عناصر الخطبة
1/بشارة الله ووعده عند العسر 2/التفاؤل والصبر عند العسراقتباس
على قدر معرفة العبد بخالِقِهِ -عزّ وجلّ-، يكونُ كمالُ إيمانِهِ، وخشيتِهِ لربِّهِ، وكُلَّمَا كانَ العبدُ جَاهِلًا بخالِقِهِ -عزّ وجلّ-، كانَ إيمانُهُ نَاقِصًا، ومَا تَجَرَّأَ عَبْدٌ عَلى مَعْصِيَةِ اللهِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 194].
فأبشرُوا -أيُها الإخوةُ- وأمِّلُوا؛ فإن اللهَ -تعالى- وعَدَ، وهو لا يُخلفُ الميعادَ وإذا جازَ تخلُّفُ وعودِ البشرِ، فوعدُ اللهِ لا يتخلَّفُ؛ فما البشارةُ؟ وما الوعدُ؟ إنهما في قوله سبحانَه: (فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)[الشَّرْحِ: 5-6].
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ". يقصدُ بذلكَ أن العسرَ الثانيَ هو نفسُ الأولِ، وأن اليسرَ الثانيَ غيرُ الأولِ. ولاحظ كلمة (مع) مَعَ العُسْرِ لا بعدَه؛ لينبِهَ إلى قُربِ تحققِهِ، حتى كأنه معه، ولينبهَ أيضاً إلى أن كلَ عسرٍ مقرونٌ بيسرٍ كثيرٍ؛ فما من مصيبةٍ يبتلَى بها عبدٌ إلا وللهِ فيها ألطافٌ بأن لم يجعلها على نحوٍ أعظمَ أو أطولَ مما هيَ عليه.
ولنوقنْ أن العسرَ قد يكون في ظاهرِهِ شرّاً، ثم تكونُ العاقبةُ خيراً بإذنِ اللهِ، ولنتفاءلْ بتباشيرِ النصرِ بين جنباتِ العسرِ:
فالحادثـــاتُ متى تناهــَتْ *** فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ
وسنةُ اللهِ -تعالى- أنه حين تشتدُ الأزماتُ وتتفاقمُ يأتيْ اليسرُ والفرجُ، أرأيتمْ كيفَ فرَّجَ اللهُ للأمةِ بعدَ الهجرةِ وقد عاشتْ قبلها أصعبَ الظروفِ؟ وفي الأحزابِ بلغتِ القلوبُ الحناجرَ وظنَ الناسُ بعدها الظنونُ، فجاءَ الفرجُ، ونزلَ النصرُ.
ففي معتركِ المصائبِ أَوْقِد جذوةَ التفاؤلِ، وعِشْ في أملٍ وعملٍ ودعاءٍ وصبرٍ، ولا تَبْنِ من المصيبةِ سجناً تحبسُ فيه نفسَك، لكن تطلع لليسرِ الذي يتبعُ كلَ عسرٍ. تفاءَل حتى لو دهمكَ مرضٌ أو فقرٌ أو فقدتَ ولدًا أو زوجةً. تفاءلْ مع العملِ على دفعِ ما يقدَّر من بلاءٍ أو تخفيفِ ما نزلَ بمن حولَكَ من لأواءٍ، ثمّ اطمعْ في ثوابِ الصابرينَ. تفاءلْ لأنّ في كلّ محنةٍ منحةً، ولما شكَتْ أمُّ السائبِ الحمّىَ وقالت: لا باركَ اللهُ فيها، نهاها النبيُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَالَ: لاَ تَسُبِّى الْحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِى آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
إن المتفائلينَ واثقونَ بفرجِ اللهِ، وكشفهِ لكرباتِهم، وهم وحدَهم الذينَ يستطيعونَ بتوفيقِ اللهِ مواجهةَ المصائبِ والمصاعبِ المتلاحقةِ والمتلاطمةِ، أما مَن سواهم فهم بين طرفينِ؛ طرفٍ لا يرى إلا بعينِ السيئاتِ فيموتُ في هَمِّه، وآخرَ لا يرى إلا بعينِ الحسناتِ فيغرَق في وَهْمِه، فمن يدعي أنه متفائلٌ ويقعدُ عن العملِ فعاجزٌ لا متفائلٌ، وما حُمِد التفاؤلُ إلاّ لأنه يدفعُ للمُضيِ، ويطردُ اليأسَ، فإذا بطلَ الشعور هذا فليسَ بتفاؤلَ.
(فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً) وإن بعدَ الليلِ فجرًا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف:21]. ولكنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى صبرٍ وعملٍ، فطريقُ الرفعةِ والسعادةِ ليس مفروشاً بالورودِ.
فلنُطِلَّ بالنفْسِ ولْنُطِلِ النفَسَ، أن ربَنا سبحانَه: إن شاءَ نصرَ مَن معه الأسبابُ، كما هيَ سنتُه في خلقِهِ، وإن شاءَ نصرَ المستضعفينَ الأذلينَ؛ ليبينَ لعبادِه أن الأمرَ كلَه بيدِه: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)[محمد:4].
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المصطفَى، أما بعدُ:
فيا مَن أصابتْهُ الهمومُ، وتكالبَ عليه العسرُ تلوَ العسرُ: اعلم أنه كلَما قويَ رجاؤُكَ بربِك، واشتدتْ حاجتُك، وبلغَ بك الاستيئاسُ ذروتَه فاعلمْ "أَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". واعلمْ أن اللهَ حينما ابتلاكَ بتراكُمِ الشدائدِ لا ليعذبَك، ولكنْ ليهذبَك.
فلتتسلحْ بسلاحِ نبيِ اللهِ يعقوبَ، الذي قالَ أولَ ما صنعَ أبناؤُه بأخيِهِم يوسفَ -عليهم السلام-: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ)[يوسف:18] وعندما فقدَ بِنيامينَ أخا يوسفَ، ثم الابنَ الأكبرَ قالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يُوسُفَ:83]. وعندما اشتدَ به البلاءُ مَدَاه، وبلغَ به الكَربُ مُنتهاهُ، وعُوتبَ على تذكرِ يوسفَ قالَ: (إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[يوسف:86].
فماذا كانتِ النتيجةُ؟ قد أجابَ اللهُ دعاءَ عبدِه، وعجلَ فرجَه، ونفّسَ كربَه، وأفرح قلبَه، وجمعه بفلذاتِ كبدِه، هذا في الدنيا، وإن له في الآخرةِ لَلحُسنى.
فاللهم يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ: اللهم فرجْ كروبَنا، ويسر عسيرَنا، وفرجْ همومَنا، واقضِ ديونَنا. اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أشَقِياء، وَكُنْ بِنا رَءُوفًا رَحِيمًا.
اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ. اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
اللَّهُمَّ إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا. اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ.
اللهم احفظْ دينَنا وبلادَنا ونفوَسنا وأمنَنا وحدودَنا وجنودَنا، وقادَتَنا. اللهم احفظ ووفقْ وسدِّدْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ.
نستغفر الله الحي القيوم ونتوب إليه. اللهم اسقنا الغيث ولا تعلنا من القانطين. اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
التعليقات