عناصر الخطبة
1/ كثرة وقوع الفتن في الأمة 2/ تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من فتنة الأَحْلاس 3/ معاني فتنة الأحلاس والمقصود بها 4/ خطورة الخوارج وصفاتهم 5/ واجب الأمة في مواجهة الأفكار الضالةاهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ مِمّا يَجِبُ التَّذْكيرُ بِهِ في هذا الزَّمَنِ الحَرِجِ الذي مَزَّقَتْ فيهِ الفِتَنُ جَسَدَ الأُمَّةِ وتكالَبَتْ عَلَيْها الأُمَم بِتَزايُدِ مُشاقَّتِها مِنْ طَوائِفِ الَضَّلالِ والْبَغْيِ: وُجوبُ تَصَدّي الأمَّةِ لهذا الفِكْرِ المنْحَرِفِ الضَّالِّ. وعَلى العُلَماءِ الرَّبانيين أَنْ يُؤَدُّوا دوْرَهُم تامًّا كاملاً غيرَ ناقصٍ، فالفتنُ إذا أطَلَّتْ بِرَأْسِها في المجتمعِ وَجَبَ على العُلماءِ والمصلِحينَ والدُّعاةِ وأهْلِ الْحَلِّ وَالعَقْدِ وصُنّاعِ القَرارِ التَّعامُلُ مَعَها بما يوافِقُ شَرْعَ اللهِ المطَهَّرِ.
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فاطر: 1]، أَحْمَدُهُ سُبحانَهُ وَتََعالى حمْدا كَثيرا مُبارَكا فيهِ كَما يَنْبَغي لِجَلالِ عِزِّهِ وَعَظيمِ سُلْطانِهِ.
وأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أَكْرَمَنا بخيرِ نبيٍّ أُرْسِل وخصَّنا بِأَفْضَلِ كتابٍ أُنْزِل وأَتمَّ النِّعْمَةَ عَلَيْنا بِأَعْظَمِ دينٍ شُرِع (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3].
وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدا عبدُهُ ورَسولُهُ،أَرْسلَهُ على حينِ فترةٍ من الرسلِ بيْنَ يدي الساعةِ بشيرا ونذيرا، بَلَّغَ الرسالةَ، أدَّى الأمانةَ، نَصَحَ للِْأُمَّة وجاهدَ في الله حقَّ جهادهِ حتى أتاهُ اليقينُ منْ ربِّهِ. فاللهم صلّ عليه وعلى آله وأزواجِهِ الطيبينَ الطاهرين وعلى أصحابه الْغُرِّ الْمُحَجَّلينَ الميامين وعلى تابِعيهِمْ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزا عَظِيما) [الأحزاب:70-71].
ثم أما بعدُ: عبادَ الله ... معشَرَ المؤمِنين...
لَقدْ أطلّتِ الْفِتَنُ بِرأْسِها في جسدِ الأُمّةِ، فألْبستْها خُطوبًا ونوازِلَ مُدْلَهِمَّة، وَصَنَعَتْ مِن أمْنِها وأمانِها ساحَة لِمُشاكَسَةٍ مُتَلاطِمَةٍ، وَحَوَّلَتْ هُدوءَها وَسُكونَها إِلى أَيامٍ وَلَيالٍ عاتِيَةٍ، فأَصْبَحَتْ الملايينُ مِنْ أُمَّتِنا التي امْتَنَّ اللهُ –تَعالى- عَلَيْها بِأَنْ آمَنَها مِنْ خَوْفٍ وَأَطْعَمَها مِنْ جُوعٍ مُنْدَهِشَة هارِبَة خائِفَة، وَمُفْتَقِرَة مُفْلِسَة جائِعَة. تَئِنُّ تَحْتَ الشَّدائِدِ والْمُلِمَّات وَتَتَجَرَّعُ آلامَ الْوَيْلاتِ وَالْبَلِيَّاتِ.
