أيها الحاج: عرفت فالزم

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: التربية الحج
عناصر الخطبة
1/ عودة الحجيج 2/ استقبالهم صفحة جديدة في حياتهم 3/ معانٍ تربوية من الحج 4/ ضرورة الاعتزام على الالتزام بأوامر الله 5/ محاسبة النفس على ما فات 6/ أعمال تعدل فضل الحج 7/ أعمال منسية
اهداف الخطبة

اقتباس

لَقَد كُنتُم -مَعشرَ الحُجَّاجِ- في رِحلَةٍ إِيمَانِيَّةٍ ذَاتِ مَعَانٍ تَربَوِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، طُفتُم مَعَ مَن طَافُوا وَسَعَيتُم مَعَ السَّاعِينَ، فَلَم تَزِيدُوا عَلَى سَبعَةِ أَشوَاطٍ في كُلِّ طَوَافٍ وَسَعيٍ وَلم تَنقُصُوا مِنهَا، وَوَقَفتُم في عَرَفَةَ مَعَ الوَاقِفِينَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ، فَلَم تَسمَحُوا لأَقدَامِكُم بِالتَّحَوُّلِ قَبلَ ذَلِكَ وَلَو بِلَحَظَاتٍ، وَكُنتُم في رَميِكُم الجَمَرَاتِ تَتَحَرَّونَ زَوَالَ الشَّمسِ فلا تَرمُونَ قَبلَهُ، وَرَمَيتُم بِسَبعٍ كَحَصَى الخَذْفِ لم تَزِيدُوا فِيهَا وَلم تَغلُوا في حَجمِهَا...

 

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: قَبلَ أَيَّامٍ قَلائِلَ، قَدِمَ مِن خَيرِ البِقَاعِ أَقوَامٌ بِغَيرِ مَا ذَهَبُوا بِهِ، وَصَدَرُوا بِخِلافِ مَا وَرَدُوا، قَفَلُوا بِوُجُوهٍ غَيرِ الَّتي رَاحُوا بها، وَانثَنَوا بِقُلُوبٍ غَيرِ تِلكَ الَّتي سَافَرُوا بها، رَجَعُوا كَيَومَ وَلَدَتهُم أُمَّهَاتُهُم، مَغفُورَةً ذُنُوبُهُم، مَوضُوعَةً أَوزَارُهُم، مُكَفَّرَةً سَيِّئَاتُهُم، رَجَعُوا مُطَهَّرِينَ مُنَزَّهِينَ، وَعَادُوا مُمَحَّصِينَ مُخَلَّصِينَ، ذَهَبُوا وَبَعضُهُم مُرهَقٌ بما لا يُطِيقُهُ مِنَ الأَوزَارِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَرَجَعُوا مُحَمَّلِينَ بِالأُجُورِ وَالحَسَنَاتِ، حَامِدِينَ لِلسَّعيِ المَشكُورِ، مَسرُورِينَ بِالذَّنبِ المَغفُورِ: (قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ) [يونس: 58].

لَقَد عَادَ أَقوَامٌ مُتَوَّجِينَ بِشَرَفٍ عَظِيمٍ، شَرَفٌ طَالَمَا تَاقَتْ نُفُوسُ المُؤمِنِينَ لِبُلُوغِهِ، وَتَعَالَت رُؤُوسُ العَابِدِينَ لِتَتوِيجِهَا بِهِ، طَافُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ، وَسَعَوا بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ، وَوَقَفُوا بِعَرَفَاتٍ وَبَاتُوا بِمُزدَلِفَةَ وَمِنىً، وَرَمَوُا الجَمَرَاتِ وَذَبَحُوا الهَديَ، وَحَلَّقُوا أَو قَصَّرُوا، ثُمَّ طَافُوا لِلصَّدرِ مُوَدِّعِينَ ذُنُوبًا أَثقَلَتهُم، مُفَارِقِينَ أَوزَارًا أَنصَبَتهُم، مُخَلِّفِينَ مَعَاصِيَ قَيَّدَتهُم وَكَبَّلَتهُم، وَهَا هُم بَينَ أَيدِينَا كَمَا وَلَدَتهُم أُمَّهَاتُهُم، فَهَنِيئًا لَهُم مَا نَالُوهُ مِن جَائِزَةِ رَبِّهِمُ الكُبرَى، هَنِيئًا لَهُم عَطِيَّتُهُ العُليَا وَمِنحَتُهُ العُظمَى، هَنِيئًا لَهُم يَومَ وَقَفُوا بِعَرَفَاتٍ مَعَ الحُجَّاجِ، فَبَاهَى بِهِمُ اللهُ مَلائِكَتَهُ وَأَشهَدَهُم عَلَى مَغفِرَتِهِ لَهُم، هَنِيئًا لَهُم يَومَ زَاحَمُوا عَلَى الجَمَرَاتِ وَبَاتُوا بِمُزدَلِفَةَ وَمِنىً وَطَافُوا وَسَعَوا، وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا إِقَامَةً لِذِكرِ اللهِ القَائِلِ سُبحَانَهُ: (فَاذكُرُوني أَذكُرْكُمْ) [البقرة: 152]، وَاتِّبَاعًا لإِمَامِهِمُ القَائِلِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم".

أَيُّهَا الحُجَّاجُ: يَا مَن طَهَّرَكُمُ اللهُ مِنَ الرِّجسِ بَعدَ أَن شَرَّقتُم في المُخَالَفَاتِ وَغَرَّبتُم: أَذهَبَ اللهُ غَدَرَاتِكُم وَفَجَرَاتِكُم، وَحَطَّ عَنكُم جَمِيعَ ذُنُوبِكُم وَسَيِّئَاتِكُم، أَنتُمُ اليَومَ تَستَقبِلُونَ صَفحَةً جَدِيدَةً، صَفحَةً نَاصِعَةَ البَيَاضِ مُشرِقَةً، صَفحَةً لا ذَنبَ يُسَوِّدُهَا وَلا خَطِيئَةَ، وَلا سَيِّئَةَ تُلَوِّثُهَا وَلا مُخَالَفَةَ، فَمَاذَا أَنتُم فَاعِلُونَ؟!

هَل تُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ الصَّفحَةِ النَّقِيَّةِ فَلا تَنكُتُوا فِيهَا أَيَّ نُكتَةٍ سَودَاءَ؟! هَل تَجلُونَ بَيَاضَهَا بِالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ؛ لِئَلاَّ يَعُودَ إِلَيهَا الرَّانُ فَيُذهِبَ نَقَاءَهَا ويُكَدِّرَ صَفَاءَهَا؟! هَلْ يَتَذَكَّرُ أَحَدُكُم كُلَّمَا هَمَّ بِمَعصِيَةٍ أَنَّهُ عَاهَدَ رَبَّهُ في أَفضَلِ البِقَاعِ بِعَدَمِ العَودَةِ إِلى المَعَاصِي؟! هَل يَتَذَكَّرُ كَرَمَ مَولاهُ وَجُودَهُ حَيثُ أَحَلَّ عَلَيهِ الرِّضَا وَمَحَا عَنهُ وِزرَهُ وَوَضَعَ عَنهُ مَا أَنقَضَ ظَهرَهُ؟! هَل أَحَدُكُم عَلَى ثِقَةٍ أَنْ سَيُدرِكُ الحَجَّ مَرَّةً أُخرَى فَيُغفَرَ لَهُ؟!

أَلا فَاستَمسِكُوا بما كَسَبتُم، وَلا تُفرِّطُوا فِيمَا فُزتُم بِهِ وَجمَعتُم، فَإِنَّكُمُ اليَومَ قَد فُتِحَ لَكُم بَابٌ عَظِيمٌ لاستِئنَافِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَيهِ وَعَدَمِ التَّفرِيطِ فِيهِ؛ رَوَى مُسلِمٌ عَن عَمرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَتَيتُ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقُلتُ: اُبسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضتُ يَدِي، قَالَ: "مَا لَكَ يَا عَمرُو؟!"، قَالَ: قُلتُ: أَرَدتُ أَن أَشتَرِطَ. قَالَ: "تَشتَرِطُ بماذَا؟!"، قُلتُ: أَن يُغفَرَ لي. قَالَ: "أَمَا عَلِمتَ أَنَّ الإِسلامَ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ، وَأَنَّ الهِجرَةَ تَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهَا، وَأَنَّ الحَجَّ يَهدِمُ مَا كَانَ قَبلَهُ".

وَفي الصَّحِيحَينِ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَنْ حَجَّ هَذَا البَيتَ فَلَم يَرفُثْ وَلم يَفسُقْ رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ".

لَقَد كُنتُم -مَعشرَ الحُجَّاجِ- في رِحلَةٍ إِيمَانِيَّةٍ ذَاتِ مَعَانٍ تَربَوِيَّةٍ عَمِيقَةٍ، طُفتُم مَعَ مَن طَافُوا وَسَعَيتُم مَعَ السَّاعِينَ، فَلَم تَزِيدُوا عَلَى سَبعَةِ أَشوَاطٍ في كُلِّ طَوَافٍ وَسَعيٍ وَلم تَنقُصُوا مِنهَا، وَوَقَفتُم في عَرَفَةَ مَعَ الوَاقِفِينَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ، فَلَم تَسمَحُوا لأَقدَامِكُم بِالتَّحَوُّلِ قَبلَ ذَلِكَ وَلَو بِلَحَظَاتٍ، وَكُنتُم في رَميِكُم الجَمَرَاتِ تَتَحَرَّونَ زَوَالَ الشَّمسِ فلا تَرمُونَ قَبلَهُ، وَرَمَيتُم بِسَبعٍ كَحَصَى الخَذْفِ لم تَزِيدُوا فِيهَا وَلم تَغلُوا في حَجمِهَا، وَكُنتُم حَالَ إِحرَامِكُم مُحَافِظِينَ عَلَى أبدَانِكُم لا تَمَسُّونَ بَشَرَاتِكُم بِشَيءٍ ولا تَأخُذُونَ مِنهَا شَعرَةً.

أَفَلَم تَأخُذُوا مِن كُلِّ هَذَا أَنَّكُم -بِإِذنِ اللهِ- قَادِرُونَ عَلَى الإِمسَاكِ بِزِمَامِ أَنفُسِكُم عَن كَثِيرٍ مِنَ الأَخطَاءِ الَّتي مَلَكَتكُم وَاستَعبَدَتكُم سَنَوَاتٍ عَدِيدَةً وفَتَرَاتٍ مِن أَعمَارِكُم مَدِيدَةً، حَلقُ اللِّحيَةِ وَإِسبَالُ الثِّيَابِ، شُربُ مَا لا يَحِلُّ مِن مُسكِرَاتٍ وَمُفَتِّرَاتٍ، إِفلاتُ الأَلسِنَةِ في الكَذِبِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَولِ الزُّورِ، إِطَلاقُ الأَعيُنِ في النَّظَرِ المُحَرَّمِ وَإِرخَاءُ الآذَانِ لِلاستِمَاعِ الآثِمِ، إِعطَاءُ الأَنفُسِ مَا تَشتَهِي وَالسَّيرُ في مُرَادِهَا، التَّهَاوُنُ بما يُكتَسَبُ مِن مَالٍ، التَّأَخُّرُ عَنِ الصَّلوَاتِ وَعَدَمُ شُهُودِ الجَمَاعَاتِ.

أَلا تَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ تِلكَ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ وَغَيرَهَا مِمَّا هُوَ دُونَهَا أَو أَعظَمُ مِنهَا مِن بِدَعٍ وَشِركِيَّاتٍ، لا تَحتَاجُ مِنكُم لِتَلافِيهَا إِلاَّ إِلى نِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ جَادَّةٍ وَرَغبَةٍ صَادِقَةٍ، فَتُصبِحَ بِتَوفِيقِ اللهِ نَسيًا مَنسِيًّا وَمَاضِيًا غَيرَ مَأسُوفٍ عَلَيهِ، بَلَى وَاللهِ إِنَّ الأَمرَ لَكَذَلِكَ، فَمَا الَّذِي يَمنَعُكُم؟! مَا الَّذِي يَمنَعُكُم مِن تَحرِيرِ أَنفُسِكُم مِنَ العُبُودِيَّةِ لِغَيرِ اللهِ؟! مَا الَّذِي يَحُولُ بَينَكُم وَبَينَ تَخلِيصِ أَنفُسِكُم مِن رِقِّ المَعَاصِي؟! مَا الَّذِي يَشَدُّكُم إِلى تِلكَ العَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَالمُمَارَسَاتِ الضَّارَّةِ؟!

لِمَاذَا لا تَمحَضُونَ أَنفُسَكُم لِخَالِقِكُم وَتُخلِصُونَ قُلُوبَكُم لِرَبِّكُم، فَتَستَسلِمُوا لأَمرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتَعبُدُوهُ سِرًّا وَعَلَنًا؛ لِتَكُونُوا نِعمَ العَبيدُ لا أَحسَنَ مِنكُم دِينًا؟! (وَمَنْ أَحسَنُ دِينًا مِمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ) [النساء: 125].

لَقَد كُنتُم في حَجِّكُم مُهتَمِّينَ بِالسُّؤَالِ عَن كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، لا تَخطُونَ خَطوَةً إِلاَّ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَلا تَقِفُونَ بِمَكَانٍ إِلاَّ عَن عِلمٍ، وَلا تَتَحَرَّكُونَ إِلاَّ وَأَنتُم عَلَى ثِقَةٍ بِشَرعِيَّةِ تُحَرُّكَاتِكُم، سَأَلتُم عَن حُكمِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ، وَعَن صِحَّةِ السَّعيِ لَو قُدِّمَ عَلَيهِ، وَمَاذَا عَلى أَحَدِكُم لَو نَسِيَ رَكعَتَيِ الطَّوَافِ أَو حَكَّ رَأسَهُ فَسَقَطَت مِنهُ شَعَرَاتٌ؟! وَتَسَاءَلتُم عَمَّا يَقُولُهُ الحَاجُّ في كُلِّ دُخُولٍ لَهُ وَخُرُوجٍ، أَفَلا تَعلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الحَالُ الَّتي يَنبَغِي أَن يَكُونَ عَلَيهَا المُؤمِنُ طُولَ عُمُرِهِ وَفي كُلِّ شَأنٍ مِن شُؤُونِ حَيَاتِهِ؟! قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ".

فَهَلاَّ تَفَقَّهْنَا في أَحكَامِ دِينِنَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا! هلاَّ تَعَلَّمَنَا دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا!! هَلاَّ سَأَلنَا عَمَّا يَجِبُ عَلَينَا لِطَهَارَتِنَا وَصَلاتِنَا وَصِيَامِنَا وَزَكَاتِنَا! هَل تَفَقَّهنَا في هَذِهِ المُعَامَلاتِ المَالِيَّةِ الَّتي اتَّسَعَت حَتَّى عَادَ المَرءُ يَقَعُ في الحَرَامِ وَهُوَ لا يَشعُرُ؟!

إِنَّنَا مُطَالَبُونَ بِمُحَاسَبَةِ أَنفُسِنَا في عِبَادَاتِنَا وَمُعَامَلاتِنَا، وَفي أَخذِنَا وَعَطَائِنَا، وَفي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِنَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: (مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَمَا تَكُونُ في شَأنٍ وَمَا تَتلُو مِنهُ مِن قُرآنٍ وَلا تَعمَلُونَ مِن عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُم شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].

وَنِعمَ المَرءُ مِن جَعَلَ دِينَهُ رَأسَ مَالِهِ، فَاتَّقَى رَبَّهُ وَسَأَلَ عَن كُلِّ صَغِيرَةٍ فِيهِ وَكَبِيرَةٍ، وَامتَثَلَ أَمرَ رَبِّهِ حَيثُ يَقُولُ سُبحَانَهُ: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ) [النحل: 43].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد عَلَّمَنَا الحَجُّ مَعَانيَ سَامِيَةً، وَبَنى في أَنفُسِنَا قِيَمًا عَالِيَةً، وَتَرَاءَت لَنَا فِيهِ مَبَادِئُ رَاسِخَةٌ وَثَوَابِتُ رَاسِيَةٌ، عَرَفنَا أَهَمِّيَّةَ التَّوحِيدِ في جَمعِ النَّاسِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، وَرَأَينَا كَيفَ تَسَاوَى النَّاسُ في مَلابِسِ إِحرَامِهِم وَوَقتِ ذَهَابِهِم وَإِيَابِهِم، وَظَهَرَ لَنَا أَنْ لا فَرقَ بَينَ غَنيٍّ وَفَقِيرٍ وَلا عَظِيمٍ وَحَقِيرٍ إِلاَّ بِتَقوَى اللهِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلا أَظَنُّهُ غَابَ عَنَّا أَنَّ الدُّنيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا تَمُرُّ مُرُورَ أَيَّامِ الحَجِّ، فَبَعدَ هَذَا الزِّحَامِ الشَّدِيدِ وَذَلِكَ العَجِّ وَالثَّجِّ، وَبَعدَ الذَّهَابِ وَالإِيَابِ وَالتَّزَاحُمِ بِالمَنَاكِبِ، وَعَقِبَ المَشَقَّةِ وَالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ، يَعُودُ كُلٌّ إِلى بَلَدِهِ، وَيَؤُوبُ الجَمِيعُ إِلى بُيُوتِهِم.

وَهَكَذَا هُوَ الإِنسَانُ يَحيَا في هَذِهِ الدُّنيَا مَا قُدِّرَ لَهُ مِن أَيَّامٍ تَطُولُ أَو تَقصُرُ، يَذهَبُ وَيَجِيءُ، وَيَقُومُ وَيَقعُدُ، وَيَمتَلِكُ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَالمَالَ الكَثِيرَ وَالنَّعَمَ، وَيَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ، وَتَرَاهُ يَكدَحُ وَيَنصَبُ، وَيُقِيمُ الدُّنيَا وَيُقعِدُهَا، وَقَد يَكُونُ آمِرًا نَاهِيًا، تَهتَزُّ لَهُ قُلُوبٌ وَتَرتَجِفُ مِنهُ أَفئِدَةٌ، ثُمَّ لا يَلبَثُ أَن يَعُودَ إِلى رَبِّهِ وَيَصِيرَ إِلى مَولاهُ: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنَا وَهُم لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلى اللهِ مَولاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ) [الأنعام: 61، 62].

نَعَم، يَعُودُ كُلُّ امرِئٍ إِلى رَبِّهِ وَحِيدًا فَرِيدًا، لا يَملِكُ إِلاَّ عَمَلَهُ: (وَلَقَد جِئتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكتُم مَا خَوَّلنَاكُم وَرَاءَ ظُهُورِكُم وَمَا نَرَى مَعَكُم شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمتُم أَنَّهُم فِيكُم شُرَكَاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَينَكُم وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُم تَزعُمُونَ) [الأنعام: 94]، (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَد جِئتُمُونَا كَمَا خَلَقنَاكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَل زَعَمتُم أَلَّن نَجعَلَ لَكُم مَوعِدًا * وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 48، 49].

أَلا فَمَا أحَقَرَهَا مِن دَارٍ، وَمَا أَقصَرَهُ مِن عُمُرٍ! فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنَجعَلِ التَّوبَةَ نَصُوحًا، وَلْنَمضِ في اجتِهَادِنَا إِلى أَن نَلقَى رَبَّنَا، مُمتَثِلِينَ أَمرَهُ حَيثُ يَقُولُ سُبحَانَهُ: (وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ) [الحج: 99].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى، وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].

أَيُّهَا الحُجَّاجُ: لَقَد طَلَبتُم بِحَجِّكُم مَحوَ ذُنُوبِكُم، وَأَمَّلتُم في تَكفِيرِ سَيِّئَاتِكُم، أَفََلا تَعلَمُونَ أَنَّ هُنَاكَ أَعمَالاً طُولَ العَامِ صَحَّ الخَبَرُ بِأَنَّهَا تَمحُو الذُّنُوبَ وَتُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ وَتَرفَعُ الدَّرَجَاتِ، أَلا فَلا تَغفَلُوا عَنهَا؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَن لا يَأتي مِنَ الأَعمَالِ إِلاَّ مَا يَرَى النَّاسَ عَلَيهِ مُقبِلِينَ وَفِيهِ سَائِرِينَ، فَهُوَ يَحرِصُ عَلَى الحَجِّ كُلَّ عَامٍ لِحِرصِ النَّاسِ عَلَيهِ، وَيَعتَكِفُ العَشرَ في مَكَّةَ أَوِ المَدِينَةِ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا بَحَثتَ عَنهُ في الأَعمَالِ الخَفِيَّةِ الَّتي لا يَرَاهُ فِيهَا إِلاَّ رَبُّهُ لم تَجِدْ لَهُ فِيهَا حُضُورًا وَلا مُشَارَكَةً، أَلا فَلْنُراجِعْ أَنفُسَنَا جَمِيعًا.

وَلْنَحرِصْ عَلَى الإِخلاصِ لِرَبِّنَا وَالسَّيرِ فِيمَا يُرضِيهِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا اشتَدَّت غُربَةُ الدِّينِ في جَانِبٍ وَغَفَلَ النَّاسُ عَن طَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، كَانَ ذَلِكَ أَدعَى لِلمُؤمِنِ أَن يَتَمَسَّكَ بهَا وَيَتَشَبَّثَ فِيهَا بِكُلِّ قُوَّتِهِ؛ وَتَأَمَّلُوا -عِبَادَ اللهِ- قَولَهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "يَعجَبُ رَبُّكَ مِن رَاعِي غَنَمٍ في رَأسِ شَظِيَّةِ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ لِلصَّلاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اُنظُرُوا إِلى عَبدِي هَذَا، يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَد غَفَرتُ لِعَبدِي وَأَدخَلتُهُ الجَنَّةَ". رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

فَهَذَا الرَّاعِي لا يُؤبَهُ لَهُ، وَلا يَرَاهُ أَحَدٌ غَيرَ رَبِّهِ، وَمَعَ هَذَا يُقِيمُ الصَّلاةَ خَوفًا مِنَ اللهِ وَطَمَعًا فِيمَا عِندَهُ، فَيَغفِرُ اللهُ لَهُ وَيُدخِلُهُ جَنَّتَهُ.

وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "أَقرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبدِ في جَوفِ اللَّيلِ الآخِرِ، فَإِنِ استَطَعتَ أَن تَكُونَ مِمَّن يَذكُرُ اللهَ في تِلكَ السَّاعَةِ فَكُنْ". رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

قَالَ ابنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَالعِبَادَةُ في وَقتِ غَفلَةِ النَّاسِ أَشَقُّ عَلَى النَّفسِ، وَأَعظَمُ الأَعمَالِ وَأَفضَلُهَا أَشقُّهَا عَلَى النَّفسِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَأَسَّى بِمَن حَولَهَا، فَإِذَا كَثُرَت يَقظَةُ النَّاسِ وَطَّاعَاتُهُم كَثُرَ أَهلُ الطَّاعَةِ لِكَثرَةِ المُقتَدِينَ بِهِم فسَهُلَتِ الطَّاعَاتُ، وَإِذَا كَثُرَتِ الغَفَلاتُ وَأَهلُهَا، تَأَسَّى بِهِم عُمُومُ النَّاسِ، فَيَشُقُّ عَلَى نُفُوسِ المُستَيقِظِينَ طَاعَاتُهُم لِقِلَّةِ مَن يَقتَدُونَ بِهِم فِيهَا". انتَهَى كَلامُهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ ثَمَّةَ أَعمَالاً غَدَت غَرِيبَةً بَينَ النَّاسِ، حَتَّى لا يَكَادُ فَاعِلُهَا يَجِدُ مَن يُعِينُهُ عَلَيهَا إِلاَّ القَلِيلَ، مَعَ أَنَّ مِنهَا مَا هُوَ مِن صُلبِ الدِّينِ وَأَسَاسِهِ، وَمِنهَا مَا فَضلُهُ كَبِيرٌ وَأَجرُ إِحيَائِهِ عَظِيمٌ، وَمَعَ هَذَا فَالنَّاسُ عَنهَا في غَفلَةٍ مُعرِضُونَ، وَالمُتَمَسِّكُونَ بها قَلِيلُونَ.

صَلاةُ الفَجرِ الَّتي مَن صَلاَّهَا مَعَ العِشَاءِ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيلَ كُلَّهُ، التَّبكِيرُ إِلى الصَّلَوَات وَإِلى الجُمُعَةِ الَّذِي يَعدِلُ عِبَادَاتٍ وَيَزِنُ قُرُبَاتٍ، قِيَامُ اللَّيلِ، تَحَرِّي الحَلالِ وَاتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ وَسُلُوكُ طَرِيقِ الوَرَعِ، الأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ، بِرُّ الوَالِدَينِ وَصِلَةُ الأَرحَامِ، التَّلَطُّفُ مَعَ الأَهلِ وَالإِحسَانُ إِلى الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ، الصِّدقُ في التَّعَامُلِ وَالبَيعِ وَالشِّرَاءِ، كُلُّ هَذِهِ الأَعمَالِ وَغَيرُهَا، لَحِقَهَا إِجحَافٌ عَظِيمٌ، وَحَصَلَ مِنَّا فِيهَا تَقصِيرٌ شَدِيدٌ؛ ما يُلزِمُ المُسلِمَ الَّذِي يَرجُو مَا عِندَ اللهِ أَن يَتَمَسَّكَ بها وَيَعَضَّ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَلَعَلَّهُ أَن يَدخُلَ بِذَلِكَ في الغُرَبَاءِ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَأَثنى عَلَيهِمُ حَيثُ قَالَ: "بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبى لِلغُرَبَاءِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بما أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم"، قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ: أَوْ مِنهُم؟! قَالَ: "بَل مِنكُم". صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ مِن حَدِيثِ مَعقِلِ بنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "العِبَادَةُ في الهَرجِ كَالهِجرَةِ إِليَّ". وَعِندَ أَحمَدَ بِلَفظِ: "العِبَادَةُ في الفِتنَةِ كَالهِجرَةِ إِليَّ".

قَالَ ابنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ في زَمَنِ الفِتَنِ يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَلا يَرجِعُونَ إِلى دِيَنٍ، فَيَكُونُ حَالُهُم شَبِيهًا بِحَالِ الجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا انفَرَدَ مِن بَينِهِم مَن يَتَمَسَّكُ بِدَينِهِ وَيَعبُدُ رَبَّهُ وَيَتَّبِعُ مَرَاضِيَهُ وَيَجتَنِبُ مَسَاخِطَهُ، كَانَ بِمَنزِلَةِ مَن هَاجَرَ مِن بَينِ أَهلِ الجَاهِلِيَّةِ إِلى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مُؤمِنًا بِهِ مُتَّبِعًا لأَوَامِرِهِ مُجتَنِبًا لِنَوَاهِيهِ".

 

 

 

 

 

المرفقات
أيها الحاج عرفت فالزم.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life