اقتباس
ولهذا علينا أن نضعَ في فكرنا إعداد خطبةٍ متكاملةٍ، متناسقةٍ، محضَّرٍ لها؛ لكيلا تضطرب الأفكار، وتختل المفاهيم؛ مما يؤدِّي إلى اهتزازٍ في الأسلوب، وعدم ترابطٍ بين العبارات، وعدم تناسقٍ الحديث، وتكون-في أغلب الأحيان-فارغةً من المعنى، خاليةً من المضمون، غيرَ صادقةَ اللهجةِ، ولا سديدةَ الفكرة؛ فلا ترتفع بعقلية المصلي، ولا تسمو بعواطفه، ولا تؤثر في وجدانه، ولا تحرك في قلبه خشيةَ الله، ولهذا على الخطيب أن يخطط لخطبته تخطيطاً دقيقاً، ويدرسها دراسةً واعيةً، شاملةً.
ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها؛ يُؤَمِّنُه من الخطأ-بإذن الله تعالى-ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين، وبناءً عليه؛ فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.
ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة على النحو الآتي:
الأولى: اختيار الموضوع
يكون بتحديد عنوانه وعناصره بدقة، وضع خطة شاملة له، مستحضراً الأسباب التي تجعلك تعتقد بأن هذه القضية هامة للمستمعين، متيقناً ضرورة طرحها أمام الرأي العام، مع توضيح مرامي الخطبة.
الثانية: جمع النصوص والنقول والأفكار والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة: إما أن تكون كثيرة فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبةً فيكتفي بها، وإما أن تكون قليلة، فيزيد البحث في مظانّ أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر، تكون مادته متوافرة.
وينبغي-في الجمع-مراعاة ما يلي:
أ-البدء بالمصادر المتخصصة، وجعلها أصلاً، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة، فلو اختار-مثلاً-موضوع (الشُّكر) فإنَّه يبدأ بالكتب المتخصصة في ذلك: ككتاب الشكر لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق؛ لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع، أو نصفه على الأقل؛ فتخفف عنه مؤنة البحث والتقصي. والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.
ب-أن ينطلق في عناصره وأفكاره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه. وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته-هدراً-في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة، أو يذكرها بلا دليل؛ فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئةً وهو لا يدري.
ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها؛ يُؤَمِّنُه من الخطأ-بإذن الله تعالى-ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين، وبناءً عليه؛ فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.
الثالثة: بعد اختيار النصوص والنقول-التي سيجعلها في خطبته-يضع لها عناصر مختصرةً (عناوين تدلُّ عليها)، فمثلاً عنده نص وهو قول الله-تعالى-: (وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ...) [إبراهيم :7]، يجعل له عنواناً أو عنصراً: (الشكر يزيد النعمة)، وهكذا في بقية النصوص والنقول.
الرابعة: يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة، فيجعل العناصر المترابطة متوالية، فمثلاً في موضوع الشُّكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة)، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة، فيضمُّ العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها. ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد، حتى لا يُثقِل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع وفق الأرقام التي لديه؛ فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطاً منسجماً.
الخامسة: بعد الفهرسة والترتيب، يقرر ما للخطبة الأولى، وما للثَّانية من العناصر المذكورة.
السادسة: ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.
التخطيط للخطبة:
التخطيط: هو تصورٌ ذهني مسبقٌ لما سيقوم الخطيب بتناوله في الخطبة، وهو الكيفية الصحيحة التي يُقَدِّمُ لها.
ولهذا علينا أن نضعَ في فكرنا إعداد خطبةٍ متكاملةٍ، متناسقةٍ، محضَّرٍ لها؛ لكيلا تضطرب الأفكار، وتختل المفاهيم؛ مما يؤدِّي إلى اهتزازٍ في الأسلوب، وعدم ترابطٍ بين العبارات، وعدم تناسقٍ الحديث، وتكون-في أغلب الأحيان-فارغةً من المعنى، خاليةً من المضمون، غيرَ صادقةَ اللهجةِ، ولا سديدةَ الفكرة؛ فلا ترتفع بعقلية المصلي، ولا تسمو بعواطفه، ولا تؤثر في وجدانه، ولا تحرك في قلبه خشيةَ الله، ولهذا على الخطيب أن يخطط لخطبته تخطيطاً دقيقاً، ويدرسها دراسةً واعيةً، شاملةً.
وهناك خطوات ينبغي مراعاتها عند التخطيط لخطبة الجمعة، وهي على النحو التالي:
الأولى: اعرف مستمعيك
أولُّ خطوةٍ في التَّخطيط للخطبة: هي معرفة جمهور المستمعين؛ فعليك-مثلاً-أنْ تَعِي طبيعة المجموعة التي ستتحدث إليها، والقضايا التي تهم الحاضرين، ومَنْ تحدَّثَ إليهم قبْلَك؟ وما مواقف المستمعين تجاه موضوع الحديث؟ كما ينبغي التعرف على أيِّ عناصرَ مشاكسة موجودة بين الحاضرين والعناصر "الصديقة" أو المتعاطفة مع آراء المتحدث.
ولتحقيق جوٍ من الأُلْفةِ والتواصل مع جمهور المستمعين؛ على المتحدث أن يصلَ مكان الاجتماع مبكراً، وأن يكون بين آخر المنصرفين؛ هذا من شأنه أن يمكِّن المتحدثَ من التعرُّف على بعض الحاضرين، واكتشاف العناصر الحليفة بينهم، كما يوفِّر فرصة للتحدث إلى المعارضين، والتعرف عليهم بصفة شخصية إذا دعت الحاجة إلى الإشارة إليهم بالاسم-أثناء الحديث-وإلى آرائهم كنوع من إبداء التقدير والاحترام لهم، ويمكن الاستفادة من ذلك؛ لتعزيز وتقوية بعض النقاط التي ستَرد في الخطبة أو الحديث.
الثانية: أكِّدْ مصداقيتك
يستجيب الجمهور المستمع للمتحدث؛ إذا اقتنع بمصداقيته، ولتأكيد هذه المصداقية: فإنَّ على المتحدث أن يكون على دراية تامةٍ بالموضوع الذي يتناوله، وأن يكون بإمكان مستمعيه أن يصدقوه فيما يطرح من أفكاره، وأن يكسب-بتصرفاته-حب الجمهور وإقباله عليه.
فعندما آن الأوان لأن يجهر رسول الله -عليه السلام-لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب فيهم بأن قال: "يا معشر قريش، لو أخبرتكم أن جيشاً يوشك أن يظهر عليكم من وراء هذا الجبل فهل كنتم مصدقي؟ فقالوا: نعم. وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكّد مصداقيته لديهم قال لهم: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ".
وذكر أهل العلم بأن هناك ثلاثة أمور تلعب دوراً كبيراً على مستوى كبير من الأهمية والتأثير في نطق الخطيب:
الأمر الأول: شخصية ومكانة الخطيب في أذهان الرأي العام، فكلما ازداد حب المجتمع للخطيب، ورغب إليه، كلما اهتم بحديثه، وأعطوه أدنى صاغية، وكان كلامه أكثرَ وقعاً وتأثيراً.
الأمر الثاني: موضوع الخطيب المعلن للمستمعين، الذي يريد أن يتناوله الخطيب، حيث تزداد رغبتهم إلى الاستماع، بالمقدار الذي يراه الجمهور المخاطَب مهماً في معالجة قضاياهم الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وأمثالها.
الأمر الثالث: مهارة الخطيب، وكيفية إلقاء الخطاب، وتشكيل الكلمات، فالخطيب الماهر في الخطابة، يستطيع أن يلقي خطبته بشكل جميل، يستقطب ألباب مستمعيه ما استطاع، فمهارة الإلقاء، ليست أقل أهمية من مادة الخطبة في بيان الموضوع، إن لم تكن أهم منها، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (ربَّ كلام أنفذ من السهام).
التعليقات