عناصر الخطبة
1/مفهوم الفتن وأنواعها وصورها 2/خطورة فتنة الشهوات على الشباب خاصةً 3/عقوبة فتنة الشهوات 4/العواصم من فتنة الشهوات.اقتباس
فَاحْذَرْ -أَيُّهَا الشَّابُّ- الْفِتَنَ وَإِنْ تَزَيَّنَتْ أَمَامَكَ بِكُلِّ زِينَةٍ، وَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ وَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَيْهَا، وَدُمْ عَلَى دُعَاءِ مَوْلَاكَ وَالِاتِّصَالِ بِهِ؛ يَقِيكَ شَرَّهَا، وَيُجَنِّبُكَ حَرَّهَا، وَيَشْرَحُ صَدْرَكَ لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]. أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ تَزَايَدَتْ فِيهِ الْمِحَنُ، وَتَنَوَّعَتْ فِيهِ جَنَبَاتُ الْفِتَنِ، زَمَنٍ فُتِحَ لِلشَّهَوَاتِ الْأَبْوَابُ، وَهُيِّئَ لِلْمُغْرِيَاتِ كُلُّ الْأَسْبَابِ. وَإِنَّ نَظْرَةً فَاحِصَةً لِلْمَرْءِ فِي هَذَا الزَّمَنِ يَرَى أَنَّ أَشْكَالًا مِنَ الشَّهَوَاتِ قَدْ طَمَّتْ، وَأَنْوَاعًا مِنَ الْفِتَنِ قَدْ عَمَّتْ، فَصَارَتْ يَسِيرَةً أَسْبَابُهَا، سَهْلَةَ الْمَنَالِ بِيَدِ طُلَّابِهَا، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُ الْمُتَّقِي لَهَا كَالْقَاعِدِ عَلَى خَبَطِ الشَّوْكِ، أَوِ الْقَابِضِ عَلَى حَرِّ الْجَمْرِ، وَلَعَلَّهُ الزَّمَنُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَالشَّهَوَاتُ تَعْنِي: الْمَيْلَ وَشِدَّةَ الرَّغْبَةِ إِلَى فِعْلِ الْمَلَذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ؛ طَلَبًا لِلَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ غَالِبًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تُصِيبُهُمْ رِيحُ الشَّهَوَاتِ، وَلَكِنَّهَا فِي الشَّبَابِ وَالْمُرَاهِقِينَ أَكْثَرُ؛ فَهُمْ عُرْضَةٌ لِوُرُودِ مَائِهَا، وَالتَّقَلُّبِ فِي مَرَاتِعِهَا، أَمَّا الشَّيْخُ يَكَادُ يَكُونُ بَعِيدًا عَنْهَا، وَالطِّفْلُ مِنْهَا أَبْعَدُ.
وَإِنَّ الْفِتَنَ وَالشَّهَوَاتِ لَا تَأْتِي عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهَا أَنْوَاعٌ وَأَشْكَالٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ -تَعَالَى- أُمَّهَاتِ الشَّهَوَاتِ بِقَوْلِهِ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آلِ عِمْرَانَ: 14].
فَبَدَأَ بِذِكْرِ فِتْنَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا، وَأَخْطَرُ سِلَاحٍ لِلشَّيْطَانِ يَنْصِبُ عَبْرَهُنَّ حَبَائِلَهُ، وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: "اتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ فِتْنَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقِلُّ فِتْنَةً عَنْ سَابِقَتِهَا، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْفِتَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[التَّغَابُنِ: 14-15].
وَمِنْ فِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَعْصِفُ بِكَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ: السَّهَرُ وَالسَّفَرُ، وَمَا يَقَعُ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ فَقَدْ يَسْهَرُ الشَّابُّ عَلَى الْمُسَلْسَلَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، أَوْ يُسَافِرُ لِلتَّنَزُّهِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ، أَوْ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ الْأَلْحَانَ وَالْأَغَانِيَ، أَوْ يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ النِّسَاءَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْغَوَانِيَ.
وَتَتَلَخَّصُ كَثِيرٌ مِنْ فِتَنِ الشَّهَوَاتِ: فِيمَا تَشْتَهِيهِ الْفُرُوجُ وَالْبُطُونُ، فَشَهْوَةُ الْفَرْجِ دَاعِيَةٌ إِلَى النَّظَرِ الْحَرَامِ وَالزِّنَا، وَشَهْوَةُ الْبَطْنِ مُسْتَجْلِبَةٌ لِلرِّزْقِ مِنْ كُلِّ بَابٍ حَرَامٍ.
