عناصر الخطبة
1/اجتناب المحرمات حماية للدين وسبب لصلاحه 2/وسائل معينة على اجتناب المحرمات 3/آثار الوقوع في المنهيات على الدين.اقتباس
وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ خَرْقًا لِدِينِ الْمَرْءِ تُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَتُقْصِيهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اجْتِنَابَهَا صِيَانَةٌ لِدِينِهِ مِنَ الْخُرُوقِ، وَحِمَايَةٌ لِقَلْبِهِ مِنَ اخْتِرَاقِ الشَّيْطَانِ لَهُ... وَمَنْ تَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ فَهُوَ أَعْبَدُ خَلْقِ اللَّهِ لِلَّهِ، بِشَهَادَةِ"...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دَائِرَةَ الْحَلَالِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْسَعُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَائِرَةِ الْحَرَامِ! وَأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَحَلَّ كُلَّ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مُفِيدٍ، وَاسْتَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ شَيْئًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الْأَعْرَافِ: 32]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)[الْبَقَرَةِ: 168]. وَلَمْ يُحَرِّمْ دِينُنَا إِلَّا كُلَّ خَبِيثٍ مُضِرٍّ، قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...)[الْأَعْرَافِ: 33]، وَإِجْمَالًا يَقُولُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الْأَعْرَافِ: 157]، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ تِلْكَ الْخَبَائِثَ وَالْمُوبِقَاتِ إِلَّا لِصَلَاحِ دِينِ الْعَبْدِ وَفَلَاحِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اجْتِنَابَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْبُعْدَ عَنِ الْمَعَاصِي حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ وَنُورٌ لِلْفُؤَادِ وَانْشِرَاحٌ لِلصَّدْرِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَبْعَدَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّمَا كَانَ أَطْهَرَ لِقَلْبِهِ وَأَسْلَمَ لِدِينِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ عَنْ تَرْكِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَتْرُكُ الْمُحَرَّمَاتِ نَفْسَهَا؟!
وَقَدْ حَمَلَ الْقُرْآنُ كَثِيرًا مِنَ الْبُشْرَيَاتِ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، خَاصَّةً أَكْبَرَهَا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ؛ (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى)[الزُّمَرِ: 17]؛ يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ، وَعِنْدَ وَضْعِهِمْ فِي الْقَبْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَبْرِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ، وَعِنْدَ جَوَازِ الصِّرَاطِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ... كُلُّ ذَلِكَ بِاجْتِنَابِهِمْ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَالْمُفْلِحُ -بِحَقٍّ- هُوَ مَنِ اجْتَنَبَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْمَائِدَةِ: 90]؛ يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: "فَأَمَرَ -تَعَالَى- بِاجْتِنَابِ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَجَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلَاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خُسْرَانًا".
وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ خَرْقًا لِدِينِ الْمَرْءِ تُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَتُقْصِيهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اجْتِنَابَهَا صِيَانَةٌ لِدِينِهِ مِنَ الْخُرُوقِ، وَحِمَايَةٌ لِقَلْبِهِ مِنَ اخْتِرَاقِ الشَّيْطَانِ لَهُ.
وَمَنْ تَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ فَهُوَ أَعْبَدُ خَلْقِ اللَّهِ لِلَّهِ، بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، يَقُولُ الْمُنَاوِيُّ: " أَيْ: مِنْ أَعْبَدِهِمْ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْمَحَارِمِ فِعْلُ الْفَرَائِضِ، فَبِاتِّقَاءِ الْمَحَارِمِ تَبْقَى الصَّحِيفَةُ نَقِيَّةً مِنَ التَّبِعَاتِ، فَالْقَلِيلُ مِنَ التَّطَوُّعِ مَعَ ذَلِكَ يَنْمُو وَتَعْظُمُ بَرَكَتُهُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمُتَّقِي مِنْ أَكَابِرِ الْعُبَّادِ".
-أَيْضًا- فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ زَاحَمَ الْمُهَاجِرِينَ فِي لَقَبِ: "مُهَاجِرٌ"، فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدَّمَ تَعْرِيفًا لِلْمُهَاجِرِ الْحَقِيقِيِّ قَائِلًا: "... وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)؛ يَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ -رحمه الله-: "فَأَصْلُ الْهِجْرَةِ: هِجْرَانُ الشَّرِّ وَمُبَاعَدَتُهُ".
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ دِينَنَا يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ دَوْمًا بِاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهَذَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)[الْحُجُرَاتِ: 12]، وَيَقُولُ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[الْحَجِّ: 30]، وَقَالَ نَبِيُّ الْإِسْلَامِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)... وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ أُمُورًا مُعِينَاتٍ تُسَاعِدُ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمِنْهَا:
اسْتِشْعَارُ نَظَرِ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ: فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- نَاظِرٌ إِلَيْهِ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، خَافَ وَوَجِلَ أَنْ يَعْصِيَهُ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الْحَدِيدِ: 4]، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الْقَائِلُ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الْمُجَادَلَةِ: 7]، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلْيَذْهَبْ إِلَى مَكَانٍ لَا يَرَاهُ فِيهِ اللَّهُ!
وَمِنْهَا: الْحَيَاءُ: فَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ النَّاسِ فَيَمْنَعُ الْمَرْءَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةَ أَمَامَ عُيُونِهِمْ، خَاصَّةً الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ فَحَقِيقَتُهُ تَرْكُ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ كُلِّهَا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
وَمِنْهَا: غَلْقُ أَبْوَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَعَدَمُ وُلُوجِهَا؛ فَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، عَلَى كَتِفَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى الصِّرَاطِ دَاعٍ يَدْعُو يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْلُكُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعْوَجُّوا، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ فَتْحَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْلَكَ لَا تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّتُورُ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي الَّذِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقُ وَاعِظُ اللَّهِ، يَذْكُرُ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ).
وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْبُعْدِ عَنْ أَمَاكِنِ الْمَعَاصِي كَمَا أَمَرَ اللَّهُ؛ (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)[الْفُرْقَانِ: 72]، وَبِغَلْقِ أَبْوَابِهَا، وَقَطْعِ التَّفْكِيرِ فِيهَا إِنْ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي الْقَلْبِ...
وَمِنْهَا: الْأَخْذُ بِأَسْبَابِ الْعَفَافِ: فَإِنْ كَانَ مَا يَدْعُو إِلَى الزِّنَا هُوَ الشَّهْوَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ قَائِلًا: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النُّورِ: 33]، وَهُوَ مَا أَكَّدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ: فَفِي التَّوْبَةِ الْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابُهَا، وَقَدْ طَلَبَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الْعِبَادِ فَقَالَ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وَبَابُهَا مَفْتُوحٌ دَائِمًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا، فَتَحَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْأَنْعَامِ: 54]، وَمَهْمَا كَانَتِ الْخَطَايَا عِظَامًا؛ فَإِنَّهَا لَا تَعْظُمُ بِجَانِبِ رَحْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ- وَتَعَالَى-: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النِّسَاءِ:110].
وَمِنْهَا: تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَطَاعَهُ، وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ -تَعَالَى- امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ مَا لَا يُرْضِيهِ، وَرَحِمَ اللَّهُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ حِينَ قَالَ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ *** هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ *** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ آثَارًا سَلْبِيَّةً عَلَى دِينِ الْعَبْدِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
وَهْنُ دِينِهِ وَرِقَّتُهُ وَضَعْفُ إِيمَانِهِ؛ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ مُعَدِّدًا عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي؛ "الْمَعَاصِي تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ؛ أَمَّا وَهَنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ، بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُهُ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ، وَأَمَّا وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ"، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَمِنْهَا: هَوَانُ أَمْرِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْعَبْدِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَثُرَتْ مَعَاصِيهِ تَجَرَّأَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَصَارَ لَا يَكْتَرِثُ بِحَلَالٍ أَوْ بِحَرَامٍ! وَمَا أَبْشَعَهُ مِنْ خَرْقٍ فِي إِيمَانِ الْعَبْدِ، وَمَا أَقْبَحَهَا مِنْ ثُلْمَةٍ فِي دِينِهِ، يَقُولُ ابْنُ الْقِيِّمِ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ، حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ، وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ"، يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ".
وَإِذَا هَانَتِ الْمَعْصِيَةُ عَلَى الْعَبْدِ سَقَطَ الْعَبْدُ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ، وَبِقَدْرِ جُرْأَةِ الْعَبْدِ عَلَى مَحَارِمَ رَبِّهِ بِقَدْرِ هَوَانِهِ عَلَى اللَّهِ، يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ".
وَمِنْهَا: حُبُوطُ الْأَعْمَالِ وَضَيَاعُ الْأَجْرِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَجْنِي عَلَى الطَّاعَاتِ وَتُضَيِّعُ أَثَرَهَا، وَقَدْ سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرَبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى)، وَيَقُولُ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَقَدِ اشْتَرَطَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَبُولِ الْحَجِّ تَرْكَ الذُّنُوبِ فَقَالَ: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَمِنْهَا: قَسْوَةُ الْقَلْبِ وَظُلْمَتُهُ وَغَلَبَةُ الرَّانِ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَتْ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تُغْلِقَ قَلْبَهُ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 14](رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى)، وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ *** وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
ثُمَّ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمُرَّةُ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النِّسَاءِ: 14]، وَقَدْ يَسْبِقُ ذَلِكَ: الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا؛ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ، وَفِيهِ فَضِيحَةٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات