عناصر الخطبة
1/الإيمان بالرسل وخاتمهم من أصول العقيدة 2/من مقتضيات الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- 3/صور رائعة من حُبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عنه 4/من علامات حُبّ المسلم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- 5/تأملات في الحملة الآثمة على الجناب النبوي.اقتباس
إن ما يتعرَّض له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حملات السخرية والاستهزاء من قِبَل أعداء الإسلام لدليلٌ على قوة الدين، وتماسك بنيانه، وسرعة انتشاره وقبوله في العالم؛ لأنه دين الفطرة، فيعمدون إلى تشويه صاحب الرسالة، وهي محاولة منهم لإغاظة المسلمين، وبالمقابل هو دليل على العداوة والبغضاء لدين الله مِن قِبَل هؤلاء....
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابِهِ، الحافظ لمن توكل عليه ولاذ بجنابه أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له؛ شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه.
المادحوكَ وإن أَرضَوا قوافيَهُمْ *** باقٍ بأنفسِهمْ من عَجزِهمْ حَرَجُ
كم حاولوا فيكَ مِعراجاً فما بَلَغوا *** وكلما عَرَجوا أزرى بهمْ عَرَجُ
محمدٌ أنت عطرُ الروحِ ما نَطقتْ *** شفاهُنا بك إلا سَبّحَ الأرَجُ
صلّتْ عليكَ سماواتٌ وأزمنةٌ *** ما ضاق كَربٌ بنا أو أسفرَ الفرَجُ
صلَّى الله عليه وَعَلَى آلِهِ وأصحابه ومنْ كان أوْلَى بِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- القائل -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أيها المؤمنون: إن من أركان الإيمان وأسس العقيدة التي ينبغي للمسلم أن يعتقدها ويؤمن بها: الإيمان بجميع الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إيماناً راسخاً ثابتاً لا يتزعزع، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين.
وقد وصف القرآن الكريم إيمان المؤمنين بقوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285].
والنبوة اختيار إلهي، واصطفاء رباني لمن شاء من خلقه قال -تعالى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الحج: 75].
والحكمة من إرسال الأنبياء والرسل جميعاً واحدٌ؛ وهو: توحيد الله، ودلالة الخلق عليه، ونشر الطمأنينة والسكينة بين الشعوب، وإرساء قواعد الحق والعدل والخير والكرامة لهذا الإنسان الذي استعبده الشيطان أو تعرَّض للظلم والقهر من أخيه الإنسان أو استعبدته الشهوات والشبهات.
ثم بعد ذلك دلالة الناس إلى اليوم الآخر، وبيان أن هذه الدنيا ليست بدار مقر وإقامة فتصحح الاعتقادات وتزداد الطاعات وتستقيم السلوكيات والمعاملات؛ قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[النحل: 36].
وقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[إبراهيم: 5]، وقال -تعالى- في شأن خاتم الأنبياء والرسل -عليه السلام-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].
وما من نبيٍ إلا كان حريصًا على تبليغ دين الله والنصح لقومه؛ رغم ما كانوا يتعرضون له من تكذيب وسخرية واستهزاء وتعذيب، بل وصل الأمر إلى إخراجهم من ديارهم وسفك دمائهم وهم صابرون؛ لأنهم يحملون دين الله، ويبلّغون رسالاته، وهي أشرف منزلة وأعظم مكانة قد يصل إليها بشر.
عباد الله: ومن رحمة الله بنا أن بعثَ فينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأمرنا بالإيمان به وتصديقه، واتباعه والاقتداء به، والانتصار له، ومحبته، وتقديمه على النفس والمال والولد؛ فعلى يديه كَمُلَ الدين، وبه خُتِمَتْ الرسالات -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[آل عمران:164].
وقال الله -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:128]، حريصُ عليكم، رحيمُ بكم، مشفقُ عليكم يتمنى سعادتكم وراحتكم في الدنيا ونجاتكم يوم القيامة.
لقد كادت نفسه -صلى الله عليه وسلم- أن تذهب وروحه أن تزهق؛ حرصاً على هداية الناس، ودخولهم هذا الدين، واستقامتهم على الحق المبين, قال -سبحانه-: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[فاطر:8].
يرى -صلى الله عليه وسلم- قبراً جديداً؛ فسألهم؟ فقالوا: هذه فلانة مولاة بني فلان فعرفها رسول الله.. ماتت ظُهراً وأنت قائل -أي: نائم- فلم نحب أن نوقظك؛ فقال: "لا يموت فيكم ميت -ما دمت بين أظهركم- إلا آذنتموني به؛ فإن صلاتي له رحمة"(صحيح مسلم:2601).
