عناصر الخطبة
1/ تقديم كثير من الناس العمل على الصلاة 2/ خطر إهمال المحافظة على الصلاة 3/ أثر المحافظة على الصلاة 4/ دلائل أن الصلاة مفتاح الرزق 5/ أطع ربك واسع لرزقكاقتباس
فالصّلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعة أدواء القلوب، ومَطْرَدَة داءِ الجسد، ومُنوِّرة القلب، ومُبيِّضَة الوجه، ومُنشِّطة للجوارح والنفس، ومفتاح الرزق؛ فيا ليتنا إذا وجدنا ضيقا في أرزاقنا جددنا عهدنا مع الصلاة، يا ليت منّا من إذا...
الخطبة الأولى:
ما أجمل أن تتحلّى الأمّة بالنّشاط والجدّ، فترى الرائحين والغادين، يتكسّبون من عرق الجبين، لا ينتظرون يدا تنفق عليهم، ولا يتطلّعون إلى جيوب تُدرُّ عليهم. غير أن هذا المنظر الجميل سينقلب لمظهر ذميم حين يكون ذلك النشاط والجد سببا في التفريط في أعظم شعيرةٍ بعد التّوحيد ألا وهي الصلاة؛ فما أكثر ما يَرَى السّاعي إلى المسجد في الفجر أقواما يفتحون حوانيتَهم عند أذان الصّبح بل وقبله؛ كأنّ الصلاة لا تعنيهم، وما أكثر تلك المحلات التي يسمع أصحابُها أذان الظهر والعصر والمغرب أو العشاء فلا يغلقونها لأداء الصّلاة؛ كأنّ تلك الصفقة التي انشغلوا بها هي التي ستُغنيهم.
وحدّث عن تفريط أصحاب الحرف، وأصحاب النقل، والطلبة، بله الإداريين والمعلمين في المدارس النظامية والخصوصية، والقائمة مفتوحة، وإنما المراد التمثيل وفيما ذكر مندوحة، وأسوأهم حالا من أجلب بخيله ورجله فقعّد القواعد والمسائل، واحتجّ على تضييعه للصلاة بالبراهين والدلائل بزخرف من الكلام، لا خطام له ولا زمام، وحجة المتعالم فيهم (العمل عبادة) وينسبونه زورا وكذبا للنبيّ الهمام -صلى الله عليه وسلم-: واعلموا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"؛ (رواه مسلم).
إنّما يكون العمل عبادة إذا كان مباحا في نفسه وحسّن صاحبه فيه نيته؛ كأن ينوى به كف نفسه عن سؤال الناس والحاجة إليهم، أو نوى به أداء النفقة الواجبة على الأهل والعيال، والتصدق على المحتاجين، وصلة الرحم والأقربين، أو نفع عامة المسلمين ونحو ذلك من النيات الصالحة التي يثاب عليها. ولكن.. بشرط: أن لا يشغله هذا العمل عما أوجبه الله عليه، ومن أعظمها ما أوجب الله على العبد الصلاة، قال الله -جلّ في علاه-: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37] "لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وربحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق".
فتحيةُ إكبارٍ من على منبر الجمعة نزفُّها لكلّ من -وفقه الله- أن يترك ما في يده من حطام الدّنيا مقبلا على الصلاة، ملبيا نداء الفلاح؛ كحال من حدَّثنا عنهم مطرُ الوَرَّاق -رحمه الله- قال: "كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة". (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].
واحذروا -عباد الله- أن يقتدي أحد منكم بهدي رؤوس الكفر والضلال، فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وجوّد إسناده المنذري- ذكر الصلاة يوما فكان مما قال: "من لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"
قال ابن القيّم -رحمه الله-: "تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته او تجارته فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون ومن شغله عنها رياسة ووزارة فهو مع هامان ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف"؛ عافاني الله وإياكم، وجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فيا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9]، قال عطاء ومقاتل المقصود بذكر الله هنا الصلاة المكتوبة "ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون".
وكونوا من الرجال (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37].