وقَدْ أَخْبَرَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصادِقُ المصدوقُ بما يَكونُ مِنَ الْفِتَنِ؛ بَيَّنَها وَجَلَّاها بَيانا جَلِيّا شافِيا، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئا حِسّا وَمَعْنى، كَما أَكَّدَ ذلِك حُذَيْفةُ بنُ اليمانِ فِي الحَْدِيثِ الصَّحيحِ حينَ قالَ -رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ-: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَاما، مَا تَرَكَ شَيْئا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا حَدَّثَ بِهِ»، ومِنَ الْفِتَنِ الَّتي حَدَّثَ بها رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحابَهُ، وَنَبَّأَ بِتَصَدِّي الأُمَّةِ لأَحْداقِها وَأَنَّها سَتَطْعَمُ مَرارةَ أَذْواقِها فِتنةُ الأَحْلاسِ.
روى سُلَيمانُ بنُ الأَشْعَثِ بنُ شَداد بنُ عَمرو، الأزْدي أبو داود، السَّجَسْتاني، إمامُ الأئمةِ في الحَْديثِ، في سُنَنِه وَهُوَ أَحَدُ كُتُبِ الحديثِ الستّةِ المشهورةِ؛ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ الْعَنْسِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ.
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: "هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ، دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي، وَلَيْسَ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ، لَا تَدَعُ أَحَدا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَة، فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ، تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنا، وَيُمْسِي كَافِرا، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ، مِنْ يَوْمِهِ، أَوْ مِنْ غَدِهِ".
ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الْحَدِيثِ فِتَنا وَهِي: فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ، فِتْنَةُ السَّرَّاءِ ، فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ وفِتْنَةُ المسيحِ الدَّجَّالِ.
ونَتَعَرَّضُ في خُطْبَةِ هذا الْيَوْمِ المبارَكِ لِفِتْنَةِ الأحْلاسِ؛ لأَنَّها تَنْطَبِقُ كَثيرًا مَعَ ما تَعيشُهُ الأُمَّةُ مِنْ جَرّاءِ فِتْنَةِ خَوارِجِ العَصْرِ.
"الأحلاس" جمع حِلْسٌ بكسر الحاء وَهُوَ كِساءٌ يُوضَعُ على ظَهْرِ الدّابَّةِ. فَيوضَعُ عَلى ظَهْرِ البعيرِ قَبْلَ الرَّحْلِ، أو على ظهورِ الحَميرِ والْبِغالِ قَبْلَ البَراذِعِ، أَوْ على ظَهْرِ الخيْلِ قَبْلَ السَّرْجِ، وَهُوَ أيضًا ما يُبسَط في البَيْتِ مِنْ حَصِيٍر ونَحْوِهِ تَحْتَ كَرِيمِ المْتَاعِ.
وَقَد سَمَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الفتنةَ بِفِِتْنَةِ الأحْلاسِ تَشْبيهًا لها بِدَوامِها وَلُزومِها.
وَقالَ الفقيهُ المحدِّثُ الإمامُ الخطابي -رحمه الله تعالى-: "إِنما أُضيفَتْ إِلى الأَحْلاسِ لِدَوامِها وَطولِ لُبْثِهَا. يُقالُ للرَّجُلِ إذا كانَ يَلْزَمُ بَيْتَهُ لا يَبْرَحُ مِنْهُ: هُوَ حلسُ بَيْتِهِ، لأَنَّ الحْلسِ يُفْترشُ فَيبْقى على المكانِ ما دام لا يُرْفَعُ. وقد يَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ هذه الفِتْنَةُ إنما شُبِّهَتْ بالأحْلاسِ لِسَوَادِ لَوْنِهَا وَظُلْمَتِهَ" .
كَما يُفْهَمُ من إِضافَتِها لِلْأَحْلاسِ؛ لِكَوْن صانِعيها مِنْ أَسافِلِ الْقَوْمِ وَصِغارِهمْ وَمِنَ الَّذين لا يَسْتَطيعون أَداءَ أَدْوارِهِمْ وواجِباتِهِم بَعْدُ تُجاهَ أُمَّتِهِمْ.
صانِعوها مِنْ أَسافِلِ الْقَوْمِ لِكَوْنِ الأحْلاسِ لا توضَعُ إِلا أَسْفَلَ الرِّحالِ وَالْبَراذِعِ والسُّروجِ وأَسْفَلَ كُلِّ متاعٍ كَرِيمٍ.
صانِعوها مِنْ صِغارِ الْقَوْمِ سِنًّا وعَقلاً؛ لِكَوْنِ قيمَةِ الأَحْلاسِ قَليلَة، فأصْبَحوا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ وَخِفَّةِ عَقْلِهِمْ وَسفاهَةِ أَحْلامِهِمْ رؤوسَ فِتْنَةٍ وَقَتَلَة مارِقين كَما قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ».
ولما سُئِلَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: "هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ" وفي رواية مسند الإمام هِيَ "فِتْنَةُ هَرَبٍ وَحَرَبٍ".
وهذِهِ الْفِتْنَةُ تَتَطابَقُ كَثيرًا مَعَ ما تَعْرفُهُ أُمَّتُنا مِنْ وَيْلاتِ فِتْنَةِ الْخَوارِجِ في أَيّامِنا. إنَّهُم يُكَفِّرونَ كُلَّ المسلمينَ المُخالِفينَ لَهُمْ بِغيرِ عِلْمٍ، ويَسْتَحِلونَ دَمَهُمْ وإن كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 140]، كما يُكَفِّرونَ حُكَّامَ المسلمينَ ومَنْ تَحْتَ طاعتِهِمْ وعُلماءَهُم ويُعْرِضون عَنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ الصّالحِ ويَتَعَلَّقونَ بِشِعاراتٍ كالجهادِ والخِْلافَةِ.
ولا فَرْقَ بَيْنَهم في ذلك وَبَيْنَ خَوارِجِ الأَمْسِ في التَّشَدُّدِ مَعَ المسْلِمينَ وَتَكْفيرِهِمْ واسْتِباحَةِ دِمائِهِمْ وأَمْوالِهِمْ والخْرُوجِ بالسَّيْفِ على الأُمَّةِ.
فخوارجُ الأَمْسِ خَرَجوا بالسَّيْفِ على الخليفةِ عُثمانَ -رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ- وَقَتَلوهُ بِدَعْوى التَّهاوُنِ في العَدْلِ وتطبيقِ شَرْعِ الله كما خَرَجوا عَنْ طاَعةِ عَلِيٍّ بنِ أَبي طالِب -رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ- وَقَتَلوهُ بِدَعْوى عَدَمِ الاحْتِكامِ لِلْكِتابِ، وَتَحْكيمِ الرِّجَالِ.
وَمِنْ جَرائِمِ خَوارِجِ الأَمْسِ الكثيرةِ قَتْلُهُم عَبْدَ اللهِ بنَ خَبَّاب بنَ الأَرَتِّ -رضِيَ اللهُ عَنْهُما- فَذَبَحوهُ كَما تُذْبَحُ الشاةُ ثُمَّ ذَبَحوا زَوْجَتَهُ وَبَقَروا بَطْنَها واسْتَخْرَجوا جَنينَها مِنْ بَيْنِ أَحْشائِها.
وَالتَّشَدُّدُ لِسوءِ الْفَهْمِ وَفَرْضِ الرَّأْيِ لَيْسَ مِنَ الإسْلامِ في شَيْءٍ، كَما أَنَّ التَّشَدُّدَ يكونُ مَعَ الكُفارِ، أَمّا المؤمِنونَ فَحقُّهم على إخْوانِهِم الرحمةُ. يَقولُ المولى -جَلَّ في عُلاه- عَنْ أَصْحابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29]، إنهم يقتلون المسلمين ويتركون أعداء الأمة الحاقدين كما أخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذلك «يقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، ارتكبوا جَرائِمَ قَتْلٍ بَشِعَةٍ ضِدَّ الْمُسْلِمينَ وقاموا بِسبْيِ نِسائِهِمْ.