فأيّ قلب كريم! وأيّ رجل رحيم! هذا الذي يواسيه ربه -عز وجل- حتى لا يهلك أسًى وحزنًا على إعراض قومه، بل كان يقول في أشد لحظات إيذائهم له: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(البخاري:3290).
بل إنه -صلى الله عليه وسلم- ادَّخر دعوته شفاعةً لأمته يوم القيامة فقال: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته، فاستُجِيبَ له، وإنّي أريد -إن شاء الله- أن أدّخر دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة"(صحيح الجامع:5174).
إنَّ هذا الحرص وهذا الحب لأُمّته ينبغي أن لا يقابل بالبعد والجفاء وعدم الاقتداء به والالتزام بسُنَّته والسير على نهجه؛ فقد قال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63]، وقال -تعالى-: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)[النور:54].
إنَّ من مقتضيات الإيمان بهذا الرسول العظيم: الحب الصادق له، والشوق لرؤيته ولقائه، واتّباع سنته والعمل لدينه.. ولقد أدرك الصحابة الكرام هذه الحقيقة الإيمانية وأثر حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياتهم وآخرتهم؛ فكان منهم الحب الذي كان من ثماره العبادة الصحيحة، والعمل الخالص، والبذل والتضحية والصبر والجهاد والأُخوَّة والتعاون والتآلف فيما بينهم.
هذا أبو بكر -رضي الله عنه- يضرب المثل الرائع في الحبّ للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الهجرة كان يمشي مرةً أمام النبيّ، ومرةً خلفه، مرةً عن يمينه ومرةً عن شماله؛ خوفًا عليه من شيءٍ يؤذيه، ودخلَ الغارَ قبْلَه.
وهذا عليٌّ -رضي الله عنه- ينامُ في فراشه، ويتسجَّى ببُرْدِهِ، ويفديه بنفسه. بل كان للمرأة المسلمة صور ناصعة في حب هذا الرسول والدفاع عنه.. فهذه نُسيبة بنت كعب أم عمارة -رضي الله عنها- خرجت يوم أُحُد في جيش المسلمين تداوي الجرحى، فلما رأت أن المشركين قد تكاثروا على رسول الله، وقد أحاطوا به وحاصروه استلَّت سيفَها، ودخلت بين صفوفِ المقاتلين، تضرِبُ يمينًا وشمالاً، حتى وقفت بين يدي رسول الله، وجعلت تقاتِلُ دونَه، وتدفَعُ عنه، وهى تردُّ الضربات، بجسدها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يُطيقُ ما تُطِيقين يا أمَّ عُمارة؟ سليني"، قالت: أسالك مرافقتك في الجنة، قال: "أنت رفيقتي في الجنة".
إنه حبّ حتى الرمق الأخير واللحظات الأخير من هذه الحياة؛ عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تجدك؟ قال فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم؛ فقلت: يا سعد! إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عُذْرَ لكم عند الله أن يخلص إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف، وفاضت روحه من وقته"(رواه البخاري).
أيها المسلمون: لا تعجبوا من هذا الحب؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أحبَّه الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحجر والشجر، والبهائم والأرض والجبال؛ لحُسْن خُلُقه وتواضعه ورحمته التي عمَّت الخلائق أجمعين، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء/107].
لقد رأى الصحابة -رضي الله عنهم- أن يُصْنَع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منبر خشبي ليبلغ صوته مدًى أبعد، ويترك ذلك الجذع من النخل الذى كان يخطب عليه؛ فلما انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المنبر الجديد، وبدأ يخطب ... سمع المسجد بكاء وصوتًا كصوت العشار، وهي الناقة الحامل؛ إنه صوت الجذع حتى ارتجَّ المسجد بصوته الذي غدا وكأنه صوت النحيب عند بني الإنسان؛ فتصدَّع وانشق وكثر بكاء الناس لما رأوا هذا الأمر العجيب، وهذه المعجزة الربانية.
فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فوضع يده الشريفة عليه فسكت، ثم قال: "إن هذا بكى لما فقَد من الذِّكر، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة". تُرَى لو كان لهذا الجذع لسان؛ فأيّ ملحمة حبّ كان يقول؟ أم أيّ خطبة عصماء كان يخطب يشدو بها الزمن، ويصغى لها التاريخ أسماعه؟
والحديث رواه الإمام مسلم عن عامر بن سعد بن أبي عبد الله قال: كان جذع يقوم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما وُضِعَ له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه"(صحيح مسلم 12/219).
عباد الله: إن أول علامات الحب لهذا الرسول -صلوات ربي وسلامه عليه-: اتباعه، والعمل بسُنته، والدعوة إلى دينه؛ بتعليم الجاهل، وتذكير الغافل، ونُصْح المقصر؛ فهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: "بَلِّغُوا عنِّي ولو آية".
ومن هذه العلامات: محبة أصحابه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن أجمعين-؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"(صحيح البخاري:3470).
وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سَبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"(رواه الطبراني وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع 6285).
ومن علامات حُبّ العبد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عدم الغلو فيه ووصفه بصفات لا ينبغي أن تكون إلا لله؛ فيعتقد المسلم أن رسول الله بشر لا ينفع ولا يضر، ولا يحيي ولا يميت، ولا يعلم الغيب، وكل ما أجراه الله على يديه من المعجزات والكرامات إنما وقعت -بإذن الله- وإرادته، وقد ضلت أُمم وأقوام وهلكت حضارات ومجتمعات حينما ظهر هذا الانحراف تجاه أنبيائهم قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"(رواه البخاري: 3/1271).
ومن علامات حبّه -صلى الله عليه وسلم-: دراسة سيرته وتعليمها للأولاد والأهل والناس أجمعين، وامتثال أخلاقه وتوجيهاته في كل شؤون حياتنا.
ومن علامات حبّه: الدفاع عنه، والذود عن حياض دينه وسُنّته بالنفس والمال واللسان والقلم والموقف والمنصب والجاه، كلّ حسب قدرته واستطاعته؛ فهذا أقل القليل في حقّه وإن كان الله -سبحانه وتعالى- قد تكفَّل بالدفاع عنه حيًّا وميتًا؛ فقال -سبحانه-: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95].
وهذا وعدٌ من الله لرسوله ألَّا يضرّه المستهزئون، وأن يكفيَه الله إيَّاهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل -تعالى- فإنه ما تظاهَرَ أحدٌ بالاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به، إلا أهلكه الله وأنزل عليه سخطه عاجلاً أو آجلاً، قال -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 137].
إنَّ واجب العقلاء في كل أنحاء العالم مؤسسات وأفرادًا إدانة هذه الإساءات المستمرة لنبي هذه الأمة وخاتم الأنبياء والرسل، هذه الإساءات التي لا تمتّ إلى حرية التعبير والتفكير بصلة، وإنما هي محض تعصُّب مقيت، وطريقة لزرع العداوات وتهديد للسلم الاجتماعي في البلدان.
إن ما يتعرَّض له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حملات السخرية والاستهزاء من قِبَل أعداء الإسلام لدليلٌ على قوة الدين، وتماسك بنيانه، وسرعة انتشاره وقبوله في العالم؛ لأنه دين الفطرة، فيعمدون إلى تشويه صاحب الرسالة، وهي محاولة منهم لإغاظة المسلمين، وبالمقابل هو دليل على العداوة والبغضاء لدين الله مِن قِبَل هؤلاء، وإن ادَّعَوْا الحرية والرأي الآخر والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التدين والتعايش السلمي والتعاون، وغير ذلك من شعاراتهم الزائفة.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران:118].
اللهم ارزقنا حبّك وحبّ نبيك، وكل حبٍّ يقرّبنا على حبك. قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: عباد الله: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل 1400 عام من الزمان يدرك أنَّ هناك أناسًا من أُمّته منكم رجالاً ونساءً سيكون حبُّهم له عظيمًا وشوقهم إليه كبيرًا، فكان يذكرهم لأصحابه، ويتمنَّى أن يراهم ويجلس معهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أشدّ أمتي لي حبّاً: ناسٌ يكونون بعدي يودُّ أحدُهُم لو رآني بأهله وماله"(رواه الإمام مسلم في صحيحه:2832).
فكونوا -رحمكم الله- من أصحاب هذا الحب الصادق لهذا النبيّ العظيم بالوفاء لدينه، والتزام سُنّته، والشوق للقائه في جنّة عرضها السموات والأرض، ثم اعلموا أن علامات حبّه كثرة -الصلاة والسلام عليه- في كل وقت وحين؛ ففي ذلك الراحة والطمأنينة والأجر والثواب وهو دليلٌ على هذا الحبّ.
وقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلَّث بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم احشُرنا في زمرته، واجعلنا من أهلِ شفاعته، وأحينا على سُنته، وتوفنا على ملّته وأوردنا حوضه يا حيّ يا قيوم، اللهم إنَّا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم إنَّا نسألك الأمن في البلاد، والإيمان في القلوب يا رب العباد. اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ذات بيننا، وادفع عنا الأوبئة والأمراض وشرّ الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار. والحمد لله رب العالمين.
التعليقات