الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي لا إله إلا هو المُتوحِّدُ في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّدُ بتصريفِ الأحوال على التفصيلِ والإجمالِ تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالِي بعظمتِه وعلمِه الذي نزَّل الفُقرانَ على عبدِه ليكون للعالَمين نذيرًا.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له خلقَ الخلقَ وقدَّر لهم أقدارًا وكان بهم لطيفًا خبيرًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وخليلُه وخيرتُه من خلقه، أرسلَه إلى جميع الثَّقلَين الإنسِ والجنِّ بشيرًا ونذيرًا، وداعِيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنَّ الوصيَّةَ المبذُولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوَى الله - جلَّ شأنُه -، ومُراقبتُه في السرِّ والعلَن، والغضبِ والرِّضا، والمنشَط والمكرَه؛ فالتقوَى خيرُ ما يتزوَّدُ به المُؤمن، وبها تحصُلُ الوِلايةُ، ويتلاشَى الخوفُ والحُزن، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63].
أيها المسلمون: يُجمِعُ العُقلاءُ مِن بنِي الإنسان على أن الجماعةَ خيرٌ وهُدًى، وأن الفُرقةَ شرٌّ وضلالة، وأن الاثنَين خيرٌ مِن الواحِد، والثلاثةَ خيرٌ مِن الاثنَين، والأربعةَ خيرٌ مِن الثلاثة، وهلُمَّ جَرًّا.
وإنه ما اجتمعَ قومٌ فتشرذَمُوا، وما تفرَّقَ قومٌ فأفلَحُوا، وما انكسَرَ رُمحٌ في مجموعِ رِماحٍ، ولا سلِمَ رُمحٌ ندَّ عن بقِيَّة الرِّماح، وأن الشيطانَ مع الواحد والاثنَين وليس مع الثلاثة فأكثر.
فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «الرَّاكِبُ شيطانٌ، والرَّاكِبان شيطانان، والثلاثةُ رَكبٌ» (رواه أبو داود وغيرُه).
وقال - صلواتُ الله وسلامُه عليه - في الحديث الآخر: «مَن أرادَ بحبُوحةَ الجنَّة فليلزَم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحِد، وهو مِن الاثنَين أبعَد» (رواه الترمذي).
وإن شريعتَنا الغرَّاء - عباد الله - قد راعَت مصلحةَ الجماعة أيَّما رِعاية؛ حتى إنها فتَحَت ذرائِعَ مصالِحها، وسدَّت ذرائِعَ مفاسِدها، وربما تجاوَزَت الراجِحَ في حقِّ الفرد لتُقدِّم عليه المرجُوحَ في حق الجماعة والأمة.
فلو أن كل أحدٍ قدَّم مصلحتَه الخاصَّة على مصلَحَة الأمة العامَّة لما اجتمَعَت الأمة، ولا استقرَّت الجماعة، ولعَمَّ التفرُّقُ، والشُّحُّ المُطاع، وإعجابُ كل ذي رأيٍ برأيِه، ولزعَمَ كلُّ واحدٍ أن الحقَّ معه.
لذلكم كلِّه حسَمَ الإسلامُ الأمرَ في كل ما مِن شأنِه أن يُفرِّق جماعةَ المُسلمين، ويُحِدَثَ الشِّقاقَ بينهم، أو أن يقلِبَ اختِلافَ التنوُّع المُباح للجماعة إلى اختِلاف التضادِّ المُحرَّم عليها.
فقد قال المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أتاكُم وأمرُكم جميعٌ يُريدُ أن يُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه» (رواه مسلم).
فانظُروا - عباد الله - كيف قدَّم مصلَحَة الجماعة العامَّة الكُبرى على مصلَحَة الفردِ الخاصَّة الصُّغرى؟! ولو لزِمَ الأمرُ إلى إزهاقِ رُوحِه تغليبًا لمصلَحَة جماعة المُسلمين، وحمايةً لبيضَتهم.
ألا ترَون - يا رعاكم الله - أن الفُقهاء يُلزِمُون مَن رأَى هلالَ رمضان بأمِّ عينِه، أو هلالَ العيد ثم رُدَّت شهادتُه، فأنه يصومُ مع الناس، ويُفطِرُ معهم، ولا يعتَدُّ بما رآه بأمِّ عينِه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصومُ يوم تصُومُون، والفِطرُ يوم تُفطِرُون، والأضحَى يوم تُضحُّون» (رواه الترمذي).
وقال: إنما معنى هذا: أن الصومَ والفِطر مع الجماعة وعِظَم الناس.
