عناصر الخطبة
1/كثرة فتن الشهوات والشبهات 2/ أحوال النَّاس في الدنيا مع الفتن 3/القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن 4/من أسباب الثبات: الإيمان, الدعاء, ترك المعاصي.اهداف الخطبة
اقتباس
ولقد رأينا كثير ممن كانوا من أرباب العلم, وممن يُنسبُ لهم الصلاح والخير, فما بين غمضةِ عينٍ وانتباهها يُبدِّل الله من حالٍ إلى حال, فينكِصُ على عقبه -والعياذ بالله-, فيترك رياض الخير والأجور, وينطلق إلى أزقَّة الخنَا والفجور, وكذاك ترى الرَّجل الذي كان البارحة جوَّاباً للمعاصي والمنكرات, إذا به اليوم من أصحاب الخير والصلاح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أغاث القلوب المُجدِبة, وأبادَ النُّفوس المُرجِفة, سَلَكَ الماءَ في الأرضِ ينبَعْ, وجلَبَ الخيرَ في الخلْقِ يرتَعْ, نحمده على إقدامِ الحقِّ وتسلِيطِهْ, وإحجامِ الباطلِ وتثْبِيطِه, ونشكُره على الأنعَامِ التي لا تَكُفّ, والفضَائِلِ التي لا تَقِفْ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير, ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أظهَر الرِّسالةَ بعد خُفُوتِهَا, وطمَس الضلالةَ بعدَ ثُبوتِهَا, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزَّ وجل, فما أيقظ النائمينَ إلا سِرَاجُها, وما أخضَع العَارِفين إلا نَتَاجُهَا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
أيها المسلمون: فتنٌ تقادَمت علينا من كلِّ حدبٍ وصوب, شهواتٌ تتقاذَفُنَا, وكلاليبُ تتَلَقَّفُنَا من المشرِقِ ومن المَغرِب, شبهاتٌ تتَرجَّلُ أمامَنا عند كل زاوية, فنهرُب خَشيةَ السقوط فيها, وشياطينُ من الإنس قد شغلُوا المسلمينَ في دينهم, وصرَفوهُم إلى دنياهُم, ونسوا أن الدنيا دار ممَر, وليست دارَ مقر.
وفي الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنه-, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليغشينَّ أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل فيها مؤمنا, و يمسي كافرا, و يمسي مؤمنا, ويصبح كافرا, يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل". [أخرجه الحاكم وصححه الألباني].
أُنَاسٌ سقطُوا فلا يستطيعونَ النَّهوض, وأناسٌ مازالوا مُتَرنِّحينَ بين هاتِي وتلك, وأناس لم يرضَوْا سِوى الثَّبات ومع ذلك يخشَوْنَ السُّقوط, هذه هي أحوال النَّاس في الدنيا فَإمَّا سُمُوّ, وإمَّا دُنُوّ, وقليلٌ مابينَ ذلِك.
إنَّ من وقعَ في الشُّبُهَات يصعُبُ عليه أن يتخَلَّص من شِباكِهَا, ولكنَّ من وقعَ في الشهوات قد يتراجَعِ القَهْقَرى, ويعاوِدُ أدراجه إلى الطريق الصحيح, وعلى النَّقيضِ أيضَا, فقَد يَسلُكُ ذلك المزلَق الخَطِر وينساق وراءها, فَيصيرُ عبداً لشهواتِه, (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
أمَّا من وّثّق في نفسِهِ ثقةً عمياء, فستكون السبب الأول, في وُلُوْجِهِ إلى بوَّابة الضلال.
السيل الجارف يحمِل معهُ كُلَّ شيء يعْتَرِضُ طَريقَه, ولكن هناك أسبابٌ وسُبُل لالْتقَاط طوقِ النَّجاة وأوتاد للثبات على الصراط المستقيم وعلى دين الله, في دار الدنيا, وفي الدار الثانية دار البرزخ, وفي يوم القيامة, فكُل امرئٍ كانَ من كان, يتوَجَّبُ عليه المرور على هذه الدُّور الثلاثَة, فمن نجَى منها فليُبشِر بالسعادة التي لانهاية لها, وبالسرور الذي لا أمَد له.
ولكنَّ الخطوة الأولى, والبذرة الأولى هي هذه الدار التي نحن فيهَا, وقريبون من الرحيل منها, فقد أزفت الآزفة, وقاربت المُهلَة من النِّهايَة, لَقِيَ الفضيل بن عياض رجلاً فسأله عن عمره؟ فقال: "ستون سنة". قال: "سبحان الله!! أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله؟ يُوشِكُ أن تَصِل -أو قال- يوشك أن تبلغ", فكأنَّهُ أيقَظَ الرَّجل من غفوة, فقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-, قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد, يصرفه حيث شاء ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك". [رواه مسلم].
وهذه أمُّ سلمة -رضي الله عنها- تحدِّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك"، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله -عز وجل- أقامه، وإن شاء الله أزاغه". [أخرجه أحمد في مسنده الترمذي في جامعه بإسناد صحيح].
ولقد رأينا كثير ممن كانوا من أرباب العلم, وممن يُنسبُ لهم الصلاح والخير, فما بين غمضةِ عينٍ وانتباهها يُبدِّل الله من حالٍ إلى حال, فينكِصُ على عقبه -والعياذ بالله-, فيترك رياض الخير والأجور, وينطلق إلى أزقَّة الخنَا والفجور, وكذاك ترى الرَّجل الذي كان البارحة جوَّاباً للمعاصي والمنكرات, إذا به اليوم من أصحاب الخير والصلاح.
وذكر ابن حجر في التهذيب كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق, وكان سبب توبته أن عشق جارية, فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذا سمع تالياً يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16].
فلما سمع قال: "بلى يا رب قد آن", فرجع فآواه الليل إلى دكان, فوجد فيه قوم. قال: بعضهم نرتحل وقال: بعضهم حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا, قال: "ففكَّرت قلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني هاهنا, ما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع. اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام".
فأول أسباب الثبات على الخير والصلاح: الإيمان بالله تعالى قال- عز وجل-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27].
وقد قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: "من عبدَ الله عادة, لا يجيبُ على سؤال الملكين منكر ونكير في القبر, فمن عبدَ الله مخلصاً, مستشعراً عبادته, وخضوعه لله, كان له التثبيت في القبر".
وكذاك من وسائل الثبات في الدنيا: عدم الأمن من مكر الله, فمن أمن مكر الله؛ لم يستحضر خشية الله, ولم يراقب الله في السر وفي العلن, فيهون عنده الأمر, فتزلَّ به القدم, فهاهم السلف مع جلالة قدرهم, واجتهادهم في العبادة, واستحضارهم لعظمته, كانوا أخوف الناس على انسلاخ نعمة الإيمان, والثبات على الطريق القويم, والصراط المستقيم.
وسؤال الله التثبيت من أعظم الأمور ففد كان من دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8], وقد كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وترك الذنوب والمعاصي هو من أكبر المُحفِّزات على الثبات, فقد قال: -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
وأما صغائر الذنوب التي نتهاون في تركها, فقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم ومحقرات الذنوب, فإنما مثل محقرات الذنوب, كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ, فجاء ذا بعودٍ, وذا بعودٍ, حتى جَمَعوا ما أنضَجوا به خَبزهم، وإنَّ محقِّرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".
التعليقات