عناصر الخطبة
1/أسماء الله الحسنى 2/بعض حاجات العباد التي لا غنى لهم عن الله 3/ذكر بعض صفات الله وأفعاله 4/أهمية الإيمان بالله والتعرف عليهاهداف الخطبة
اقتباس
يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحي ميتاً ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، و...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
يقول الله -تعالى- في محكم تنزيله: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأعراف: 180].
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم يحب كل عليم، جواد يحب كل جواد، وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفوّ يحب العفو، وأهله حييّ يحب الحياء وأهله، بَرٌّ يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم"[انتهى].
فهل لك -أخي المسلم- أن تتأمل معي بعض ما يسرد عليك بعد قليل، وأن تتفكر فيه لتدرك شيئاً من أسماء الله -تعالى- وصفاته وأفعاله.
إذا حل الهم، وخيم الغم، واشتد الكرب، وعظم الخطب، وضاقت السبل، وبارت الحيل. نادى المنادي: يا اللهُ! يا الله! "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم".
فيفرّج الهم، وينفّس الكرب، ويذلل الصعب: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].
إنه الله -جل جلاله-!.
إذا أجدبت الأرض، ومات الزرع، وجف الضرع، وذبلت الأزهار، وذوت الأشجار، وغار الماء، وقل الغذاء، واشتد البلاء؛ خرج المستغيثون بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، فنادوا: يا اللهُ! يا الله! فينزل المطر، وينهمر الغيث، ويذهب الظمأ، وترتوي الأرض: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الحج: 5].
إنه الله -جل جلاله-!.
إذا اشتد المرض بالمريض، وضعف جسمه، وشحب لونه، وقلت حيلته، وضعفت وسيلته، وعجز الطبيب، وحار المداوي، وجزعت النفس، ورجفت اليد، ووجف القلب، وانطرح المريض، واتجه العليل، إلى العليّ الجليل. ونادى: يا اللهُ! يا الله! فزال الداء، ودب الشفاء، وسُمع الدعاء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83-84].
إنه الله -جل جلاله-!.
إذا انطلقت السفينة بعيداً في البحر اللجيّ، وهبّت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبدّ الفضاء بالسحب، واكفر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولعبت الأمواج بالسفينة، وبلغت القلوب الحناجر، وأشرفت على الغرق، وتربص الموت بالركّاب. اتجهت الأفئدة، وجأرت الأصوات: يا اللهُ! يا الله!َ فجاء عطفه، وأشرق ضياؤه في الظلام الحالك، فأزال المهالك: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[يونس: 22-23].
إنه الله -جل جلاله-!.
إذا حلقت الطائرة في الأفق البعيد، وكانت معلقة بين السماء والأرض، فأشّر مؤشر الخلل، وظهرت دلائل العطل، فذعر القائد، وارتبك الركاب، وضجت الأصوات، فبكى الرجال، وصاح النساء، وفُجع الأطفال، وعم الرعب، وخيم الهلع، وعظم الفزع، ألحُّوا في النداء، وعظم الدعاء: يا اللهُ! يا الله! فأتى لطفه، وتنزلت رحمته، وعظمت منّته، فهدأت القلوب، وسكنت النفوس، وهبطت الطائرة بسلام.
إنه الله -جل جلاله-!.
إذا اعترض الجنين في بطن أمه، وعسرت ولادته، وصعبت وفادته، وأوشكت الأم على الهلاك، وأيقنت بالممات؛ لجأت إلى منفّس الكربات، وقاضي الحاجات، ونادت: يا اللهُ! يا الله! فزال أنينها، وخرج جنينها؛ بارك الله لها في الموهوب، ورزقت بره، وجعله الله من عباده الصالحين.
إذا حلّت بالعالم معضلة، وأشكلت عليه مسألة، فتاه عن الصواب، وعزّ عليه الجواب، مرّغ أنفه بالتراب، ونادى: يا اللهُ! يا الله! يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
فيأتي التوفيق، وتُحلّ المغاليق، فينكشف السحاب، ويُلهم الجواب.
أيها المسلمون: إنه الله -جل جلاله-! إنه الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة.
يتجه إليه المريض الذي استعصى مرضه على الأطباء، ويدعوه آملاً في الشفاء، ويتجه إليه المكروب يسأله الصبر والرضا، والخُلف من كل فائت، والعوض من كل مفقود: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)[البقرة: 156].
ويتجه إليه المظلوم آملاً يوماً قريباً ينتصر فيه على ظالمه فليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ)[القمر: 10].
ويتجه إليه المحروم من الأولاد سائلاً أن يرزقه ذرية طيبة: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)[مريم: 4-7].
وكل واحد من هؤلاء يُؤمّل في أن يجاب إلى ما طلب، ويحقق له ما ارتجى، فما ذلك على قدرة الله ببعيد، وما ذلك على الله بعزيز.
أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة، ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمد -صلى الله عليه- وسلم من قبل: "اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر".
إنه الله -جل جلاله-! سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين، قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة بمكة أيام الموسم في المحبة، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد -رحمه الله- أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي.
فأطرق ساعة، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، ومتصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبته، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن عمل فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله، فبكى الشيوخ، وقالوا: ما على هذا مزيد؛ جبرك الله يا تاج العارفين".
إليه وإلاّ لا تُشدّ الركائب *** ومنه وإلاّ فالمؤمل خائب
وفيه وإلاّ فالغرام مضيّعٌ *** وعنه وإلاّ فالمحدث كاذب
من علق نفسه بمعروف غير معروف الله فرجاؤه خائب، ومن حدث نفسه بكفاية غير كفاية الله فحديثه كاذب، لا يغيب عن علمه غائب، ولا يعزب عن نظره عازب: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[يونس: 61].
أيها المسلمون: إنه الله -جل جلاله-! كما قال سبحانه عن نفسه: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن: 29].
يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحي ميتاً ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً.
إنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، السماء بناها، والجبال أرساها، والأرض دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويغدق العطاء، ويرسل النعم.
إنه الله! التواب الرحيم، ذو الفضل العظيم، الواسع العليم، العزيز الحكيم، ابتلى إبراهيم بكلمات، وسمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحي هادياً مهدياً، وحناناً من لدنه وكان تقياً، أزال الكَرب عن أيوب، وألان الحديد لداود، وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ورُفع إليه عيسى، وشق القمر لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ونجّا هوداً وأهلك قومه، ونجّا صالحاً من الظالمين، فأصبح قومه في دارهم جاثمين، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفدا إسماعيل بذبح عظيم، وجعل عيسى وأمه آية للعالمين، ونجّا لوطاً وأرسل على قومه حجارة من سجيل منضود، ونجّا شعيباً برحمته، وأهلك أهل مدين بعدله: (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)[هود: 95].
إنه الله -جل جلاله-! أغرق فرعون وقومه، ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية، وخسف بقارون وبداره الأرض: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)[القصص: 82].
ونجّا يوسف من غياهب الجب، وجعله على خزائن الأرض.
إنه الله -جل جلاله-! أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع، ورفع ووضع.
هدى نوحاً وأضل ابنه، واختار إبراهيم وأبعد أباه، وأنقذ لوطاً وأهلك امرأته، ولعن فرعون وهدى زوجته، واصطفى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ومقت عمه، وجعل من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه كخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل؛ فسبحانه عدد خلقه، وسبحانه رضا نفسه، وسبحانه زنة عرشه، وسبحانه مداد كلماته.
إنه الله -جل جلاله-! أرغم أنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطير أبابيل، عذب امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وغفر لامرأة بغيّ؛ لأنها سقت كلباً كاد يموت من العطش.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "نظر بعين الاختيار إلى آدم، فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه، فأقامه في منزلته، وإلى نوح، فنجاه من الغرق بسفينته، وإلى إبراهيم، فكساه حلّة خلّته، وإلى إسماعيل، فأعان الخليل في بناء كعبته، وافتداه بذبح عظيم من ضجعته، وإلى لوط، فنجّاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب، فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يوسف، فأراه البرهان في همّته، وإلى موسى، فخطر في ثوب مكالمته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان، فسخّر له الريح يتنقل بها في مملكته، وإلى أيوب، فيا طوبى لركضته، وإلى يونس، فسمع ندائه في ظلمته، وإلى زكريا، فقرن سؤاله ببشارته، وإلى عيسى، فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، فخصه ليلة المعراج بالقرب من حضرته والوصول إلى سدرته.
وأعرض عن إبليس، فخَزَي ببعده ولعنته، وعن قابيل، فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود، فقال أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون، فادعى الربوبية على جرأته، وعن قارون، فخرج على قومه في زينته، وعن أبي جهل، فشقي مع سعادة أمه وابنه وابنته، هكذا جرى تقديره ولا اعتراض على قسمته: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)[الرعد:13]" [انتهى].
أيها المسلمون: إنه الله -جل جلاله-! من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟ والمجال مفسوح ولكن من يُقبل؟ والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟ والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟ فأين الباحثون عن الأرباح؟ وأين خطّاب الملاح؟ أين عشّاق العرائس؟ وطلاّب النفائس؟!
من أقبل إليه، تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه، ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه، أراد ما يريد، ومن تصرف بحوله وقوته، ألان له الحديد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر، غفرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا *** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتّانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا *** لقطاً وتُلحق أُخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه *** نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها *** خلفي وأخرج من دنياي عريانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا *** ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن *** كانت تخرّ له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا *** مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها *** واستفرشوا حفراً غُبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً *** ورافلاً في ثياب الغيّ نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعبٍ *** يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
نسأل الله -تعالى- أن يبصرنا بحالنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن من لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفاً تقطع قلبه في الآخرة إذا حُقّت الحقائق، وظهرت الوثائق، وحضرت الخلائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين: (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)[النبأ: 40].
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة *** فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعاً *** فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا *** وجميل عفوك ثم إني مسلم
أيها الأحبة: إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً.
فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى *** فكل الذي فوق التراب تراب
سبحانه ما أعظمه وأرحمه، سبحانه سبقت رحمته غضبه، سبحانه سبق عفوه عقوبته، لا أحد أصبر على أذى خلقه منه، تجرأ عليه اليهود، فقالوا: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ)[المائدة: 64].
وتجرأ عليه النصارى، فقالوا: (إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ)[المائدة: 73].
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة: 72-73].
ومع كل هذه الجرأة دعاهم جل وعلا إلى التوبة، فقال بعد ذلك: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة: 74].
فلو تابو لقبل توبتهم، وغسل حوبتهم، هذا وهم كفار مشركون، يهود ونصارى فكيف بالمسلم العاصي؟
فسبحانه من خالق عظيم، جواد كريم، الكرم صفة من صفاته، والجود من أعظم سماته، والعطاء من أجل هباته، فمن أعظم منه جوداً؟ الخلائق له عاصون وهو لهم مراقب، يكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوه، ويتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، يجود بالفضل على العاصي، ويتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاه فلم يستجب له؟ أم من ذا الذي سأله فلم يعطه؟ أم من ذا الذي أناخ ببابه فنحاه؟ فهو ذو الفضل ومنه الفضل، وهو الجواد ومنه الجود، وهو الكريم سبحانه ومنه الكرم.
اللهم إنا نسألك فضلك وجودك وكرمك وعطائك.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت ... أن تغفر لنا، وتتجاوز عنا.
اللهم إنا مذنبون فاغفر لنا، ومقصرون فتجاوز عنا، ومخطئون فاعف عنا.
اللهم سترك بعد عافيتك، وعفوك بعد حلمك.
اللهم نقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد.
اللهم اغفر لآبائنا، واغفر اللهم لأمهاتنا، ولمن له حق علينا.
التعليقات