اقتباس
أيها المفترون كفى كذبًا على الصحابة والتاريخ
مجدي داود
إن المرء لَيَعْجَبُ من هؤلاء المزيِّفين الذين يَصرُخون ليلَ نهارَ، يدَّعون الثقافة والشفافية، ويُنادون بالرأي والرأي الآخر، يَدَّعون أنهم مُفَكِّرون وعقلانِيُّون ومنطقيُّون، لكنَّهم في واقع الأمر كَذَّابون مُزَيِّفون، لا يقولون إلا كذبًا، ولا يَنطِقون بحقٍّ أبدًا، فمن أجل التأكِيد على فكرة مُزَيَّفة يَكذِبون على الناس، ويَفتَرُون على خير الخلق وأكرم البشر، ويَقلِبون حقائق التاريخ، دونما أيِّ اعتبارٍ لمكانة المُفتَرَى عليهم، أو لخطورة هذه الأكاذيب التي يُروِّجونها.
إن أمامنا واقعة حقيقِيَّة، حاوَلَ فيها أحد هؤلاء المُثَقَّفين أن يُدَلِّل على صدْق وصحَّة فكرته التي يدعو إليها؛ وهى فصْل الدين عن السياسة، ولأنَّه يعرف أن بضاعَتَه كاسِدَة صارَتْ لا تَلْقَى رَواجًا بين الناس إلاَّ من خلال قلب الحقائق، استدلَّ على صحَّة فكرته بما أسماه بُعْد نظر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه وأرضاه - إذ أجبر كبار صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على البقاء في الجزيرة العربية بجانيه وتحت نظره حتى لا يستغلَّ هؤلاء الصحابة الكرام مكانتهم وفضلهم في جمع المال، وقال: إنه بعد ذلك وعندما انتَقَل الصحابة إلى المدن المفتوحة حديثًا، تراكمت الثروات وتضخَّمت واندلعت الحروب بينهم، وأُرِيقت الدِّماء في حروبٍ ظاهرها ديني وجوهرها صراع مصالح - كما يدَّعي - ودلَّل على ذلك بما حصل بين عليٍّ وطلحة والزبير - رضي الله عنهم.
إن هذا الكاتب قد استغلَّ مَكانةَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - في شحْن عواطفهم باتِّجاه فصْل الدين عن السياسة، فهل يا ترى هذا الكاتب مقتنع برأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - في فكرة فصْل الدين عن السياسة؟! واللهِ لو قال أحدٌ هذا الكلام لأمير المؤمنين عمر لفصَلَ رأسه عن جسده؛ فعمر - رضِي الله عنه - رجلٌ لا يَرْضَى الدَّنِيَّة في الدين.
لكن؛ هل حقًّا أجبَرَ أمير المؤمنين عمرُ - رضِي الله عنه - كبارَ الصحابة - رضِي الله عنهم - على البَقاء في المدينة؟ وهل بَقاؤهم معه كان لذلك السبب الذي ذكَرَه الكاتب؟
كلاَّ، إنَّ عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - لم يُجبِر كبارَ الصحابة - رضِي الله عنهم - على البَقاء في المدينة على الإطلاق، كيف وقد كان أبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعد بن أبى وقاص وغيرهم - رضِي الله عنهم - على رأس الجيوش الإسلامية التي تُقاتِل في بلاد فارس وبلاد الشام، أليس هؤلاء من أكبر الصحابة سِنًّا ومكانةً؟! ألم يخرج بلال بن رباح - رضِي الله عنه - إلى بلاد الشام وأقام هناك حتى مات؟! إن عمر أبقى كبارَ الصحابة الذين لم يكن لخروجهم من المدينة يومئذٍ فائدة، أمَّا مَن كان خروجه من أجل المصلحة فكان يدعه يخرج.
إن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - إنما أَبْقَى كبار الصحابة معه في المدينة من أجل أن يكونوا وُزَراء له، مُؤتَمنين على هذه الأمَّة وهذا الدين العظيم، يقومون معه على أمور الناس، يُؤَيِّدونه إذا أحسَنَ، ويُقَوِّمونه إذا أخطأ، فعمر كان يُدرِك أنَّه بشر وأن الدولة في اتِّساع سريع وكبير، ولا بُدَّ له من قومٍ يُعِينونه، وليس أحدٌ أفضل من صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم بهذا الدور، فعمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - كان يُدرِك ويَعرِف أن صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هم أهل الحلِّ والعقد وهم أهل الشورى، وما كان له أن يقطع أمرًا دونهم، فكان يَستشِيرهم في كلِّ كبيرة وصغيرة، وكان وجودهم معه وحوله يُساعِده في حلِّ كلِّ المشاكل الطارِئة التي تحدث في البلاد التي يتمُّ فتحها، فمن أجل هذا بقي كبار الصحابة في المدينة بإرادتهم طائِعين غير مُجبَرين ولا مُكرَهين، وكلٌّ له مقامه ومنزلته التي لا يستطيع أن يَنال منها، فعليٌّ له من المكانة ما له، وكذلك عثمان وطلحة والزبير وعمار وسلمان - رضِي الله عنهم.
أمَّا ما حدث بعد مقتل أمير المؤمنين عمر - رضِي الله عنه - من تراكُمٍ للأموال وتضخُّمٍ للثروات فلم يكن بالشيء الجديد؛ فقد حدث ذلك على عهد عمر، لكن عمر كان يُرسِل رسله إلى هؤلاء الأمراء فيأخذ منهم مالهم أو يُناصِفهم فيه ويضعه في بيت المال، دون اتِّهام لأحدٍ فيهم بأنه يستغلُّ سلطته، وقد فعل ذلك مع عمرو بن العاص، وكان وُلاته يُطِيعونه دون أن يجدوا في أنفسهم منه شيئًا، فهؤلاء الصحابة الذين جمَعُوا الأموال إنما جمَعُوها من تجارتهم وعملهم، فقد كان هؤلاء من أمهر التجَّار قبل الإسلام وبعده، ولا يعيب المرء أن يكون لديه المال الكثير، طالما أنه اكتسَبَه من الحلال وأنفَقَه في الحلال وأخرج زكاته، فحينئذٍ يُبارِك الله له فيه ويَزِيد من نعمه، فهؤلاء الصحابة الذين عاشوا أصعب اللحظات مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكن ليبدِّلوا بعد وفاته، ولم يُسجِّل التاريخ عن أحدٍ منهم أنه أخذ مالاً ليس له.
أمَّا عن المعارِك التي دارَتْ بين كِبار صحابة رسول الله المُبَشَّرين بالجنَّة - كما حدَّد الكاتب - فهي ليست إلا معركة واحدة تُعرَف باسم موقعة الجمل، كانت بين علي بن أبى طالب من جهة، وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة من جهة أخرى - فرضِي الله عنهم جميعًا - وهذه الموقعة لم يكن لأحدٍ من هؤلاء الأربعة فيها هوًى ولا مصلحة شخصيَّة؛ فأمَّا عليٌّ فقد كان حينئذٍ خليفة المسلمين وإمامهم، وقد جلس في بيته ثلاثة أيَّام بعد مقتل عثمان رافِضًا أن يُبايِعه الناس خليفة للمسلمين، وكان يقول لهم: "لَأَنْ أكون وزيرًا خيرٌ من أن أكون أميرًا"، وإن من أوَّل مَن بايَعَه طلحة والزبير، وأمَّا طلحة والزبير فلم يكونا من الوُلاَة الذين عزَلَهم عليٌّ - رضِي الله عنهم جميعًا - ولم يكونا من أصحاب الثروات فأخذَهَا منهم عليٌّ رضي الله عنه.
إن طلحة والزبير وعائشة - رضِي الله عنهم - إنما خرَجُوا إلى العراق من أجل التأكِيد على مبدأ عدم فصْل الدين عن الدولة والسياسة، فقد خشوا أن يمنع الثوَّار عليًّا - رضِي الله عنه - من أن يقوم بأمور الدولة خيرَ قيام، فخرجوا يطلبون العَوْن والمساعَدَة من أهل العراق كي يُساعِدوا أميرهم عليًّا - رضِي الله عنه - في القِصاص من قتَلَة عثمان - رضِي الله عنه - وتطبيق شرع الله فيهم، فخروجهم إلى العراق هو تأكيدٌ على أنه لا فصْل بين الدين والدولة، ولا فصْل بين الدين والسياسة، وعلى ضرورة تحكيم شرع الله.
ولَمَّا خرج أمير المؤمنين عليٌّ إلى العراق لم يكن خروجه لقتال زوج نبيِّه وابن عمَّته، وإنما خرج ليُوَحِّد صفَّ الأمَّة، مُؤَكِّدًا لهم أنه سيأخذ بثأر عثمان لا مَحالَة، واجتمعوا واتَّفَقُوا على الثأر لعثمان، فلمَّا رأى المنافِقون والثوَّار ذلك، أشعَلُوا فَتِيل الحرب بين الفريقين فاندلعَتْ وقُتِل مَن قتل، فجاء رجلٌ يُبَشِّر عليًّا بقتْل الزبير - رضِي الله عنهما - فبشَّرَه عليٌّ بالنار، وكان - رضِي الله عنه - قد أمَرَ جنوده ألاَّ يقتربوا من طلحة، فلمَّا رأى طلحة ذلك ورأى الدِّماء تهرق بدأ ينسحب من المعركة فعاجَلَه أحدهم برُمْحٍ فقتله، وأمَّا أمُّ المؤمنين - رضِي الله عنها - فلمَّا رأت الدماء تمنَّتْ لو أنها ماتَتْ قبل ذلك بعشرين سنة، ووقف على خيمتها رجلان يَسُبَّانِها فأمر عليٌّ بهما فجُلِدَا، وجهَّزها عليٌّ ليُعِيدها إلى المدينة، فقالت للناس وهى ذاهبة: "والله ليس بيني وبين عليٍّ إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها"، فهل مثل هؤلاء يقتتلون على مصلحة شخصية أو ثروة فانِيَة؟!
فالأمر لم يكن صِراعًا دِينيًّا، ولم يكن صراعَ مصالح، بل لم يكن صِراعًا؛ وإنَّما اختلافٌ في وقت تنفيذ القِصاص لدم عثمان - رضِي الله عنه - لكن المنافقين أبَوْا إلاَّ أنْ يجعلوها حربًا، وليس المقام مقامَ بحثٍ عن سبب وأحداث هذه الفتنة، ولكنه ردٌّ يَسِيرٌ على هذا الكاتب، وهناك كتب كثيرة مُعتَمدة لدى أهل السنَّة لِمَن أراد معرفة هذه الأحداث، ولا أنصَحُه بقراءتها إلا لضرورة.
إن هذا الكاتب يستدلُّ بكتاب "الفتنة الكبرى"؛ لطه حسين، وأنا قد قرأت هذا الكتاب مرَّتين قبل ستِّ سنوات من الآن، ووجدت أن طه حسين ذكر أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يوجد دليل صحيح عليها، وهنا أسأل الكاتب: هل كان طه حسين مُؤَرِّخًا؟! أليس من مبادئ البحث العلمي - يا من تدَّعي العلم والتحضُّر - أن تأخذ العلم من أهله، وأن تبحث عن المصادر الصحيحة من أجل الحصول على معلومات صحيحة؟! أم أنَّك تبحث عن شيءٍ يُوافِق هواك لتدلِّل به على فكرة فاسدة، وتروِّج به بضاعة كاسدة؟!
إن الافتِراء على الصحابة من أجل إيجاد حجَّة للتأكيد على صحَّة فكرة فاسدة هو عمل المنافِقين وشِيَم الكذَّابين، ولن تحصل من وراء هذا الافتِراء والكذب على ما تُرِيد - إن شاء الله - فكفى كذبًا وافتراء.
التعليقات