فكانت فتنتُهم كما أخبر بذلك النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتنةَ هَرَبٍ وَحَرَبٍ. فتنةَ هَرَبٍ إذْ هاجَرَتْ عَشَراتُ الآلافِ مِنَ المسلِمينَ النّاجينَ بسوريا والعراقِ تَحْت َوَطْأَةِ الرُّعْبِ. وكانَتْ فِتْنَةَ حَرَبٍ بَعْدَما سَلَبوا مِنَ المسلمينَ أَمْوالَهُمْ ومساكِنَهُمْ وَأَرْزاقَهُمْ. قال الخطابي: "وَالْحَرَبُ ذهابُ المالِ والأهْلِ، يقالٌ حَرِبَ الرجلُ فهو حَريبٌ إذا سُلِبَ أهْلَه ومالَه".
اللهم جَنِّبْنا الفِتَنَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، توبوا إلى ربِّكُمْ واسْتَغْفِروهُ، إِنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى خيْرِ خَلْقِهِ ورَحْمَتِهِ المهداةِ للْعالَمينَ، سيِّدِنا مُحَمَّدٍ رسولِ رَبِّ الْعالَمينَ إلى النَّاسِ أَجْمَعين.
عباد الله.. إنَّ مِمّا يَجِبُ التَّذْكيرُ بِهِ في هذا الزَّمَنِ الحَرِجِ الذي مَزَّقَتْ فيهِ الفِتَنُ جَسَدَ الأُمَّةِ وتكالَبَتْ عَلَيْها الأُمَم بِتَزايُدِ مُشاقَّتِها مِنْ طَوائِفِ الَضَّلالِ والْبَغْيِ: وُجوبُ تَصَدّي الأمَّةِ لهذا الفِكْرِ المنْحَرِفِ الضَّالِّ. وعَلى العُلَماءِ الرَّبانيين أَنْ يُؤَدُّوا دوْرَهُم تامًّا كاملاً غيرَ ناقصٍ
فالفتنُ إذا أطَلَّتْ بِرَأْسِها في المجتمعِ وَجَبَ على العُلماءِ والمصلِحينَ والدُّعاةِ وأهْلِ الْحَلِّ وَالعَقْدِ وصُنّاعِ القَرارِ التَّعامُلُ مَعَها بما يوافِقُ شَرْعَ اللهِ المطَهَّرِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ».
فما جوابُ هؤلاءِ القتلةِ المارقين يومَ القِيَامَة عن سُؤالِ المقتولينَ كما في الْحديثِ الصَّحيحِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي»، وما مكانةُ النفسِ في هذا الشرْعِ العظيمِ، وكيفَ تستحلُّ دمَاءُ المُسْلمينَ، وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَما حَرَامًا».
الخوارِجُ عَدُوٌّ لِرَسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعَدُوٌّ لِصَحابَتِه وعَدُوٌّ للصالِحين في الأمة سَلَفِهِمْ وخَلَفِهِمْ «لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، ورايةُ الجهادِ التي يَرْفَعونَها كاذِبَةٌ؛ لأنَّهُمْ مارِقون مِنَ الدينِ كما وَصَفَهُمْ رَسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخارِجونَ عَنِ الجَماعَةِ وداعونَ إلى الضَّلالَةِ ومُسْتَحِلّون لدماءْ الأمَّةِ.
إنهَّمُ يمثلون في عالمِ اليَوْمِ إرهابَ الجماعةِ إلى جانبِ الكيانِ الصُّهْيوني الذي يُمَثِّلُ إرْهابَ الدَّوْلَةِ.
الدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ إلى الله –تَعالى- بأن يُجَنِّبَنا الفِتَنَ ما ظَهَر منها وما بَطَنَ، وأن يُبْرِمَ لهذه الأمةِ أمرَ الرشد الذي يُعَزُّ فيه أَهْلُ الطَّاعَةِ ويُذَلُّ فيه أهْلُ الْمَعْصِية. والدعَاءُ هو العبادةُ وهو سِلاحُ المؤمِنينَ الصَّادِقينَ.
الثباتُ على التوْحيدِ والاستقامَةُ على التُّقَى والْهُدَى، والعملُ على إِظْهارِ السُّنةِ وإماتَةِ البِدْعَةِ، فالفتنُ ابتلاءاتٌ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
التعليقات