أ. طاهر العتباني
القرآن كتابُ اللهِ المُعجِزُ الذي تَحَدَّى الله تعالى به الأوَّلِين والآخِرين مِن الإنس والجنِّ على أنْ يَأتوا بمثله، فعجَزُوا عن ذلك عجزًا بيِّنًا، وهو مُعجِزةٌ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تُثبِت نبوَّته ورسالته، وقد كان كلُّ نبيٍّ يُرسِله الله تعالى إلى قومه مُؤَيَّدًا بمُعجِزة أو أكثر من المُعجِزات؛ فصالحٌ عليه السلام آتَاه اللهُ الناقَة آيَةً وإعجازًا لقومه عندما طلَبُوا منه آيَة الناقة، وموسى عليه السلام حين أرسَلَه الله تعالى إلى فرعون أعطاه مُعجِزة العصا، وعيسى عليه السلام أعطاه اللهُ آيَاتٍ، منها: إبراءُ الأَكْمَه، وإحياءُ الموتى بإذنه تعالى.
أمَّا مُعجِزة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقد كانت هذا القرآنَ المُعجِز؛ روى البخاريُّ بسنده عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نبيٍّ إلا أُوتِي ما مثله آمَن عليه البشَر، وإنما كان الذي أُوتِيتُه وحيًا أُوحِيَ إليَّ، فأوَدُّ أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة))[1].
فالقرآن الكريم هو إذًا مُعجِزة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أَعْجَزَ الخَلْقَ أن يأتوا بمثله، وقد تَحَدَّاهم القرآن أن يأتوا بمثله فعجَزُوا.
ونُبُوَّة نبيِّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بُنِيَتْ على هذه المُعجِزة، وهي مُعجِزة عامَّة عمَّتْ الثَّقَلَيْن، وبقِيَتْ بقاءَ العصْر، ولُزُوم الحجَّة به باقٍ مِن أوَّل وُرودها إلى يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]، فلولا أنَّ سماع القرآن يُعَدُّ حجَّةً على سامِعِه لم يُوقف أمْر المشْرك على سماعه، ولا يكون حجَّةً إلَّا إذا كان معجزة.
وإعجاز القرآن باقٍ، وبقاء الإعجاز دليلٌ على بقاء الرسالة المحمَّديَّة، وأنها رسالة عامَّة للبشَر كلِّهم، وفي بقاء الرسالة بقاءٌ للشريعة، فهي إذًا شريعة باقِيَة خالدة.
وأمَّا وجوه الإعجاز التي للقرآن، فلا يُحِيط بهذه الوجوه إلا مُنْزِل القرآن سبحانه وتعالى؛ ومِن هذه الوجوه ما يلي:
أ- الإعجاز اللغوي والبلاغي.
ب- الإعجاز في الإخبار بالمغيَّبات.
ج- الإعجاز العلمي.
د- الإعجاز التشريعي.
الفرع الأول: الإعجاز اللغوي والبلاغي:
المُعجِزة هي أمْر خارِق للعادَة، مَقرُون بالتحدِّي، سالم مِن المعارَضة.
والإعجاز اللغوي: هو أحدُ وجوه الإعجاز الذي هو إعجاز شاملٌ لكلِّ ما في كلمة "إعجاز" مِن معنى؛ فهو مُعْجِز في ألفاظه وأسلوبه، وهو مُعجِز في بيانه ونظْمه، يجد القارئ فيه صورةً حَيَّةً للكون والحياة والإنسان، وحيثما قَلَّب الإنسان نظَرَه في القرآن وَجَد أسرارًا مِن الإعجاز اللغوي:
أولًا: في نظامه الصوتي البَدِيع بجرْس حروفه حين يسمع حركاتها وسكناتها، ومَدّها وغُنَنَها، وفواصلها ومقاطعها.
ثانيًا: في ألفاظه التي تَفِي بحقِّ كلِّ معنًى في موضعه، لا يَنْبُو فيه لفظٌ فيُقال: إنه زائد، ولا موضع يُقال: إنه يحتاج إلى لفظٍ ناقص.
ثالثًا: في ضروب الخِطاب التي يَتقارَب فيها أصناف الناس في الفهْم بما تُطِيقه عقولهم، فيراها كلُّ واحدٍ مقدرة على قدْر عقله، ووفق حاجته.
رابعًا: في إقناع العقل وإقناع العاطفة بما يَفِي بحاجات النفس البشرية؛ تفكيرًا ووُجدانًا، في تكافُؤٍ واتِّزان، فلا تطغى قوَّة التفكير على قوَّة الوجدان، ولا قوَّة الوجدان على قوَّة التفكير.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (والذي يشتَمِل عليه بديعُ نظمِه المتضمِّن للإعجاز وجوه:
منها ما يرجع إلى الجملة؛ وذلك أنَّ نظْم القرآن على تَصَرُّف وجوهه، واختلاف مَذاهِبِه، خارِجٌ عن المعهود مِن نظام جميع كلامهم، ومُبايِن للمألوف مِن ترتيب خِطابِهم، وله أسلوب يختصُّ به ويتميَّز في تصرُّفه عن أساليب الكلام المُعتَاد؛ وذلك أن الطُّرُق التي يتميَّز بها الكلام البديع المنظوم تنقَسِم إلى أَعارِيض الشِّعر على اختِلاف أنواعِه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المُقَفَّى، ثم إلى أصناف الكلام المُعدَّل المُسَجَّع، ثم إلى مُعدَّل موزون غير مُسَجَّع، ثم إلى ما يُرسَل إرسالًا فتُطلَب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجهٍ بديع، وترتيب لطيف، وإنْ لم يكُن معتدلًا في وزنه، وذلك شَبِيهٌ بجملة الكلام الذي لا يَتعمَّل فيه، ولا يتصنَّع له، وقد عَلِمنا أن القرآن خارِجٌ عن هذه الوجوه، ومُبايِن لهذه الطرق، ويَبقَى علينا أن نُبَيِّن أنه ليس مِن باب السجْع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس مِن قَبِيل الشِّعر؛ لأن مِن الناس مَن زَعَمَ أنَّه كلام السجع، ومنهم مَن يدَّعِي فيه شِعرًا كثيرًا، فهذا إذا تأمَّله المتأمِّل تَبَيَّن - بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم - أنه خارِجٌ عن العادَة، وأنه مُعجِز، وهذه خصوصِيَّة ترجع إلى جملة القرآن، وتَمَيُّزٍ حاصِل في جميعه.
ومنها أنه ليس للعرب كلامٌ مُشتَمِل على هذه الفَصاحة والغَرابة، والتصرُّف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحِكَم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطُّولِ، وعلى هذا القَدْرِ، وإنما تُنسَب إلى حَكِيمِهم كلماتٌ معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعِرِهم قصائد مَحصُورة يَقع فيها مِن الاختِلال، ويَعتَرِضها مِن الاختلاف، ويَشمَلُها مِن التَّعَمُّل والتكلُّف والتجوُّز والتعسُّف ما يُمكِن بيانه، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله مُتناسِبًا في الفصَاحَة على ما وصَفه الله تعالى به فقال عزَّ مِن قائل: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23][2].
وعدد آيات القرآن نحو ستة آلاف ومائتي آية (6200)، تناوَلَت موضوعاتٍ شَتَّى؛ في الاعتِقاد، والتشريع، والأخلاق، والقصص، وغيرها، وكلُّها جاءَتْ في غاية الدقَّة والإحكام، مع روعة البلاغة والبيان.
وليس في القرآن معنًى يُعارِض معنًى، أو حكُم يُناقِض حُكمًا، أو مبدأ يَهدِم مبدأ، أو غرَض لا يتَّفق مع آخر، وصَدَقَ الحقُّ جلَّ وعلا إذ يقول: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
الفرع الثاني: الإعجاز في الإخبار بالْمُغيَّبات:
مِن وجوه إعجاز القرآن إعجازُه في الإخبار بالْمُغَيَّبات، هذه الْمُغَيَّبات قد تَتَعلَّق بالماضي السَّحِيق الْمُوغِل في القِدَم ممَّا لم يشهَدْه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي خاطَبَه ربُّه سبحانه فقال: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]؛ وذلك تعقيبًا على قصة امرأة عمران، وتمهيدًا للحديث عن مريم عليها السلام.
ومنها ما يتعلَّق بالحاضر الواقع في زمنِ نزول القرآن عن أمور مُتَعَلِّقة بغُيُوبٍ لِمَن هم في عصْر الرسالة.
ومنها ما يَتَعلَّق بغُيُوبٍ مستقبلِيَّة لم تكن وقعَت في عهده صلَّى الله عليه وسلَّم، وممَّا يكُون في يوم القيامة.
أ- من الغيوب التي وقعت في الماضي:
♦ في سورة البقرة أَخبَر الحقُّ جلَّ وعلا عن مُغَيَّبات وقعَتْ لبني إسرائيل، وما حدث لموسى عليه السلام معهم؛ مثل قصَّة البقرة، وقصة اتِّخاذهم العِجْل، وكذلك قصَّة بناء الكعبة على يد إبراهيم وإسماعيل.
♦ وفي سورة البقرة كذلك قصَّة طالوت وجالوت، وانتِصار بني إسرائيل على أعدائهم وقيام مملكة داود عليه السلام.
♦ وفي سورة آل عمران قصَّة امرأة عمران، وقصَّة مريم وولدها عيسى ابن مريم عليهما السلام ونبوَّته ورسالته.
♦ وفي سورة الأعراف: قصَّة عاد، وثمود، وقصة خلْق آدم عليه السلام، وقصَّة ما وقع لآدم مِن إبليس لعَنَه الله، وإخراج آدم مِن الجَنَّة بوسوسته، وقصَّة تمكين الله تعالى لموسى عليه السلام وبني إسرائيل.
♦ وفي سورة يوسف قصة يوسف عليه السلام كاملة في موطن واحد.
♦ وفي سورة القصص قصَّة موسى مِن لحظة ميلاده حتى خروجه مِن مصر وعودته إليها، والصراع الذي دارَ بين موسى ودعوته، وفرعون الذي رفَضَ دعوة الإسلام التي جاء بها موسى عليه السلام.
♦ وكذلك قصَّة قارون وكيف أهلَكَه الله تعالى بطغيانه وجبروته.
♦ وفي سُوَرٍ كثيرةٍ مِن القرآن ألوانٌ مُتَنوِّعة مِن القصص، الذي يُخبِر عن غيبيَّات مِن الماضي ما كان لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَعْلَمَها إلا مِن خلال الوحي، وفي التعقيب على قصة موسى في سورة القصص يقول الحق جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 - 46].
مِن كلِّ هذا يتَّضح أنَّ أكبر دليلٍ على أنَّ القرآن مِن عند الله تعالى هذا القصصُ، الذي يَعرِض لوقائع تفصيلِيَّة في تاريخٍ غابِرٍ ما شَهِدَه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنه عِلْمُ الذي لا تَخْفَى عليه خافِيَةٌ في الأرض ولا في السماء.
ب- مِن الغُيُوب التي وقعَت في الحاضر الْمُعاصِر لنزول القرآن:
ومن إعجاز القرآن الإخبارُ بالمُغَيَّبات التي كانت مُعاصِرة لزمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فضْحُ مَكايد المُنافِقين ومُؤامراتهم؛ كما حدَث في مسجد الضرار؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 107 - 110].
وكان نَفَرٌ مِن المنافقين بَنَوْا هذا المسجد للكيد للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه، وجاؤوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُصَلِّي فيه فيتَّخِذوه مسجدًا وقالوا: يا رسول الله، قد بَنَيْنا مسجدًا لذي العِلَّةِ والحاجة والليلة المَطِيرة، ونحن نحبُّ أن تأتينا وتصلى فيه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنِّي على جناح سَفَرٍ وشغْلٍ، ولو قَدِمْنا إن شاء الله أتيناكم فصليَّنا لكم فيه)).
ثم نزل القرآن فأرسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قفُولِه مِن تبوك مَن يهدمه، فهُدِّم وأُحرِق.
♦ وكذلك في سورة التوبة بيانٌ لكثيرٍ مِن المُغَيَّبات التي كانت حاضرة وقتَ نزول القرآن، أخبر بها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يكُن يَعلم بها حتى نزَل القرآنُ يُبَيِّنها؛ ومِن ذلك مواقف المنافقين التي حكى عنها القرآن؛ يقول تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [التوبة: 75 - 78].
وممَّا أَخبَر به القرآنُ مِن شأن المنافقين: موقفُ عبدِ الله بن أُبَيِّ بن سَلُول الذي قال عنه القرآن: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 7- 8].
وكان عبدُ الله بن أُبَيٍّ قال تلك الكلمة في حقِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَخبَر زيدُ بنُ أرقم رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا سُئِل عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ عن قول تلك الكلمة أَنكَر أنه قالَهَا، فأنزل الله تعالى في القرآن تصْديقَ زيدِ بنِ أرقم، وغيْر ذلك في القرآن كثير.
ج- من الغيوب المستقبلية التي أَخبَر بها القرآن:
وأمَّا عن الغيوب المستقبلِيَّة التي أَخبَر بها فهي كثيرة؛ فمِن ذلك: إخبارُ القرآن عن الرُّوم أنهم سينتَصِرون على الفُرس في بضْع سنين حيث نزل قول الله تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 2 - 6]، وتَحَقَّق وعْدُ الله تعالى بالفعْل؛ وانقَضَّ هرقل عظيم الرُّوم بعد هزيمة الرُّوم ببضع سنين على مَعاقِل الفُرس، فلاذَ الفُرس بالفرار، وهُزِموا هزيمةً فادحة، ثم عاد هرقل إلى القسطنطينية عاصمةِ الرُّوم، وتَمَّ له ذلك في بضع السنوات التي أَخبَر القرآنُ بها.
ومن ذلك ما أَخبَر به القرآنُ مِن انتِصار الدعوة الإسلامية، وانتِشار دِين الإسلام، والآياتُ في ذلك مُتكاثِرة، وقد حدَث ما أَخبَر به القرآنُ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 32 - 33].
الفرع الثالث: الإعجاز العلمي:
مِن جوانب الإعجاز التي تكلَّم فيها المُعاصِرون: إعجازُ القرآن العِلْمِيُّ، وهذا الإعجاز العلمي لا يَتبدَّى في اشتمال القرآنِ على النظرِيَّات العِلْمية التي يُمكِن أن تتغيَّر وتتبدَّل وتكون ثمرةً للجهد البشري في النظَر والبحث، وإنما يبدو إعجاز القرآن في حثِّ الإنسان على التفكير والبحث الذي قاد العقلَ البشريَّ للوصول إلى هذه النظريات والقوانين.
فالقرآنُ يَحُثُّ العقلَ البشَريَّ على النظَر في الكون وتدبُّره، ولا يَشُلُّ حرَكته في التفكير، ولا يَحُول بينه وبين الاستِزادة مِن العلوم ما استَطاع إلى ذلك سبيلًا، وليس ثَمَّة كتاب مِن كُتب الأديانِ السابقة يَكْفُل هذا مثلما يَكْفُلُه القرآنُ.
ومِن هنا فإنَّ أيَّ مسألة مِن مسائل العِلم، أو قاعدة مِن قواعده يثبت رسوخها، ويتبيَّن يَقِينُها تكون مُحَقِّقة لما حثَّ عليه القرآنُ مِن منهج عِلْمي، وتفكير سليم.
وقد تقدَّمت العلومُ في هذا العصر تقدُّمًا كبيرًا، وكثُرَت مسائلُها، ولم يَتعارَض شيءٌ ثابتٌ منها مع آية مِن آيات القرآن، وهذا يُعَدُّ من الإعجاز.
كذلك فإنَّ إعجازَ القرآنِ العلميَّ بابٌ واسع، ولا نتكلَّم عن نظريات وفروض لا تزال قيد البحث والنظر، ولكن تلك الحقائق العلمية الراسخة التي أَثبَتَها العِلم جِيلًا بعد جيل، نجد في القرآن العظيم إشاراتٍ إلى جُمَلٍ منها؛ ذلك أن القرآن كتابُ هداية وإرشاد، وهو حين يُشِير إلى حقيقةٍ علميَّة، يُشِير إليها إشارةً مُوجَزة مُجمَلة يَعرفها العُلماء بعد طُولِ البحث والدَّرس، ويُلاحِظون تضمُّن الإشارة القرآنية مع رسوخ العِلم، وطُول الممارسة له.
ومن هذه الإشارات الإعجازية البالغة ما يلي:
1- التلقيح في النبات ذاتيٌّ وخلطيٌّ، والذاتي هو ما اشتملَت زهرتُه على عضو التذكير والتأنيث، والخلطي هو ما كان عضو التذكير فيه مُنفَصِلًا عن عضو التأنيث كالنَّخِيل فيكون بالنَّقْل، ومِن وسائل ذلك الرياح، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾ [الحجر: 22].
2- الأوكسجين هو غاز ضروري للتنفُّس، ويَقِلُّ في طبقات الجوِّ العُليَا، فكُلَّما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحسَّ بضِيق الصدْر، وصعوبة التنفُّس، والله تعالى يقول: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125].
3- وفي مجال عِلم الأجِنَّة يقول الله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 5 - 7].
وقد أَثبَتَ العُلماء هذه الحقيقة العلميَّة؛ إذ إنَّ التكْوينات الأولى للبُوَيْضَة والحيوانِ المنويِّ تبدأ مِن بيْن الصُّلب والترائب، وهي عظام الصَّدْر.
4- ما أَرشَد إليه القرآنُ مِن اختِلاف بصمات الأصابع في الإنسان في قوله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 3، 4]، فهذه الآية تلفِتُ النظر إلى قُدرة الله تعالى، وحكْمتِه في خلْق البَنان بصورة مختلفة مِن إنسان إلى آخر؛ ممَّا يترتَّب عليه اختلاف بصمات الأصابع.
وإذا ذَهَبْنا نُعَدِّد أمثلةً للإعجاز العِلميِّ في القرآن نجدها كثيرةً، والقرآنُ حين يَعرِض هذه الآياتِ الكونيةَ كدلائل للإعجاز، يَعرِضها في مَعرِض الهداية بالقرآن الذي هو كلام العليم الخبير بأسرار السماوات والأرض، ويهدف منها إلى لَفْتِ الأنظار إلى بديعِ قُدرةِ اللهِ تعالى كدليل على وحدانيته وألوهيَّته.
الفرع الرابع: الإعجاز التشريعي:
عَرفَت البشريةُ في عصور التاريخ المختلِفة ألوانًا مختلِفة مِن المذاهب والنظريات، والنُّظُم والتشريعات التي تَسْتَهدِف سعادةَ الفرد والجماعة، ولكن واحدًا منها لم يبلغ مِن الروعة والإتقان والإجلال مَبْلَغ القرآن في تشرِيعاته ونُظُمه، بل ولا داناه، ولا قارَبَه.
لقد جاء القرآن لِيَبْنِيَ عقيدةً في القلوب تُؤَثِّر على سلوك الإنسان ووجدانه ومشاعره، وترسُم في حَنايَا نفسِه مَسارِب للتربية الإيمانية العَمِيقة التي تقُوم على عقيدة التوحيد.
فأساس التشريع الإسلامي هو في تلك العقيدة، التي يُرَبِّي عليها القرآنُ أبناءَ الإسلام فتُتَرجَم إلى سلوك عملي، عقيدة تقُوم على أن الله تعالى خالِقُ الكونِ ومُنشِئه، والمُهَيْمِن على كلِّ كبير وصغير فيه.
والعالَم الذي يَحْيَا فيه الفرْد المسلم هو جزءٌ مِن هذا الكون الكبير، يجب أن يَسِير على وَفْقِ المنهج الذي ارتَضَاه له خالقُه، ومِن أُسُس عقيدة التوحيد ما جاء في القرآن مثل:
♦ قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
♦ وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].
♦ وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾ [يونس: 3].
♦ وقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
♦ وقوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103].
♦ وقوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88].
هذه الحقائق عندما تَعِيش في وجدان المسلم، ويَتربَّى عليها، يكُون انقِيادُه لشريعة الله المنزلة في كتاب الله انقِيادًا تامًّا مُسْتَوْلِيًا على كلِّ شخصيَّته، ويعدُّ نفسَه متعبِّدًا إلى الله تعالى خالقِه بكلِّ تكليف، وكلِّ أمر، وكلِّ نهيٍ يَرِدُ في القرآن أو في سنَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يقف منه الموقف المُذْعِنِ للأمر بالائتِمار، وللنهي بالانتهاء.