وَفِي مُقَابِلِ فِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ تَأْتِي فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَخْطَرُ؛ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ: تُدْفَعُ بِالْيَقِينِ، وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ تُدْفَعُ بِالصَّبْرِ. وَلِذَلِكَ جَمَعَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[الْعَصْرِ: 3]، فَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ، وَبِالصَّبْرِ الَّذِي يَكُفُّ عَنِ الشَّهَوَاتِ. فَبِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشَّهْوَةِ، وَبِكَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشُّبْهَةِ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَا تَزَالُ الْفِتَنُ تَتَزَيَّنُ لِلْعَبْدِ حَتَّى تُوقِعَهُ فِي الْمَهَالِكِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي تَتَنَاثَرُ عَلَى جَنْبَاتِهِ الشَّهَوَاتُ إِنَّمَا هُوَ طَرِيقُ جَهَنَّمَ، فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَلَا شَكَّ أَنَّ لِفِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ أَثَرًا وَخَطَرًا عَظِيمًا، فَكَمْ دَمَّرَتْ مِنْ بُيُوتٍ؟! وَأَهْلَكَتْ مِنْ أُمَمٍ؟! وَكَمْ غَيَّرَتْ مِنْ مَعَالِمَ لِلْعَادَاتِ وَالدِّينِ؟! وَهَدَمَتْ مِنْ صُرُوحٍ لِلْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ؟!
وَإِنَّ مِنْ خَطَرِهَا أَنَّهَا لَا تُصِيبُ أَقْوَامًا دُونَ آخَرِينَ، وَلَا تُمَيِّزُ بَيْنَ صَالِحٍ وَفَاسِدٍ، وَلَا مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْأَنْفَالِ: 25].
فَاحْذَرْ -أَيُّهَا الشَّابُّ- الْفِتَنَ وَإِنْ تَزَيَّنَتْ أَمَامَكَ بِكُلِّ زِينَةٍ، وَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ وَاسْتَعِنْ بِهِ عَلَيْهَا، وَدُمْ عَلَى دُعَاءِ مَوْلَاكَ وَالِاتِّصَالِ بِهِ؛ يَقِيكَ شَرَّهَا، وَيُجَنِّبُكَ حَرَّهَا، وَيَشْرَحُ صَدْرَكَ لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي أَسْبَابِ الْوُقُوعِ فِي الشَّهَوَاتِ يَجِدُ أَنَّ السَّبَبَ الرَّئِيسَ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَإِشْبَاعُ الْغَرِيزَةِ لَدَى الْإِنْسَانِ، فَهُوَ يَسْعَى لِإِشْبَاعِ رَغَبَاتِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقٍ حَرَامٍ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ -تَعَالَى- هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)[النَّجْمِ: 23]، فَاتِّبَاعُ الظَّنِّ يَكُونُ فِي فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى يَكُونُ فِي فِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ فِي الْغَالِبِ.
وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ عُقُوبَاتِ الْخَوْضِ فِي الشَّهَوَاتِ: حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ، وَحُصُولَ الْوَعِيدِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الشَّهَوَاتِ؛ حَيْثُ قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنْ قَوْمٍ اسْتَبْدَلُوا طَرِيقَ الْهِدَايَةِ بِالْغَوَايَةِ، وَاسْتَنْكَفُوا عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ وَسَلَكُوا سُبُلَ الْفَسَادِ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مَرْيَمَ: 59]. فَمَا دَامَتْ لَهُمْ لَذَّةٌ، وَلَا بَقِيَتْ لَهُمْ شَهْوَةٌ، بَلْ زَالَتْ عَنْهُمُ اللَّذَّاتُ، وَبَقِيَتْ تَحْرِقُهُمُ الْحَسَرَاتُ؛ وَلِذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا *** مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا *** لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُوقِعُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْقَلْبِ؛ فَيَجِدُ الْمُذْنِبُ نَفْسَهُ مُسْتَوْحِشًا، قَدْ وَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَوْحِشِينَ الْخَائِفِينَ، وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَأْنِسِينَ".
فَمَنِ اسْتَمْرَأَ الْفِتَنَ وَالشُّبُهَاتِ اسْوَدَّ قَلْبُهُ، وَتَكَدَّرَتْ حَيَاتُهُ، وَأَظْلَمَتْ مَعِيشَتُهُ، وَظَهَرَتْ آثَارُ الْمَعْصِيَةِ فِي صَفَحَاتِ وَجْهِهِ، وَقَدْ قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "إِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا شَكَّ أَنَّ دَاعِيَ الشَّهْوَةِ إِذَا عَظُمَ، وَتَيَسَّرَتِ السُّبُلُ لِلْفِتْنَةِ، كَانَ لِزَامًا عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا يَقِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، فَهِيَ تَعْرِضُ لَهُ فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَتَتَزَيَّنُ لَهُ بِأَبْهَى الصُّوَرِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَوَاصِمَ تَقِيهِ مِنْهَا. وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْعَوَاصِمِ:
أَوَّلًا: الِالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَدُعَاؤُهُ أَنْ يَعْصِمَهُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ، وَيَقِيَهُ شَرَّ الشَّهَوَاتِ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَبِّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
ثَانِيًا: الْحِرْصُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ، وَالْإِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ فِي الْعِبَادَةِ انْشِغَالًا بِاللَّهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ لِلْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، فَمَنِ انْشَغَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَخَافَ مِنْ عِقَابِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَفَّتَ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَإِنْ تَرَاقَصَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ: "وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثَالِثًا: الْمُسَارَعَةُ فِي الزَّوَاجِ لِمَنْ كَانَ شَابًّا؛ فَإِنَّ فِي الزَّوَاجِ تَحْصِينًا مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَوِقَايَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى تَضْيِيقِ مَجَارِي الشَّيْطَانِ، وَيُخْمِدُ نَارَ الشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
رَابِعًا: الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاطِنِ إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْخَلْوَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْوُقُوعِ فِيهَا، وَاخْتِيَارُ الْبِيئَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ، وَإِشْغَالُ النَّفْسِ بِمَا يَعُودُ عَلَيْهَا بِالْفَائِدَةِ، كَالْقِرَاءَةِ وَالْمُطَالَعَةِ، وَالْعَمَلِ وَالِاسْتِرْزَاقِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَصْدَقِ مَا قِيلَ فِي هَذَا قَوْلٌ حَكِيمٌ: "نَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالطَّاعَةِ شَغَلَتْكَ بِالْمَعْصِيَةِ".
خَامِسًا: التَّأَمُّلُ فِي عَاقِبَةِ الشَّهْوَةِ؛ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ تَصْحَبُهَا اللَّذَّةُ، إِلَّا أَنَّهَا سُرْعَانَ مَا تُفَارِقُهَا، وَتُورِثُ بَعْدَهَا الْهَمَّ وَالنَّدَمَ، وَالذُّلَّ وَالْمَهَانَةَ، وَالْإِثْمَ الْكَبِيرَ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فَلَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ وَوَازَنَ لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوقِعُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ، لَعَلِمَ سُوءَ حَالِهِ، وَعَظِيمَ غَبْنِهِ؛ إِذْ بَاعَ أُنْسَ الطَّاعَةِ وَأَمْنَهَا وَحَلَاوَتَهَا بِوَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَمَا تُوجِبُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالضَّرَرِ الدَّاعِي لَهُ. كَمَا قِيلَ:
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ *** فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ".
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ رِقَابَةَ اللَّهِ وَخَشْيَتَهُ، وَنَعْلَمَ أَنَّ لَذَّةَ الشَّهْوَةِ لَا تَبْقَى، وَأَنَّ عَارَهَا لَا يَفْنَى، وَأَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ لَيْسَ مَحْفُوفًا بِالشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَلَكِنَّهُ طَرِيقٌ مَحْفُوفٌ بِالْحَذَرِ وَالتَّعَبِ، وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ، فَمَنْ أَرَادَ رِضَا اللَّهِ وَجَنَّتَهُ فَلْيَلْزَمْ طَرِيقَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْلُكْ غَيْرَهُ طَرِيقًا، وَإِنْ كَانَ مَفْرُوشًا بِالْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات