عناصر الخطبة
1/وصية تتابع عليها الأنبياء 2/الحياء خلق الإسلام 3/من آثار ذهاب الحياء 4/من مظاهر ضعف الحياء في المجتمعاقتباس
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، فَصَوِّرْ مَا شِئتَ، وانشُرْ مَا شِئتَ، وَمِنْ أَجلِ شُهرَةٍ رَذِيلَةٍ، ولِجَمعِ أَموالٍ ذَلِيلَةٍ، ظَهَرَتْ عَورَاتٌ كَانتْ مَصونَةً، وأَسرارٌ كَانتْ مَدفونَةً، وأَصبَحَ التَّصويرُ يَصِلُ إلى كُلِّ مَكانٍ في البيتِ دُونَ استثناءِ، وَصَارَ كُلُّ شيءٍ قَابلٌ للتَّصويرِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّها الأحبَّةُ: مَا رَأيُّكُم في كَلامٍ تَعَاقَبَ عَلى الوَصيةِ بِهِ الأنبياءُ، وأَجمَعَ على حُسنِهِ الحُكَمَاءُ، وتَتَابَعَ عَلى العَملِ بِهِ العُقَلاءُ، حَتى جَاءَ في وَصَاياَ سَيِّدِ الأتقيَاءِ؛ فَقَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، فَمَا أَجمَلَهَا مِن كَلِمَاتٍ!، مِن بَقَايَا تُراثِ النُّبوَاتِ، فَكُلُّ الشَّرائعِ والأَديانِ تَتَابَعتْ عَلى الوَصيَّةِ بَالحَياءِ، حَتى أَصبحَ شِعَاراً وخُلُقاً لدِينِ خَاتَمِ الأَنبياءِ، كَمَا قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلَامِ الْـحَيَاءُ".
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، هَل المَقصودُ: أَنَّ الفِعلَ إذا لَم يَكُنْ يُستَحيا مِنهُ أَمَامَ اللهِ -تَعالى- وَخَلقِهِ، فَافعلُهُ فَإنَّهُ جَائزٌ، وَأَما الذي يُستَحيا مِنهُ فَاتركهُ فَإنَّهُ حَرامٌ، فَالضَابطُ في مَعرِفَةِ مَا يَجوزُ وَمَا يَحرُمُ هُوَ الحيَاءُ، وعَلى هَذا المَعنى يَكونُ الحَديثُ عَلى المَدحِ والثَّناءِ، وَفِي مِثلِ هَذا يَقُولُ الشَّاعِرُ:
وَرُبَّ قَبِيْحَةٍ مَا حَالَ بَينِي *** وَبَيْنَ رُكُوْبِهَا إِلَّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدَّوَاءَ لَهَا وَلَكِنْ *** إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
أَو يَكونُ المَعنى على التَّهدِيدِ والوَعيدِ، والمَقصودُ أَنَّهُ إذا لَم يَكُنْ لَكَ حَياءٌ يَمنَعُكَ مِنَ القَبَائحِ، فَافعَلْ مَا شِئتَ؛ فَإنَّكَ مَحَاسبٌ عَليهَا يَومَ تُبلى الفَضَائحُ، وَذَلِكَ مِثلُ قَولِهِ -تَعَالى-: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 40]، وَكَقولِه -سُبحَانَهُ-: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)[الزمر: 15]، يَعني: فَسَوفُ تُحَاسبُونَ عَلى العَملِ السيءِ والشِّركِ يَومَ القِيامةِ.
وَهَذا المَعنى كَأَنَّهُ الأَقربُ بَلْ هُو مَا نَراهُ في الوَاقعِ؛ فَإنَّ الحَياءَ إذا ذَهَبَ نُزِعَتْ الأَقنِعَةُ والبَرَاقِعُ، وظَهَرَتْ مَعَادِنُ النَّاسِ عَلى الحَقَائقِ، وَبَانَ مَا كَانَ يَسترُهُ الحَيَاءُ مِنَ البَوائقِ، عِندَهَا لا تَسلْ عَن فَسَادِ الأَفرادِ والمُجتَمَعاتِ، فَيَكونُ القَبرُ خَيراً مِن تِلكَ السَّنَواتِ الخَدَّاعَاتِ، وَصَدَقَ القَائلُ:
إذَا لَمْ تَخْـــشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي *** وَلَمْ تَسْـــتَحِ فَــاصْنَعْ مَــا تَشَاءُ
فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِـي الْعَيْشِ خَـــيْرٌ *** وَلَا الدُّنْيَـا إذَا ذَهَـبَ الْحَيَـاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْــتَحْيَا بِخَــيْرٍ *** وَيَبْقَى الْعُـودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، وتَكَلَّمْ فِي المَجَالسِ بِمَا تَشَاءُ، مِن كَذِبٍ وغِيبةٍ واستِهزَاءٍ، وافضَحْ مَا سَتَرَهُ اللهُ عَليكَ في ظُلمَةِ اللَّيالي، واطلِقْ لِلسَانِكَ العِنانَ لِيَقولَ مَا شَاءَ ولا تُبالي، فَإذا لَم يَمنَعْكَ دِينٌ ولا حَياءٌ، فَمَا هِيَ حُدودُكَ الحَمراءِ؟! وَكَمَا قَالَ مُعاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "يَا نَبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بِمَا نَتَكلَّمُ بِه؟، قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ!، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وجُوهِهِم، أَو عَلَى مَنَاخِرِهم، إلَّا حَصَائدُ أَلسِنَتِهم".
إذَا رُزِقَ الفَتَى وَجهَاً وَقَاحَاً *** تَقَلَّبَ في الأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، فَانظُرْ لِمَا شِئتَ، واسمَعْ مَا شِئتَ، وافعَلْ مَا شِئتَ، واظلِم مَن شِئتَ، واكسِبْ مَالَكَ مِن حَيثُ شِئت، واصرِفْ مَالَكَ فِيما شِئتَ، وَمَا لَم تَستحِ مِنهُ اليَومَ فَستَجِدُهُ في كِتابٍ، عِندَمَا يُعرَضُ النَّاسُ في يومِ الحِسابِ؛ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].
أَقولُ مَا تَسمَعونَ، وَأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي وَلَكم مِنْ كُلِّ ذَنبٍ فَاستغفِروه؛ إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ المَحمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ حَالِ أَهلِ الضَّلالِ، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ الكَبيرُ المُتَعالُ، وَأَشهدُ أنَّ نَبيَّنَا مُحمداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ، المَجبُولُ عَلَى جَميلِ الفِعَالِ، وَكَريمِ الخِصَالِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمْ تَسليماً كَثيراً، أَمَا بَعدُ:
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، فَصَوِّرْ مَا شِئتَ، وانشُرْ مَا شِئتَ، وَمِنْ أَجلِ شُهرَةٍ رَذِيلَةٍ، ولِجَمعِ أَموالٍ ذَلِيلَةٍ، ظَهَرَتْ عَورَاتٌ كَانتْ مَصونَةً، وأَسرارٌ كَانتْ مَدفونَةً، وأَصبَحَ التَّصويرُ يَصِلُ إلى كُلِّ مَكانٍ في البيتِ دُونَ استثناءِ، وَصَارَ كُلُّ شيءٍ قَابلٌ للتَّصويرِ دُونَ تَحَفُّظٍ أو حَياءٍ، والعَجيبُ أَنَّ المُتَابعينَ لَهم بالآلافِ بَل بالمَلايينِ، فِي ضَياعٍ للأَوقاتِ والأَخلاقِ والدِّينِ!، وَكَأنَّ حَالَ الزَّمَانِ يَقُولُ: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الحجر: 3].
إذا لم تَصُنْ عِرْضًا وَلَم تَخشَ خَالِقًا *** وَتَستَحيِ مَخلوقًا فَمَا شِئتَ فَاصنَعِ
"إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"، والبَسْ مَا شِئتَ، وَقَلِّدْ مَن شِئتَ، فَهَذا قَصيرٌ يَكشِفُ أَفخَاذَ الرِّجَالِ، وَتِلكَ أَسَاورُ ورَبطَاتُ شَعرٍ وَسِلسَالٌ، فِي تَقليدٍ لُكُلِّ كَافرٍ وَفَاسقٍ وَضَالٍ، فَهَلْ هَذا ما يَتَربى عَليهِ الأجيَالُ؟! وَقَد مَضَى زَمَانٌ إذا لَم يَمنعِ الإنسانَ دِينٌ مَنَعَهُ الحَياءُ، وإنِّي لأخشَى زَمَاناً لا يَمنعُ مِن العَارِ دِينٌ ولا حَياءٌ، وإذا ذَهَبَ الحَياءُ ذَهبَ الخَيرُ كُلُّهُ، كَما قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ-: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَا بِخَيْرٍ".
إذا قَلَّ مَاءُ الوَجهِ قَلَّ حَياؤُهُ *** وَلا خَيرَ في وَجهٍ إذا قَلَّ مَاؤُهُ
حَيَاؤُكَ فَاحفَظْهُ عَليكَ فَإنَّمَا *** يَدُلُّ عَلى وَجهِ الكَريمِ حَياؤُهُ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وَمُرَاقَبَتَكَ في السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، اللَّهُمَّ اِهْدِنَا واهْدِ ضَالَ اَلْمُسْلِمِيْنَ، اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالْتُّقَىْ وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ، وَتُوَفَّنَا شُهَدَاءَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمَيْنَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَاَلْنَّارِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ مُضِلَاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ غِنًى يُطْغِينَا، وَمِنْ فَقْرٍ يُنَسِينَا، وَمِنْ مَرَضٍ يُؤْذِينَا، وَمِنْ بَلَاءٍ يُشْقِينَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ أَوْزِعْنَا شُكْرَ نِعَمِكَ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ ذَاكِرِينَ، اللَّهُمَّ اسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ الَّذِي لَا يَنْكَشِفُ، اللَّهُمَّ مِنْ أَرَادَنَا أَوْ أَرَادَ بِلَادَنَا وَبِلادَ المُسلمِينَ بِسُوءٍ، اللَّهُمَّ أَشْغِلْهُ فِي نَفْسِهِ، وَاجْعَلْ كَيَدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ سَبَبًا لِتَدْمِيرِهِ يَا رَبَّ الْعَالَمَيْنَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
التعليقات