وأبشروا بالخير من ربّكم، واستبشروا فضلا من محافظتكم على صلاتكم، فقد قال ابن القيم: "فالصّلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ للرزق..".
نعم -عباد الله- الصلاة جالبة للرزق، وعند هذه الكلمة نقف، لنسأل ابنَ القيم -رحمه الله- سؤالا وجيها، من أين لك يا إمام أنّ الصلاةَ جالبةٌ للرزقِ؟
عباد الله: لن يكون الجواب من ابن قيّم الجوزية، بل سيكون من ربّ البريّة وخالق البشرية، فإنّه بيّن ذلك بيانا شافيا حين قال لنبيّه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه:132]، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "إذا أقمت الصلاة أتاك الرّزق من حيث لا تحتسب"، ولهذا كان الإمام بكرُ بنُ عبد الله المزني -رحمه الله- إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال: قوموا فصلُّوا، ثم يقول: بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية.
فيا ليتنا إذا وجدنا ضيقا في أرزاقنا جددنا عهدنا مع الصلاة، يا ليت منّا من إذا تعسرت عليه الوظيفة راجع نفسه مع الصلاة، يا ليت منّا من إذا أهلكه الدّين وقهره الرجال أراح نفسه بالصلاة.
هذا دأب الأصفياء، ودأب العلماء، بل ودأب الرسل والأنبياء؛ فتأمّل حال إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-، ذلك النبي الذي ترك هاجرَ زوجه وإسماعيلَ ابنَه، بأرض جرداء قاحلة، فانصرف عنهم وذهب، لكنّه دعا الله وطلب: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37]؛ فما سأل اللهَ الرّزق لأهله حتّى ذكر الشّرط، وهو إقام الصّلاة، فسخّر الله -تعالى- لأهله عينا ماؤها طعام طعم وشفاء سقم.
تأمّل حال مريم -عليها السّلام-، الّتي قال في حقّها الربّ العلاّم: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37]. تأمّل حال زكريا حين رأى ما رأى من شأن مريم ورزقها: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آلعمران:38]؛ فأين استجاب الله له؟ وأين بشّره برَزق الولد؟ قال الواحد الأحد: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) [آلعمران:38].
تأمّل حال شعيب -عليه السّلام-، وقولة قومه له ساخرين (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود:87] فردّ قائلا (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا) [هود:88]؛ لتستيقن مرّة تلو مرّة وكرّة بعد كرّة أنّ الصلاة جالبة للرزق كما قال ابن القيم -رحمه الله-
كيف لا تكون الصلاة جالبةً للزرق والله يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، ولا شكّ أن الصلاة من أولى مظاهر الأتقياء.
كيف لا تكون الصلاة جالبة للرّزق وقد شُرع فيها للمصلي أن يقول بين السّجدتين: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي"؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني).
يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا"؛ (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وأعظم رزق ينتظرك رزقُ دار فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِم خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُون الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) [مريم:62-63].
الخطبة الثانية:
عباد الله: إنّكم لتعملون، أنّ أوّلَ ما فرض اللهُ الصّلاة كانت في العدّ خمسين؛ فهل منكم -أيّها المباركون- من تفطّن لسرٍّ بديع في هذا العدد؟ خمسون صلاة في اليوم؟ تخيّلوا لو بقيت كذلك؟ كم ستأخذ من وقتنا؟ كم ستشغل من يومنا؟.
عباد الله: إنّ في هذا التشريع الذي خُفف بعدُ إلى خمسٍ إنّ فيه إشارةً واضحةً، ودلالةً صادحةً، أنّ الله لا يريدنا سوى أن نعبده، وهذا أبلغ تفسيرٍ لقول الحكيم الخبير: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
ولمّا كان السّعي وراء الرّزق والمال من أعظم الصوارف عن هذه العبادة، ختم الله الآية بما يدلّ على أنّه قد ضمِن لك رزقَك، وإن اعتذرتَ عن العبادة بالرّزق فلن يقبل الله عذرك، فقال تعالى وتبارك: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إنَّ اللهَ هُو الرزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ) [الذاريات: 57-58].
ومن أعظم الأحاديث الدّاعمةِ لهذا المعنى ما رواه الترمذي عن أبي هريرةَ عن النَّبِيِّ قال: "إِنّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".
وفي هذا الحديث الجليل أعظم بشارةٍ لكلّ من حافظَ على عبادة الصّلاة، فأدّاها، وراعى وقتها، وحرص على جماعتها، وأحسن ركوعها وسجودها وخشوعها، أن يملأ الله صدره غنىً ويسدّ فقره، إنّه وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122] ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثَاً) [النساء:87]
كما أنّ في الحديث أعظمَ نذارةٍ لكل من فرّط في عبادة الصلاة، فتركها، أو ضيّع أوقاتها، أو تهاون في جماعتها، وغشّ في ركوعها وسجودها وحضور القلب فيها، أن يملأ الله يديه شغلا ولا يسدَّ فقره، روى ابن ماجه في سننه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- وحسّنه ابن حجر -رحمه الله- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ الرّجل ليحرم الرّزق بالذّنب يصيب".
فقل لي -بربّك-: أي ذنب هو أعظم من تضييع الصلاة؟! اللهم إلا الشّرك بالله؛ كما قال ابنُ حزم -رحمه الله-: "لا ذنب عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- بعدَ الشِّركِ أعظمُ من شيئينِ؛ أحدُهما: تعمُّدُ تركِ صلاةِ فرضٍ حتَّى يخرجَ وقتُها".
فلا تعجب بعد ذا من أينَ لابنِ القيّم أن يقول: "أربعةٌ تمنع الرِّزق: نومُ الصُّبْحة، وقِلَّةُ الصّلاة، والكَسَلُ، والخيانةُ".
وإنّ من تضييع الصلاة تركُ الأمرِ بها، ودعوةِ النّاس إليها، ونصحِ المفرطين فيها، والسكوتُ عن تاركيها، لذا كان من فقه أبي خلاد -رحمه الله- أن قال: "مَا مِنْ قَوْمٍ فِيهِمْ مَنْ يَتَهَاوَنُ بِالصَّلاةِ لا يَأْخُذُونَ عَلَيْهِ إِلا كَانَ أَوَّلُ عُقُوبَتِهِمْ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ"؛ (رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
فيا من تضيّع الصلاة بسبب الرزق، بسبب التجارة، بسبب البيع، اسمع -رحمني الله وإياك- إلى ما يقوله حبيبك -صلى الله عليه وسلم- عمّن ضيّع صلاة واحدة: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"؛ أي كأنّما فقد كلّ ماله الذي تعب في جمعه، وفقد مع ذلك أهله؛ فهلا عقلنا أنّ هذه الدنيا التي غرّتنا، وبزخرفها أغوتنا لا تستحق منّا أن نضيّع لأجلها فريضة واحدة، لا بل نافلة واحدة كيف لا وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
عباد الله: ليس في هذا البيان دعوةٌ للتكاسل، ولا لترك التكسب أو التواكل؛ لكنّها دعوةٌ للاعتدال والتّوازن؛ فإنّ الّذي حثّكم على طلب الرّزق والعمل، ونهاكم عن الخمول والكسل أمركم -قبل كلّ ذلك- أن تحرصوا على أشرف مقامات المؤمنين، وقرّة عيون الموحّدين.. ألا وهي الصّلاة، ولقد وصف الله -جل وعلا- الرجال حقا وصدقا بأنهم (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37]؛ فهم يبيعون ويشترون، ولكن لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموا كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها.
واعلموا -رحمني الله وإياكم- بأن منع الرزق يكون بأن يحرمك إياه ويضيق عليك فيه، أو بأن يُفيض عليك من الرزق ويحرمك خيره والبركة فيه.
إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب على وهو مقيم على معصيته مصر عليها مستهين بها فإنما هو استدراج، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
التعليقات