِانْقِيَادُ وَاجِبٌ فِي الْحَالَيْنِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِيمَا لَمْ تَعْلَمْهُ أَعْظَمُ مِنْهَا فِيمَا عَلِمْتَهُ؛ فَإِنَّ الَّذِي عَلِمْتَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ وَفَهْمِكَ، وَمَا خَفِيَ عَنْكَ فَهُوَ فَوْقَ عَقْلِكَ وَفَهْمِكَ".
وَيَحْكِي ابْنُ الْقَيِّمِ -رحمه الله- فَيَقُولُ: "لَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى مَكَّةَ -وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ- جَعَلَ النَّاسُ يَهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ؛ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ فَعَرَفَنِي، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ، فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي".
وَمِنْهَا: سُرْعَةُ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وَهَذَا هُوَ التَّطْبِيقُ الْعَمَلِيُّ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ لِلِانْقِيَادِ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْفَاضِلِ وَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي ذَلِكَ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: "اجْلِسُوا"، فَسَمِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَجَلَسَ فِي بَنِي غُنْمٍ.(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ)، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "زَادَكَ اللَّهُ طَاعَةً".
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟"، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا...(رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ)؛ فَلَمْ يَنْتَظِرُوا أَمْرًا نَبَوِيًّا مُبَاشِرًا، بَلْ نَفَّذُوا فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ بِلَا تَمَهُّلٍ.
وَيَرْوِي أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنَادِيًا يُنَادِي: "أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ"، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَلَا سَبَبَ لِجَرَيَانِهَا إِلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ خَرَجَ فِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ الَّتِي سَمِعُوا فِيهَا الْمُنَادِيَ فَسَكَبُوهَا فَوْرًا وَحَالًا دُونَ تَلَبُّثٍ وَلَا تَرَيُّثٍ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا سَلَّمَتْ أَمَرَهَا لِبَارِئِهَا وَانْقَادَتْ لِأَوَامِرِهِ، أَفَاضَ ذَلِكَ عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرَاتِهَا؛ وَمِنْ تِلْكَ الثَّمَرَاتِ:
الْبَرَكَةُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ؛ فَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ وَلَدًا لِأَبِي طَلْحَةَ مَاتَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَخَبَّأَتِ امْرَأَتُهُ الْخَبَرَ عَنْهُ حَتَّى تَغَشَّاهَا، فَلَمَّا قَصَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ لَهُ: "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا"، فَرُؤِيَ لَهُمَا تِسْعَةُ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَبِسَبَبِ مَا أَسَرَّتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِقَضَاءِ اللَّهِ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمَا بَرَكَةُ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَمِنْهَا: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْأَمَانُ؛ وَمَنْ أَوْلَى بِالطُّمَأْنِينَةِ مِمَّنْ فَوَّضَ لِلَّهِ أَمَرَهُ؟! وَأَرَاحَ عَقْلَهُ مِنْ شَقَاءِ التَّدْبِيرِ، وَرَكَنَ إِلَى الرُّكْنِ الشَّدِيدِ، وَخَرَجَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ إِلَى حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَصَدَقَ اللَّهُ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ)[النِّسَاءِ: 46]، وَصَدَقَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاءِ: 66-69].
وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَنْزَلَ عَقَلَهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ، وَقَدَّمَ الْعَقْلَ عَلَى النَّقْلِ، ضَلَّ فِي مَتَاهَاتِ الظَّنِّ وَالْحَيْرَةِ، وَتَاهَ فِي غَيَاهِبِ الشَّكِّ وَالتَّخَبُّطِ، أَوَمَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الْأَحْزَابِ: 36].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِكَ، الْمُنْقَادِينَ لِدِينِكَ، الْمُسْتَسْلِمِينَ لِجَلَالِكَ، اللَّائِذِينَ بِحِكْمَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَكَمَالِكَ...
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات