صادق بن محمد الهادي
لا يخفى على ذي لُبٍّ ما للغةِ العربية من أهميةٍ عظمى؛ في كونها لغة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكونها جزءًا من ديننا، بل لا يمكنُ أن يقومَ الإسلام إلا بها، ولا يصح أن يقرأَ المسلم القرآنَ إلا بالعربية، وقراءة القرآن ركنٌ من أركانِ الصلاة، التي هي ركن من أركانِ الإسلام.
وتزداد أهميةُ تعلمِ اللغة العربية حين بَعُد الناس عن الملكةِ والسليقة اللغوية السليمة؛ مما سبَّبَ ضعف الملكات في إدراكِ معاني الآيات الكريمات؛ مما جعل من الأداةِ اللغوية خيرَ معينٍ على فهم معاني القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد نبَّه ابنُ خلدون على ذلك بقوله:
"فلمَّا جاء الإسلامُ، وفارقوا الحجاز... وخالطوا العجمَ - تغيرت تلك الملكةُ بما ألقى إليها السَّمعُ من المخالفاتِ التي للمستعربين من العجم؛ والسمع أبو الملكات اللسانية؛ ففسدت بما أُلقي إليها مما يغايرها لجنوحِها إليه باعتبارِ السمع، وخشي أهلُ الحلوم منهم أن تفسدَ تلك الملكة رأسًا بطولِ العهد؛ فينغلق القرآنُ والحديث على الفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامِهم قوانين لتلك الملكة مطَّردة شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائرَ أنواعِ الكلام، ويلحقون الأشباه منها بالأشباه"[1].
ومما يدلُّ أيضًا على أهميةِ اللغة العربية في فهمِ الكتاب العزيز حرصُ العلماءِ في العصورِ المتقدمة على التأليفِ في إعراب القرآن ومعانيه، بل إنَّ بعض هذه الكتبِ منها ما يُسمى بـ"معاني القرآن"؛ مما يوحي بأهميةِ الإعراب في فهم المعاني، والدليل على ذلك ما جاء في "كشفِ الظُّنون"؛ لحاجي خليفة، حين عَدَّ (إعراب القرآن) علمًا من فروعِ علمِ التفسير.
واللغة عمومًا - أي لغة كانت - لها ثلاث وظائف، هي:
• أنَّ اللغةَ هي الركنُ الأول في عمليةِ التفكير.
• وهي وعاءُ المعرفة.
• وهي الوسيلةُ الأولى للتواصلِ والتفاهم والتخاطب، وبثِّ المشاعر والأحاسيس.
وهذا القدرُ من أهميةِ اللغة مشتركٌ بين بني الإنسان وبين اللغات كافة في كلِّ مكان وزمان، إلا أنَّ اللغة العربية امتازت عن سائرِ لغات البشر بأنها اللغةُ التي اختارها الله - سبحانه وتعالى - لوحْيه؛ لما تمتازُ به من مميزات.
وسنذكر في هذا البحثِ المختصر أهميةَ اللغة العربية، ويمكن أن نلخصَ أهميتها بالنِّقاط التالية:
أولاً: أن البيان الكامل لا يحصل إلا بها: ولذا لم ينزل القرآنُ إلا باللغةِ العربية؛ قال - تعالى -: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]، فدلَّ ذلك على أنَّ سائر اللغات دونها في البيان.
ولقد أوضح هذا المعنى أبو الحسين أحمد بن فارس المتوفى سنة (395 هـ)، حيث قال: "فلما خَصَّ - جل ثناؤه - اللسانَ العربيَّ بالبيانِ، عُلِمَ أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه، وواقعة دونه"[2].
وقد يقول قائل: قد يقعُ البيان بغيرِ اللسان العربي؛ لأنَّ كلَّ مَنْ أفهمَ بكلامِه على شرط لغته، فقد بيَّن؟
فيُقال له: إن كنتَ تريد أنَّ المتكلِّم بغير اللغة العربية قد يُعْرِبُ عن نفسِه حتى يُفْهِمَ السامعَ مرادَه، فهذا أخسُّ مراتب البيان؛ لأنَّ الأبكم قد يدلُّ بإشاراتٍ وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمَّى متكلمًا، فضلاً عن أن يُسمَّى بَيِّنًا أو بليغًا، وإن أردت أنَّ سائر اللغات تُبِينُ إبانةَ اللغة العربية، فهذا غَلط، وقد بيَّن السيوطي - رحمه الله - في "المزهر"وجهَ الغلط قائلاً: "... لأنَّا لو احتجنا إلى أنْ نعبر عن السيفِ وأوصافه باللغةِ الفارسية، لما أمكننا ذلك إلا باسمٍ واحد؛ ونحن نذكرُ للسيفِ بالعربية صفاتٍ كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياءِ المسميات بالأسماء المترادفة، فأين هذا من ذاك؟! وأين سائرُ اللغات من السَّعةِ ما للغةِ العرب؟! هذا ما لا خفاءَ به على ذي نُهية"[3].
ثانيًا: أن اللغة العربية تُعد مفتاح الأصلين العظيمين؛ الكتاب والسنة:
فهي الوسيلةُ إلى الوصولِ إلى أسرارهما، وفهم دقائقهما، وارتباط اللغة العربية بهذا الكتابِ المُنَزَّل المحفوظ جعلها محفوظةً ما دام محفوظًا، فارتباطُ اللغةِ العربية بالقرآن الكريم كان سببًا في بقائها وانتشارها، حتى قيل: لولا القرآن ما كانت عربية؛ ولهذا السبب عني السَّلفُ بعلومِ اللغة العربية، وحثُّوا على تعلمِها، والنَّهل من عبابها، وإليك بعض أقوالِهم التي تدلُّ على أهميةِ العربية:
من أقوال السلف في أهمية اللغة العربية:
1- يقول عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها من دينِكم، وتعلَّموا الفرائضَ؛ فإنها من دينكم"[4].
2- وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -: "أمَّا بعد، فتفقهوا في السنةِ، وتفقهوا في العربية، وأَعْرِبُوا القرآنَ فإنه عربي"[5]، وفي توجيهِ عمر هذا أمران:
الأول: الدعوةُ إلى فقهِ العربية.
والثاني: الدعوةُ إلى فقهِ الشَّريعة.
وبيَّن شيخُ الإسلام سببَ قول عمر: "تفقهوا في السنةِ، وتفقهوا في العربية"؛ حيث قال: "لأنَّ الدِّينَ فيه فقهُ أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريقُ إلى فقه الأقوال، وفقه الشريعة هو الطريقُ إلى فقه الأعمال"[6].
3- وقال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: "ما كنتُ أدري ما معنى: ﴿ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 14] حتى سمعتُ امرأةً من العربِ تقول: أنا فطرتُه؛ أي: ابتدأته"[7]، وقال: "إذا خَفِيَ عليكم شيءٌ من القرآنِ، فابتغوه في الشِّعرِ؛ فإنَّه ديوانُ العرب"[8].
4- وأنشد المبرِّد:
النَّحْوُ يَبْسُطُ مِنْ لِسَانِ الْأَلْكَنِ
وَالْمَرْءُ تُكْرِمُهُ إِذَا لَمْ يَلْحَنِ
وَإِذَا طَلَبْتَ مِنَ الْعُلُومِ أَجَلَّهَا
فَأَجَلُّهَا عِنْدِي مُقِيمُ الْأَلْسُنِ [9]
وقوله: "فأجلها عندي مقيم الألسن" هذا بالنسبةِ إلى علومِ الآلة، فاللغةُ أهمُّها، وإلا فإنَّ أهمَّ العلوم: علمُ العقيدة وعلم الدِّيانة، وقد رد بعضُ العلماءِ على هذه الأبيات كابن عبدالبر قائلاً:
لَوْ كَانَ ذَا فِقْهٍ لَقَالَ مُبَادِرًا
فَأَهَمُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَدْيُنِ
هَذَا الصَّحِيحُ وَلاَ مَقَالَةَ جَاهِلٍ
فَأَهَمُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَلْسُنِ
يعني: العلم الصحيح هو مقيم الدين، مقيم العبادة، ودليله أنَّ نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقي عشر سنين بمكة لا يدعو إلا إلى علم العقيدةِ، الذي هو أساسُ كل علم وأصل العلوم، وبقيةُ العلومِ تتفرَّعُ عنه، فعلمُ العقيدة والشريعة هو أهمُّ ما يجب على المسلم أن يتعلَّمه.
قال الشيخ بكر أبو زيد: "والجلالة هنا - يعني في قوله: فأجلُّها - نسبيةٌ إلى علومِ الآلة، والله أعلم"[10].
5- وقال الشعبي: "النحو كالملحِ في الطعام لا يُستغنى عنه"، وروى أبو نعيم في رياضةِ المتعلِّمين عن ابن شبرمة، قال: "زين الرِّجال النحو، وزين النِّساء الشَّحم".
6- وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ الله لما أنزل كتابَه باللسان العربي، وجعل رسولَه مبلغًا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السَّابقين إلى هذا الدين متكلِّمين به، ولم يكن سبيل إلى ضبط الدِّينِ ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، صارت معرفته من الدِّين، وأقرب إلى إقامةِ شعائر الدين..."[11].
وفي الكلامِ السَّابقِ لشيخ الإسلام ما يدلُّ على أنَّ بين اللغة العربية والعقيدة الإسلامية ارتباطًا وثيقًا، لا يماثله رباطٌ آخر في أي من المجتمعاتِ القديمة والمعاصرة؛ لأنَّ اللغة العربية هي لغةُ الإسلام، ولغة كتابه العزيز، ولغة رسوله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولذا فإن الاهتمامَ والعناية بها إنما هو استكمال لمقوم من مقومات العقيدة الإسلامية، التي نجتمعُ جميعًا على إعزازِها، والدعوة إليها.
وانطلاقًا من هذا المفهوم، فإنَّ تعلم اللغة العربية والاهتمام بها ليس مهنة تعليمية، أو قضية تعليمية فحسب؛ وإنما هو قضية عقدية، ورسالة سامية نعتز بها.
7- ويقول الرازي: "لما كان المرجعُ في معرفة شرعِنا إلى القرآنِ والأخبار، وهما واردان بلغةِ العرب ونحوهم وتصريفهم، كان العلم بشرعنا موقوفًا على العلم بهذه الأمور، وما لا يتمُّ الواجبُ المطلق إلا به - وكان مقدورًا للمكلف - فهو واجب"[12]، وبيَّن الإسنوي في الكوكبِ الدري علةَ هذا الكلام بقوله: "لأنَّ علمَ أصول الفقه إنما هو أدلة الفقه، وأدلةُ الفقه إنما هما الكتابُ والسنة، وهذان المصدران عربيان، فإذا لم يكن الناظرُ فيهما عالمًا باللغةِ العربية وأحوالها، محيطًا بأسرارها وقوانينها، تعذر عليه النَّظرُ السليم فيهما، ومن ثَمَّ تعذَّرَ استنباط الأحكام الشرعية منهما"[13].
9- ويقول الشافعي: "لا أُسأل عن مسألةٍ من مسائل الفقه، إلا أجبت عنها من قواعدِ النحو"[14]، وهذا يدلُّ على تمكنِه - رحمه الله - في العربية، وقال أيضًا: "ما أردت بها - يعني: العربية - إلا الاستعانةَ على الفقه"[15]، وقال: "من تبحَّرَ في النحوِ، اهتدى إلى كلِّ العلوم"،وتُنسبُ هذه المقولةُ أيضًا للكسائي.
10- "واجتمع الكسائي ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، فقال الكسائي: من تبحَّر في علمِ النحو، اهتدى إلى سائر العلوم، فقال له محمد: ما تقولُ فيمن سها في سجودِ السهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال: لا، قال: لِمَ ذا؟ قال: لأنَّ النحاة يقولون: المصغَّر لا يُصغر، قال محمد: فما تقول في تعليقِ العتق بالملك؟ قال: لا يصحُّ، قال: لِمَ؟ قال: لأنَّ السيل لا يسبق المطر"[16].
ومما يدلُّ أيضًا على اهتمام السَّلفِ بالعربية أنَّ الكسائي - رحمه الله - تعلَّم النحوَ وقد كبر سنُّه، وبيَّن العصامي - رحمه الله - في "سمط النجوم العوالي في أنباءِ الأوائل والتوالي" سببَ ذلك؛ حيث قال: "وسببه أنه مشى يومًا حتى أعيا، فجلس وقال: عييتُ، فقيل له: لحنتَ، قال: كيف؟ قيل: إن كنت أردت التَّعبَ، فقل: أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت بغيرِ همز، فأنف من قولِهم: لحنت، واشتغل بالنحو حتى مهر وصار إمام وقته، وكان يؤدب الأمين والمأمون، وصارت له اليد العظمى، والوجاهة التامة عند الرشيدِ وولدَيْه، وتوفي محمد بن الحسن والكسائي في يومٍ واحد سنة سبع وثمانين ومائة، ودُفِنا في مكان واحد، فقال الرشيد: ها هنا دفن العلمُ والأدب، وقصة الكسائي مع سيبويه في مسألة: فإذا هو هي، أو إياها، شهيرةٌ لا نطولُ بذكرِها"[17] [18]؛ ولذا قال الشافعي: "من أراد أن يتبحرَ في النحوِ، فهو عيال على الكسائي"[19].
11- والجرمي يقول: "أنا منذ ثلاثين سنة أفتي النَّاسَ في الفقهِ من كتابِ سيبويه"[20]، فلمَّا بلغ المبردَ هذا الكلامُ قال: "لأنَّ أبا عمر الجرمي كان صاحبَ حديث، فلما عرف كتابَ سيبويه تفقَّه في الحديث؛ إذ كان كتاب سيبويه يُتعلَّم منه النَّظرُ والتفسير"[21].
12- وقال محمد بن الحسن: "خلَّف أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقتُ نصفَها على النحوِ بالري، وأنفقتُ الباقي على الفقه"[22]، وقال عنه الشَّافعي: "لو أشاء أن أقول: تنزل القرآن بلغةِ محمد بن الحسن لقلتُ لفصاحتِه، وقد حملت عنه وقر بختي"[23].
13- بل أُثر عن أبي الريحان البيروني قوله: "لأنْ أُشتم بالعربيةِ خير من أُن أمدحَ بالفارسية"[24]، وهذا يدلُّ على حبِّهم للعربية، واعتزازهم بها.
14- والفارابي يبرِّر مدحَه العربية بكونها من كلامِ أهل الجنَّة؛ حيث يقول: "هذا اللسانُ كلامُ أهل الجنة[25]، وهو المنزَّه بين الألسنةِ من كلِّ نقيصة، والمعلَّى من كلِّ خسيسة، والمهذَّب مما يُسْتَهجن أو يُسْتَشْنع"[26].
ثالثًا: أنَّ بالعلم باللغة العربية تحصل إقامةُ الحجة على الناس:
وهذا داخلٌ في عموم قول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135]، فلا يمكن أن يكونَ الإنسانُ شاهدًا لله إذا لم يكن فاهمًا لما يشهدُ به؛ لأنَّ العلمَ شرطٌ في الشهادة؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ [يوسف: 81]، ولقوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86]، فلا يمكن أن يشهدَ الشَّاهدُ بما لا يعلمه ولا يفهمه، ولا بد أن يكونَ الإنسانُ فاهمًا لما يشهد به؛ حتى تقبلَ شهادتُه على ذلك.
والله - تعالى - جعل هذه الأمَّةَ شاهدةً على الناس؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ولا يمكن أن تتمَّ الشهادة على النَّاسِ إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، وليس هناك وسيلة للاطلاعِ من خلالها على أحوالِ النَّاس وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآنُ بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا، فلا يمكن أن تكونَ شاهدًا على الناس، فإذا جاء نوحٌ يوم القيامة يخاصمُه قومُه، فقالوا: ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذير، فقال: بلى، قد مكثتُ فيكم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فيُقال: من يشهدُ لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته، فإذا كنتَ لا تفهم الآياتِ التي جاءت في قصةِ نوح، فلا يمكن أن تكونَ من الشهداءِ على هذا؛ لأنَّ الشهادةَ من شرطِها العلم.
رابعًا: أن اعتياد التكلم باللغة العربية يؤثِّر في العقلِ والخلق والدين:
يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "اعلم أنَّ اعتياد اللغةِ يؤثر في العقلِ والخلقِ والدِّينِ تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمَّةِ من الصَّحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ"[27].
وقال أيضًا: "معلومٌ أنَّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية، وكان السَّلفُ يؤدِّبون أولادَهم على اللَّحنِ، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظَ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنَّة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك النَّاسُ على لحنِهم، كان نقصًا وعيبًا"[28].
وقال أبو هلال العسكري: "فعلم العربية على ما تسمعُ من خاص ما يحتاجُ إليه الإنسانُ لجماله في دنياه، وكمال آلته في علومِ دينه"[29]، وقال الشَّافعي: "من نظر في النَّحو، رقَّ طبعُه"[30].
خامسًا: أنَّ اللغةَ العربية والمحافظة عليها من الدين، وهي خصيصة عظيمة لهذه الأمة:
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنَّها من دينِكم"[31]، وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "فإنَّ نفسَ اللغة العربية من الدِّين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهمِ اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجبٌ على الأعيان، ومنها ما هو واجبٌ على الكفاية"[32].