وهكذا إذا صحَّت العقيدة كان الأخْذ بالتشريع القرآني على مستوى صحَّة العقيدة، فتصبح كلُّ عبادة مفروضة من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها من ضروب العبادة مَظْهَرًا مِن مَظاهر الصلاح، الذي يَنعَكِس أثره على المجتمع في مجموعِه، والدولةِ في نظامها.
فالصلاة تربية روحية يَتَعلَّم الفردُ مِن خلالها نظامَ الجماعة؛ فهو يُؤَدِّيها في جماعة خمس مرَّات في اليوم والليلة، فيتعلَّم النظام، ويتعلَّم الإيجابية، فالصلاة تَنهَى عن الفحشاء والمُنْكر، وهو في اتِّجاهه إلى قبلة واحدة يتفكَّر في تلك القبلة التي يُصَلِّي إليها المسلمون جميعًا في مَشارِق الأرض ومَغارِبها؛ فيَشعُر بالوَحدة الإسلامية، والآصِرَةِ الإيمانية، تملأُ أرجاءَ نفسِه، وتُسَيطر على كيانه ومشاعره.
والزكاةُ تَقتَلِع مِن النفس جذورَ الشرِّ، وعبادةَ المال، والحرصَ على الدنيا، وهي في صالح الجماعة؛ فهي تُقِيم دعائم التعاوُن بين أفراد المجتمع، وتشعر النفس بتكامُلها مع الآخَرين.
والصوم ضبْطٌ للنفس، وشحْذٌ لعزائمها، وحبْس للشهوة، وتقوِيَة للإرادة، وهو مَظْهَرٌ اجتماعي يجمع المسلمين شهرًا كاملًا على نظام واحد في الطعام والشراب، فتَقْوَى الأواصِرُ، وتتوحَّد الهِمَم والمشاعر.
والحجُّ سياحة روحية، وتجْوَال في أماكنِ مَهْبطِ الوحيِ الأولى، وبها ينخلع المسلم مِن أهله ووطنه وجَواذِب الأرض والطين؛ لينضمَّ إلى قافلة المُقبِلين على الله.
ومِن تربية القرآنِ للفرد ينتقل إلى بناء الأسرة على دعائم صالحة مِن الودِّ والرحمة كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
وتقُوم المعاشرة داخل الأسرة المسلمة على المعروف، وللرجُل القوامة التي تعني: القيام بالرعاية، واستشعار المسؤولية.
ثم يأتي نظام الحكْم الذي يقُوم في المجتمع المسلم، فهو كما أرادَه الله تعالى، وبيَّنَه في القرآنِ نظامٌ يقُوم على الشورى المُلزِمة، فلا استبداد برأيٍ، ولا تعطيل لقُوَى المجتمع الحيَّة في تنمية المجتمع وترقِيَته؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].
هي إذًا حكومة الشورى والمساواة، والعدل والحرية، وتحكيم الشريعة في الصغير والكبير مِن أمور الدولة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].
وكما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
والتشريع الإسلامي جاء تشريعًا قائمًا على أُصول صالحة عامَّة؛ فهو تشريع مَرِن يَصلُح لحاجَة الجماعة البشرية في كلِّ عصر، وهو تشريع مُتوازِن مُتكامِل؛ يجمع بين حاجات الرُّوح ومَطالِب البَدَن.
ولقد جاء القرآن بأُصول التشريعات المختلفة؛ مِن تشريعات اجتماعية واقتصادية، وسياسية ودستورية، ودولية وجنائية، في أسلوب سهل بديع يُهَيِّئ الملَكة العلمية للاجتهاد والتطوير المُنضَبِط بالثوابت والقطعِيَّات، وبما يَتلاءَم مع ظروف العصر وحاجات كلِّ جماعة من الجماعات البشرية.
ومن سِمَات التشريع القرآني المعجز:
أولًا: الربانيَّة:
أوَّل ما تمتاز به شريعة القرآن عن قوانين البشَر جميعًا: أنها شريعة ربَّانيَّة المصْدر، ربانِيَّة الوجهة.
فربَّانِيَّة المصدر تَتمثَّل في أنها ليست مِن وضْع البشَر، الذين يَستولي على عملهم دائمًا النقْص والقصور والعجْز عن بلوغ الكمال، فضلًا عن مُؤَثِّرات الزمان والمكان والحال والهوى والعاطفة.
وربَّانيَّة الوجهة تَتَمثَّل في أن هدف الشريعة القرآنية الأوَّل هو ربْط الناس بربهم؛ حتى يعرفوه ويُوَحِّدوه ويتَّقوه حقَّ تقواه، ويعبُدوه حقَّ عبادته.
وليس هذا خاصًّا بالعبادات الفردية فقط، وإنما يشمل سائر أحكام الشريعة في مجالاتها المختلفة: الاجتماعية، والمدنية، والدستورية، والدولية، والجنائية، وغيرها.
ثانيًا: العالمية أو الإنسانية:
حيث إنَّ شريعة الإسلام ليست شريعة قوْم مخصوصين، فهي ليست شريعةً للعرب دون غيرهم، وليست لشعب من الشعوب دون باقي الشعوب الأخرى، بل هي شريعة عالمية إنسانية نزلَت لتُطَبَّق في كلِّ زمان ومكان، فليست للبِيض دون السُّود، ولا للسود دون البيض، وإنما هي للإنسان مِن حيث هو إنسان يعيش في أيِّ مجتمع إنساني أيًّا كان هذا المجتمع.
ثالثًا: العدل المطْلَق:
فهدف الشريعة القرآنية إقامة العدل المطْلَق؛ وهو قاعدة أصيلة مِن قواعد الشريعة في مجالها السياسي والاقتصادي، والاجتماعي والجنائي والدولي.
رابعًا: الموازَنة بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع:
فالفرد في شريعة القرآن له حقوق، وعليه واجبات تُكافِئ هذه الحقوق، والمجتمع كذلك له حقوقه وعليه واجباته تجاه الفرد، والاثنان معا، الفرد والمجتمع، يَحْمِلان معًا عبْء القيام بالواجبات التي يفرِضها القرآن.
خامسًا: الشُّمول:
فالتشريع القرآني ليس تشريعًا قانونيًّا فقط يُنَظِّم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع مع بعضهم البعض، ولكنَّه قبل ذلك يُنَظِّم حياة الفرد الخاصَّة، وهو حين يَتناوَل التشريعَ لحياة الفرد يَتناوَل جوانب هذه الحياة جميعًا في تَناسُب واتِّساق ووحدة، لا يلغي النَّوازِع الفردِيَّة؛ بل يُنظِّمها ويُوَجِّهها لتَعُود بالنفع على الفرد والمجتمع.
كما أنه ليس تشريعًا لجانبٍ واحد من الحياة القانونية، بل هو تشريع لهذه الجوانب جميعها تتعمَّق فيه الروابط وتتوحَّد، وتتكامَل الاتِّجاهات والروافد.
سادسًا: الجمع بين الثَّبَات والمرُونة:
فالثَّبَات في الأصول والأهداف، والمرونة في الفروع والوسائل والتفاصيل، ومن هنا فإن للاجتهاد البشري في التشريع الإسلامي مجالًا كبيرًا للعمل.
فمجال الاجتِهاد هو منطقة الظنيَّات، أمَّا منطقة القطعيَّات فهي منطقة الأصول والأهداف، وهذه لا مجال للاجتِهاد فيها، وبهذا يجمع التشريع القرآني بين الثَّبَات والمرُونة في آنٍ واحد.
وهكذا، فإن هذه الخصائص التي تَتَميَّز بها شريعة الإسلام تُؤَكِّد الإعجازَ التشريعيَّ للقرآن الكريم الذي ستَظَلُّ شريعته شريعة الخلود والبقاء دليلًا على أن هذا القرآن من عند خالق الأرض والسماء.
[1] رواه البخاري.
[2] "إعجاز القرآن"؛ الباقلاني، ص: 35.
التعليقات