عباد الله: إنه ما انفرَدَ امرُؤٌ عن الجماعة إلا كان الغُرورُ قائِدَه، والاعتِدادُ بالنفسِ رائِدَه، وصارَ صيدًا ثَمينًا لكل صائِد، وإناءً مكشُوفًا لكل والِغ، وإنه ما انخرَطَ امرُؤٌ في الجماعة إلا كان عُضوًا مِن أعضاء جسَدِها الكبير؛ حتى إذا حلَّت بالعُضو شكوَى تداعَى بله سائِرُ الجسَد بالحُمَّى والسهر.
عباد الله: إنه مع وَفرة النُّصوص النَّقلية، والأدلَّة العقلية على أهمية الجماعة، وخُطورة ما يخدِشُها، إلا أن في الناس مَن هو مُولَعٌ بحبِّ مُخالفتهم، والنَّأي بنفسِه عن رَكبِهم، لا تحلُو له الحالُ إلا حينما يمتازُ بمُعارضَة المجمُوع، لا يكادُ يُوافِقُهم على أمرٍ مِن الأمور.
هِمَّتُه الكُبرى أن يسيرَ في غير مسارِهم، وأن يُشارَ إليه بالبَنان ولو على حسابِهم، فإن سلَكُوا يمينًا سلَكَ هو ذاتَ شِمالٍ، يهوَى كلمةَ "لا" إذا قالَت الجماعةُ: "نعم"، وينطِقُ كلمةَ "نعم" إذا قالَت الجماعةُ: "لا".
ليست غايتُه الحقَّ ولا العدلَ ولا الإنصافَ، وإنما غايتُه إحداثُ الإرباك والشَّرخ في المجمُوع؛ حتى يُصبِحَ حديثَ الناسِ، فيشغَلُهم بمُعارضاتِه ومُخالفاتِه، ولو كان ذلك فيما هو ممنُوعٌ أو مكرُوهٌ مِن حبِّ التفرُّد ووحشيَّةِ المُخالَفة.
وهذا لعَمرُ الله مسلَكُ أهل الطَّيش والعِناد والمُكابَرة، وعُشَّاق التشويش والتهويش الذين لا يكتَرِثُون بسوادِ الجماعة الأعظَم، مهما توهَّمُوا المُسوِّغات لشُذُوذهم وصحَّة مسلَكهم؛ فإن الغُرَّ الفطِن مِن شأنِه أن يُوافِقَ الجماعةَ إذا أصابُوا، ويُخالِطَهم بالنُّصح والصبر والإعذار إذا أخطأوا.
وهو بهذا كلِّه لا ينفرِدُ عن المسارِ، ولا يَحيدُ عن المجمُوع؛ فإن وقوعَ الخطأ في المجمُوع لا يُسوِّغُ للفرد تركَ الجماعة برُمَّتها؛ لأن مُوافقةَ المجمُوع في الجُملة، والنأْي بالنفسِ عن مُعارضتهم مِن أعظم ما يُديمُ الأُلفةَ، ويستمطِرُ المحبَّة، ويلُمُّ الشملَ، ويرأَبُ الصَّدعَ، ويُقيمُ السدَّ المنيع أمامَ كل مَن أرادُوا أن يظهَرُوه أو أرادُوا له نَقبًا.
وإلا فإنها العداوة والبغضاء، والشُّذُوذ والصُّدُود، ما مِن ذلك بُدٌّ؛ فكَم مِن مُفارِقٍ للجماعة اغتالَه غُرورُه واعتِدادُه بنفسِه، فخانَه ظنُّه، وأوقعَه في نقيضِ ما رامَ مِن فعلِه، وعلى الشاذِّ تدورُ الدوائِر، وإنما يأكلُ الذئبُ مِن الغنَم القاصِية.
وإن مِن أعظم ما يُمتحَنُ به أمرُ الجماعة، ويُعلَمُ به الصادِقُ في انتِمائِه مِن الكاذِب، والباكِي لها مِن المُتباكِي، حينما تدلهِمُّ بها الخُطوبُ، وتُصيبُها القوارِع، أو تحُلُّ قريبًا مِن دارِها، فكَم مِن مُدَّعٍ حينذاك أنه معها، وعند اشتِداد الغِيَر ظهرَ نقيضُ زَعمه وما يحمِلُه في نفسِه مِن أثَرَةٍ أو إرجافٍ أو تخذيلٍ، وانسَلَّ مِن الجماعة كانسِلال الشَّعرة مِن العَجِين.
فإن هذا وأمثالَه أشدُّ خطرًا على انتِظام الجماعة؛ لأن جسدَه بينهم، وقلبَه خارِجٌ عنهم، هو زيادةٌ في الكَمِّ، لكنه نقصٌ في الكَيف.
فالحذَرَ الحذَرَ مِنه ومِن أمثالِه؛ فإنما تُؤتَى الجماعةُ كِن قِبَلِه، وبأمثالِه تحدُثُ الثُّلمة، ويحصُلُ نَقبُ السدِّ المَنيع، فإن الداءَ مِن داخِلِ الجسَد أشدُّ خطرًا مِن الداء خارِجه، ومثلُ هذا كمثل الذئب في مراحِ القوم، لا يُبصِرُ مواطِئَه إلا ذوُو البصيرة والفِطنة، على حين غفلةٍ مِن رُعاة ماشِيَتهم.
ولقد أحسنَ مَن قال:
لما رأيتُ رُعاتَنا في غفلةٍ عَن *** رعيِهم وسمِعتُ صوتَ دبِيبِي
نادَيتُ فيهم: لا تنامُوا، إنني *** أبصَرتُ في المرعَى مواطِئَ ذِيبِ
وإذا كانت الجماعةُ - عباد الله - مما يُستأنَسُ بها على السلامة، وحُسن المسارِ، فإن السلامةَ قد تكونُ في الانفِراد إذا تشرذَمَ مجموعُها، وتلاشَت ركائِزُها، ومثلُ هذا نادِرُ الحُدوث، وفي حالِ حُدوثِه فإن الشريعةَ الغرَّاء لم تجعَل مُواقِعِيها همَلًا، بل أرشدَتهم إلى ما فيه صلاحُ دينهم ودُنياهم.
ففي "الصحيحين" وغيرهما - واللفظُ للبخاري -، عن أبي إدريس الخولانيِّ، أنه سمِعَ حُذيفةَ بن اليمَان يقول: كان الناسُ يسألُونَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني، فقُلتُ: يا رسولَ الله! إنا كنا في جاهِلِيَّةٍ وشرٍّ، فجاءَنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير مِن شرٍّ؟ قال: «نعم»، قُلتُ: وهل بعد ذلك الشرِّ مِن خيرٍ؟ قال: «نعم، وفيه دخَنٌ»، قُلتُ: وما دخَنُه؟ قال: «قومٌ يهدُون بغير هديِي، تعرِفُ مِنهم وتُنكِر»، قُلتُ: فهل بعد ذلك الخيرِ مِن شرٍّ؟ قال: «نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنم، مَن أجابَهم إليها قذَفُوه فيها»، قُلتُ: يا رسول الله! صِفهم لنا، قال: «هُم مِن جِلدتِنا، ويتكلَّمُون بألسِنَتنا»، قُلتُ: فما تأمُرُني إن أدرَكَني ذلك؟ قال: «تلزَمُ جماعةَ المُسلمين وإمامَهم»، قُلتُ: فإن لم يكُن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ، قال: «فاعتَزِل تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تعَضَّ بأصلِ شجرةٍ حتى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك».
والزمانُ المقصُودُ في الحديث - عباد الله - عامٌّ لكل زمانٍ ومكانٍ مِن عهد الصحابة - رضي الله عنهم - حين الفِتنة والخروج على عُثمان - رضي الله عنه -، إلى آخر الزمان؛ فإن الوصيَّة واحِدةٌ مهما تعدَّدت الأزمان.
أما المُرادُ مِن اعتِزال الناسِ زمن الفُرقة، فقد ذكرَ الحافظُ ابنُ حجر عن الطبريِّ أنه قال: "متى لم يكُن للناسِ إمامٌ، فافترَقَ الناسُ أحزابًا، فلا يتَّبِع أحدًا في الفُرقة، ويعتزِلُ الجميعَ إن استطاعَ ذلك؛ خشيةً مِن الوقوعِ في الشرِّ، ومتى وجدَ جماعةً مُستقيمةً على الحقِّ لزِمَه الانضِمامُ إليها، وتكثيرُ سَوادِها، والتعاوُنُ معها على الحقِّ؛ لأنها - والحالُ ما ذُكِر - هي جماعةُ المُسلمين بالنسبةِ إلى ذلك الرجُل وذلك المكان".
وكما أوجَبَ الإسلامُ - عباد الله - لُزومَ الجماعة، وحذَّرَ الفردَ مِن مُناكفتها أو النأْي بنفسِه عنها، كذلك أوجَبَ على الجماعة بمجمُوعها استِحضارَ عِظَم المسؤوليَّة، والتِزامَ شِرعة الله فيما تأخُذ وما تذَر، واشتِراكَها في الذِّمَّة التي يسعَى بها أدناها، وأن تُؤدِّيَ ما عليها، وتسألَ اللهَ ما لَها، وأنها إذا لم يقُم مَن يكفِي مِن مجموعها في أداء ما أوجَبَ الله عليها مِن مُشاطَرَة المُسلمين مصالِحَهم وهُمومَهم، وكانوا يدًا واحدةً ضدَّ عدوِّهم، وقعَ الإثمُ على الآخرين؛ فإن الغُنمَ بالغُنم، والغُرمَ بالغُرم.
ألا قد عرفتُم - عباد الله - فالزَمُوا، واجتمِعُوا ولا تتفرَّقُوا، وتآلَفُوا ولا تدابَرُوا، وكُونوا - عباد الله - إخوانًا، والحذَرَ الحذَرَ مما يُضادُّ ذلكم؛ فإنه الخُسران، ولاتَ حين مربَح.
ولقد صدقَ الله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعَني وإياكم بما فيهِما من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ؛ إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأً فمِن نفسي والشيطان، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائِرِ المُسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فاتَّقُوا اللهَ - معاشِر المُسلمين -، واعلَمُوا أن مما ينبغِي التنويهُ إليه حالَ الحديثِ عن لُزومِ الجماعة وعدمِ الشُّذوذِ عنهم، هو الحديثَ عن حبِّ المُخالفَة في الأمور العلمية والثقافية ممن يدرُسُونها، أو ينتسِبُون إليها، أو يتتبَّعُون مسائِلَها عبر الصحافة والمُنتديات الثقافية، ووسائل التواصُل الاجتماعي، وذلكم بالشُّذُوذ في الفُتيا أو نشرِهما عما عليه عامَّةُ أهل العلمِ مِن الثِّقات وأهلِ التحقيقِ، وعدم النأْي بالنفسِ عن ضعيفِها، أو تتبُّع شواذِّها والمهجُور منها.
فإن مَن حملَ شاذَّ العلم لا يكون مُوفَّقًا ولا صفِيًّا، وإنما هو يحمِلُ شرًّا كثيرًا، كما ذكرَ ذلكم جمعٌ مِن سلَفِنا الصالِح.
قال أبو محمد بن حزم: "إياك ومُخالفَة الجليس، ومُعارضَة أهلِ زمانِك فيما لا يضُرُّك في دُنياك ولا في آخرتِك وإن قلَّ، فإنك تستفيدُ بذلك الأذَى والمُنافَرَة والعداوَة، وربما أدَّى ذلك إلى المُطالبَة والضرر العظيم دُون منفعَةٍ أصلاً".
ونقَلَ الخطَّابيُّ عن بعضِ أهلِ العلمِ مُحذِّرِين مِن هذا الأمرِ قولَهم: "إن مِن الناسِ مَن يُولَعُ بالخلافِ أبدًا؛ حتى إنه يرَى مِن أفضلِ الأمور ألا يُوافِقَ أحدًا، ولا يُجامِعَه على رأسٍ، ولا يُواتِيَه على محبَّةٍ، ومَن كانت هذه عادتُه فإنه لا يُبصِرُ الحقَّ ولا ينصُرُه، ولا يعتقِدُه دينًا ومذهَبًا، إنما يتعصَّبُ لرأيِه، وينتقِمُ لنفسِه".
ولقد بكَى ربيعةُ بن أبي عبد الرحمن - شيخُ الإمام مالِكٍ - مرَّةً، فقال له رجُلٌ: ما يُبكِيكَ؟ فقال: "استُفتِيَ مَن لا علمَ له، وظهرَ في الإسلام أمرٌ عظيمٌ"، قال: "ولبعضُ مَن يُفتِي ههنا أحقُّ بالسَّجن مِن السُّرَّاق".
قال ابنُ القيِّم إثرَ ذلك: "قال بعضُ العُلماء: فكيف لو رأى ربيعةُ زمانَنا، وإقدامَ مَن لا علمَ عنده على الفُتيا وتوثُّبَه عليها، ومدَّ باع التكلُّف إليها، وتسلُّقَه بالجهل والجُرأة عليها، مع قِلَّة الخِبرة، وسوء السِّيرة، وشُؤم السَّريرة، وهو مِن بين أهل العلمِ مُنكَرٌ أو غريبٌ، فليس له في معرفةِ الكتابِ والسنَّة وآثارِ السلَف نصيبٌ".
فإذا كان هذا - يا رعاكم الله - هو قولَ ربيعة في القرن الثاني، وقولَ ابن القيِّم في القرن الثامِن، فماذا سيُقالُ عن زمانِنا هذا؟!
إلا إن الهُوَّة أشدُّ، والبَونَ شاسِعٌ، فالله المُستعان، وإليه المُشتكَى، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوةَ لنا إلا بالله.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله صاحبِ الحوضِ والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المُؤمنون -، فقال - جلَّ وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابِعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المُؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينِين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقَاك واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوالِ والأعمالِ يا حيُّ يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخوانِنا المُستضعَفين في دينهم في سائِر الأوطانِ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم كُن لهم في فلسطين، اللهم كُن لهم في فلسطين، اللهم كُن لهم في فلسطين، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، وآثِرهم ولا تُؤثِر عليهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم طهِّر المسجِد الأقصَى، اللهم طهِّر المسجِد الأقصَى مِن براثِن اليهود الغاصِبين المُحتلِّين يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين، فإنهم لا يُعجِزُونك يا قويُّ يا عزيز.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
التعليقات