عناصر الخطبة
1/اهتمام الشرع بحسن الجوار والوصية به 2/رسالة من جارٍ محب إلى جاره 3/الصبر على أذى الجار وفضله 4/حسن تعامل السلف مع الجيراناقتباس
كَمْ تَغمُرُني السَّعادةُ وتَغشَاني الأَفراحُ، عِندَمَا أَراكَ وأَهلَكَ في هِدَايةٍ واستِقَامةٍ وَصَلاحٍ، فالنِّساءُ فِي سِترٍ وعَفافٍ وحِجابٍ، والأولادُ في أَخلاقٍ وَرَزَانةٍ وآدابٍ، وَلا أَنسى ذَلِكَ المَشهَدَ المُتَكَرِّرَ في اليَومِ خَمسَ مَرَّاتٍ، الذي يُدخِلُ عَلى القَلبِ البَهجةُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، إلى جَاري العَزيزِ: السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركَاتُه.
أَبعَثُ إليكَ رِسَالتي يَا مَن أَوصاني بِهِ رَبِّي -سُبحَانَهُ- في كِتَابِهِ فَقَالَ: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)[النساء: 36]، وَأَوصى بِكَ جِبريلُ -عَليهِ السَّلامُ- فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ-: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ"، وأَوصاني بِكَ رَسُولي -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ- فَقالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ"، فَبَعَدَ هَذهِ الوَصايا الكَريمةِ، يَا صَاحبَ المَنزلةِ العَظيمةِ: سَأبُثُّ إليكَ في رِسَالتي مَا في القلبِ مِن أَشواقٍ، وسَأُخرِجُ المَشَاعرَ المَكبوتةَ في الأَعمَاقِ.
يَا جَاريَّ الحَبيبِ: لا أَعلَمُ كَثيراً مِن حَيَاتِكَ وَأَخبَارِكَ، ولَستُ أَتَجَسَّسُ عَلى أَحوالِكَ وأَسرَارِكَ، وَلَكنِّي أَتَمَنى أَن تَكونَ في خِيرٍ وَسَكينَةٍ وَأَمانٍ، سَعيدٌ مُعَافىً هَادئُ البَالِ شَبعانُ، فإنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ليسَ المؤمنُ الَّذي يشبَعُ وجارُهُ جائعٌ إلى جنبِهِ"، وأَمَا إذا كُنتَ في حَاجةٍ وجُوعٍ وَوَبالٍ، فَأَخبرني اليَومَ لِنَتَشَاركَ الزَّادَ والمَالَ، قَبلَ يَومٍ لا تَنفَعُ فيهِ الأَعذَارُ، ويَتَعلَّقُ الجَارُ المُحتَاجُ بِرَقَبِةِ الجَارِ، كَمَا قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٌ بِجَارِهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا: لِمَ أَغلَقَ عَني بَابَهُ، وَمَنعَني فَضلَهُ؟".
جَاريَّ الكَريمِ: لا تَعلمُ كَمْ تَغمُرُني السَّعادةُ وتَغشَاني الأَفراحُ، عِندَمَا أَراكَ وأَهلَكَ في هِدَايةٍ واستِقَامةٍ وَصَلاحٍ، فالنِّساءُ فِي سِترٍ وعَفافٍ وحِجابٍ، والأولادُ في أَخلاقٍ وَرَزَانةٍ وآدابٍ، وَلا أَنسى ذَلِكَ المَشهَدَ المُتَكَرِّرَ في اليَومِ خَمسَ مَرَّاتٍ، الذي يُدخِلُ عَلى القَلبِ البَهجةُ والفَرحُ والمَسرَّاتُ، عِندَمَا تَمشي إلى المَسجدِ أَنتَ وَأولادُكَ لِلصَّلاةِ، حِينَهَا أَتَذكَّرُ حَديثَ النَّبيِّ -عَليهِ أَفضلُ سَلامٍ وَصَلاةٍ- قَالَ: "أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ"، فيَا لِسَعَادةِ الإنسانِ عَلى طِيبِ وصَلاحِ الجِيرانِ!.
أيُّها الجَارُ المُباركُ: إنْ كَانَ قَد جَاءَكَ مِنِّي إساءةٌ أَو أَذى، فَاعلَمْ بِأنَّهُ بِغَيرِ عَمدٍ مِنِّي أَو هُدى، وأَرجو أَن تُنبِهَني عَلى مَوضِعِ الغَلطِ مِنِّي والزَّلَلِ؛ لَعَلِّي أَتَدَاركُ اليَومَ مَا وَقَعَ مِنِّي مِن تَقصيرٍ أو خَلَلٍ، فَالنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قَد أَقسَم ثَلاثَاً فَقالَ: "وَاللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ"، قَاُلوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "جَارٌ لا يَأَمَنُ جَارُهُ بَوائقَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بَوائقُهُ؟، قَالَ: "شرُّهُ".
فَأيُّ خَيرٍ فِيمَنْ يُؤذي جِيرَانَهُ، فَيَعصي اللهَ ويُضيعُ إيمَانَهُ؟! ولو جَاءَ يَومَ القِيَامةِ بِأَعمَالٍ صَالحَةٍ وَحَسَناتٍ، فَلا تَنفعُ إِنْ كَانَ قَد آذى الجَارَ بِكَلِماتٍ، قَالَ رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانَةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصِيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟، قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "هِيَ في النَّارِ".
أَيُّها الجَارُ العَزيزُ: كَتَبتُ إليكَ هَذهِ الرِّسالةَ لأَنَّنا في زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الانشِغَالاتِ، وَأَصبَحَ الجَارُ لا يَرى جَارَه إلا في نَادرِ الأَوقاتِ، وإنَّني لأَشعُرُ تُجَاهَكَ بالتَّقصيرِ البَيِّنِ الواَضِحِ، بَلْ بالإهمَالِ في حَقِّكَ بِشَكلٍ فَاضِحٍ، وَلَكنِّي لا أَعلَمُ بِظُروفِكَ وأَشغَالِكَ، ولا أَدري عَن وَقتِكَ وَأَحوالِكَ، فَهَلْ تَزورُني أو أَزورُكَ؟، أَو تَتَّصِلُ بي أَو أَتَّصلُ بِكَ؟، فَإنِّي أُريدُ أَن أكونَ خَيرَ جَارٍ، كَمَا جَاءَ في الحَديثِ: "خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ".
بَاركَ اللهُ لي ولكمْ في القُرآنِ العَظيمِ، وَنَفَعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعِظاتِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الذي أَسعدَ بِجِوَارِهِ مَن أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ، وَقَضَّى بِالذُّلِ وَالهَوَانِ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمرَهُ وَعَصَاهُ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنَا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ المصطَفَى المُختَارُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ السَّادةِ الأَخيارِ، والتَّابعينَ وَمَن تَبِعَهم بِإحسانٍ إلى دَارِ القَرارِ، أَمَّا بَعدُ:
جَاريَّ الغَاليَّ: هَلْ تَسمَحُ أَن أَطلُبَ مِنكَ طَلباً صَغيراً، وَلَكِنَّهُ عِندي مُهِمَّاً كَبيراً، هَل أَنا مِمن أَحسَنَ أم مِمن أَساءَ؟، فَتقييمُكَ هَذَا هُوَ مَنزِلَتي في السَّمَاءِ، قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ؟، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ"، فَمَكَانتي اليَومَ مِن جَاريِّ هِي مِفتاحُ جَنَّتي أَو نَاري، وَأَعتَذرُ إليكَ مِن الإسهَابِ والتَّطويلِ، ولكنَّهَا كَلماتٌ خَرَجَتْ مِنَ قَلبٍ عَليلٍ، والسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.
أَيُّها الأَحبَّةُ: بَعَدَ هَذه الرِّسَالةِ النَّديَّةِ، لَعَلِّي أَهمِسُ في آذَانِكُم بِوَصيَّةٍ: الصَّبرَ الصَّبرَ عَلى أذى الجَارِ؛ فَإنَّهُ سَببٌ لِمَحبَةِ العَزيزِ الغَفَّارِ، فَفي الحَديثِ: "ثَلاثَةٌ يُحبُّهمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-"، وَذَكَرَ مِنهُم: "ورجُلٌ كَانَ لَهُ جَارُ سُوءٍ، فَصَبَرَ عَلى أَذاهُ حَتَّى يُفرِّقَ بيْنَهُمَا مَوتٌ أو ظَعْنٌ".
وَلَقدْ ضَربَ السَّلفُ في ذَلكَ أَروعَ الأَمثِلَةِ، وَمِن ذَلِكَ مَا جَاءَ في كِتَابِ الكِبَائرِ للذَّهبيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: رُوِيَ عَن سَهلِ التُّسْتَرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارٌ مَجُوسيٌّ، وَكَانَ قَد انبَثَقَ مِن كَنيفِهِ إِلَى دَارِ سَهلٍ بَثقٌ، فَكَانَ سَهلٌ يَضَعُ الْجَفْنَةَ تَحتَ ذَلِك البَثقِ فَيَجتَمِعُ مَا يَسْقطُ مِن كَنيفِ الْمَجُوسِيِّ وَيَطرَحُهُ بِاللَّيْلِ، فَمَكَثَ عَلَى هَذِه الْحَالِ زَمَاناً طَويلاً إِلَى أَن حَضَرتْ سَهلاً الْوَفَاةُ فَاستَدعَى جَارَهُ الْمَجُوسِيَّ، وَأَراهُ البَثقَ والقَذَرَ يَسْقطُ مِنْهُ فِي الْجَفْنَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟! قَالَ سَهلٌ: هَذَا مُنْذُ زمَانٍ طَوِيلٍ يَسْقطُ مِن دَارِكَ، وَأَنَا أَتَلقَاهُ بِالنَّهَارِ وأَلقيهِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ حَضَرَني أَجلي، وَأَخَافُ أَن لَا تَتَسعَ أَخْلَاقُ غَيْرِي لذَلِكَ وَإِلَّا لم أُخْبِركَ، فَقَالَ الْمَجُوسِيُّ: أَنْتَ تُعَامِلُني بِهَذِهِ الْمُعَامَلَة مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَأَنَا مُقِيمٌ عَلى كُفري، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ مَاتَ سَهلٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.
اللهمَّ اهدِنَا وَجِيرَانَنَا وَوَفقنَا لما تُحبُّ وَتَرضَى، وارزقنا الأُلفةَ والمَحبةَ والتَّقوى، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَسيئِ الأَخلاقِ، اللهمَّ أَصلحْ أَحوالَ المُسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ، وأحفظْ عَليهم دِينَهم وَأَعراضَهم وَأَمنَهم يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ آمنَا في أَوطَانِنَا وَأَصلحْ وَوَفِّقْ أَئمتَنا وَولاةَ أُمورِنا، اللهمَّ اشفِ مَرضَانا، وارحَمْ مَوتَانا، واختِمْ بالصَّالحاتِ أَعَمَالنَا، رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وِقِنَا عَذابَ النَّارِ.
التعليقات