ويقول السيوطي׃ "ولا شكَّ أنَّ علم اللغة من الدين؛ لأنه من الفروضِ الكفايات، وبه تُعرفُ معاني ألفاظ القرآن والسنة"[33].
وقال ابنُ فارس في "الصاحبي في فقهِ اللغةوسنن العرب في كلامها" "فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تأليفهم، أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء، وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: "ما أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب؛ وكذلك إِذَا قال: "ضرب أخوك أخانا" و"وَجْهُك وجهُ حُرّ" و"وجهُك وجهٌ حرٌ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه"[34].
سادسًا: أنَّ اللغة العربية مصدرُ عزٍّ للأمة:
لا بد من النظرِ إلى اللغة العربية على أنها لغةُ القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغةُ التشريع الإسلامي؛ بحيث يكون الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلام، وتراثه الحضاري العظيم، فهي عنصرٌ أساسي من مقوماتِ الأمة الإسلامية والشخصية الإسلامية، والنظر إليها على أنها وعاء للمعرفةِ والثقافة بكلِّ جوانبها، ولا تكون مجردَ مادةٍ مستقلة بذاتها للدراسة؛ لأنَّ الأمَّةَ التي تهمل لغتَها أمةٌ تحتقر نفسَها، وتفرضُ على نفسِها التبعية الثقافية.
يقول مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - مبينًا هذا: "ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلاَّ ذلَّ، ولا انحطَّت إلاَّ كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرضُ الأجنبيُّ المستعمر لغتَه فرضًا على الأمَّةِ المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمتَه فيها، ويستلحِقهم من ناحيتِها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ؛ أمَّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأمَّا الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتلِ محوًا ونسيانًا، وأمَّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلالِ التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ"[35].
وعلى هذا؛ ينبغي لمن يعرفُ العربيةَ ألا يتكلَّم بغيرِها، وكره الشافعي ذلك، وينبغي لمن دخل الإسلامَ من الأعاجمِ أن يتعلَّمَ العربية.
سابعًا: أن الجهل باللغة من أسباب الزيغ:
فالضعف في علومِ العربية سببُ ضلال كثير من المتفقِّهة؛ قال ابنُ جني: "إنَّ أكثر مَن ضلَّ من أهل الشريعة عن القصدِ فيها، وحاد عن الطريقةِ المثلى إليها، فإنما استهواه واستخفَّ حلمَه ضعفُه في هذه اللغةِ الكريمة الشريفة التي خُوطِب الكافَّةُ بها"[36].
وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألةِ خلود أهل الكبائر في النَّار، احتجَّ ابنُ عبيد أنَّ هذا وعْد الله، والله لا يخلفُ وعْدَه - يشير إلى ما في القرآنِ من الوعيد على بعضِ الكبائر بالنَّار والخلود فيها - فقال ابنُ العلاء: من العُجْمة أُتيتَ، هذا وعيدٌ لا وعد؛ قال الشاعر:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي [37][38]
ومن أمثلة التفاسير الخاطئة المبنية على الجهل بالعربية قول من زَعَم أنه يجوزُ للرجلِ نكاح تسع حرائر، مستدلاًّ بقوله - تعالى -: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]، فالمجموع تسع نسوة؛ قال الشاطبي: "ولم يشعر بمعنى فُعال ومفعل، وأنَّ معنى الآية: فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين، أو ثلاثًا ثلاثًا، أو أربعًا أربعًا"[39].
ومن ذلك قول من قال: إنَّ المحرَّمَ من الخنزير إنما هو اللَّحم، وأمَّا الشَّحمُ فحلال؛ لأنَّ القرآن إنما حرَّمَ اللحم دون الشحم، ولو عرف أنَّ اللحم يُطلقُ على الشحمِ، بخلاف الشحم فلا يطلقُ على اللحمِ، لَمَا قال ما قال.
ومن ذلك قول من قال في حديث: ((لا تسبُّوا الدَّهر؛ فإنَّ الله هو الدهر، يقلِّبُ الليلَ والنهار))[40]؛ بأنَّ فيه مذهب الدهرية، وهذا جهل، فإنَّ المعنى: لا تسبوا الدَّهرَ إذا أصابتكم مصائب، ولا تنسبوها إليه، فإنَّ الله هو الذي أصابكم، فإنكم إذا سببتم الدهرَ، وقع السبُّ على الفاعل لا على الدهر.
قال الشاطبي - رحمه الله - بعد أن ذكرَ الأمثلة السابقة: "فقد ظهر بهذه الأمثلةِ كيف يقعُ الخطأ في العربيةِ في كلام الله - سبحانه - وسنة نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّ ذلك يؤدِّي إلى تحريفِ الكلم عن مواضعِه، والصحابة - رضوان الله عليهم - براءٌ من ذلك؛ لأنهم عربٌ لم يحتاجوا في فهمِ كلامِ الله - تعالى - إلى أدواتٍ ولا تعلم، ثم من جاء بعدهم ممن هو ليس بعربي اللسان تكلَّفَ ذلك حتى علمه"[41].
ولذا نجد أنَّ السلف ذموا اللحن في اللغة، وجعلوه قبيحًا، وخاصة لطالب العلم:
فقد كثرت أقوالُ العلماء في ذمِّ اللحن؛ فعن أيوب السختياني - رحمه الله - أنه كان إذا لحن، قال: "أستغفرُ الله"[42]، وقال الأصمعي - رحمه الله -: "إنَّ أخوفَ ما أخاف على طالبِ العلم إذا لم يعرف النحوَ أن يدخلَ في جملة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعدَه من النَّار))؛ لأنَّه لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه، كذبت عليه"[43]، وروى الخطيبُ البغدادي أنَّ عليًّا وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - كانوا يضربون أبناءهم على اللَّحن.
ونُقل عن الرحبي أنه قال: سمعتُ بعضَ أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان فكتب عن اللحان لحَّانٌ آخر، فكتب عن اللحانِ لحَّان آخر، صار الحديثُ بالفارسية"[44].
وقد سمع عمر - رضي الله عنه - رجلاً يتكلَّم في الطوافِ بالفارسية، فأخذ بِعَضُدِهِ وقال: "ابتغ إلى العربية سبيلاً"[45]، وقال عطاء: "رأى عمر رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطوافِ، فعلاهما بالدِّرَّةِ، وقال: لا أُمَّ لكما، ابتغيا إلى العربية سبيلاً"[46].
وضرب علي - رضي الله عنه - الحسنَ والحسين على اللَّحن[47]، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يضربُ أولادَه على اللَّحن ولا يضربهم على الخطأ[48].
وقال ابنُ فارس: "لذلك قلنا: إنَّ علم اللغة كالواجبِ على أهل العلم؛ لئلا يحيدوا في تأليفِهم أو فتياهم عن سَنن الاستواء"[49].
وقال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن لم يعرفْ لغةَ الصحابةِ التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعادتهم في الكلام، وإلا حرف الكلم عن مواضِعه؛ فإن كثيرًا من الناس ينشأ على اصطلاحِ قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظَ في كلامِ اللهِ أو رسوله أو الصحابة، فيظن أنَّ مرادَ الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريدُه بذلك أهلُ عادته واصطلاحه، ويكون مرادُ الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك"[50].
وقد تحسَّر ابنُ فارس - رحمه الله - على أهلِ وقته من غفلتِهم عن العلوم العربية، وانشغالِهم عنها؛ فقال - رحمه الله -: "وقد كان النَّاسُ قديمًا يجتنبون اللَّحنَ فيما يكتبونه أو يقرؤونه اجتنابهم بعض الذُّنوب، فأمَّا الآن فقد تجوَّزوا حتى إنَّ المحدثَ يحدِّثُ فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنما نحن محدِّثون وفقهاء، فهما يسران بما يساء به اللبيب"[51].
وقال العلامةُ الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابِه القيِّم "حلية طالب العلم": "احذر اللَّحن؛ ابتعد عن اللحنِ في اللفظ والكتب؛ فإنَّ عدم اللحنِ جلالةٌ وصفاء ذوق، ووقوف على ملاح المعاني لسلامةِ المباني".
وما أحسنَ ما قاله الشَّاعرُ عبدالرحمن العشماوي في وصفِ مَن يلحن في لفظِه:
يُلْقِي عَلَى الْمَرْفُوعِ صَخْرَةَ جَهْلِهِ
فَيَصِيرُ تَحْتَ لِسَانِهِ مَجْرُورَا
وَيَنَالُ مِنْ لُغَةِ الْكِتَابِ تَذَمُّرًا
مِنْهَا وَيَكْتُبُ فِي الْفَرَاغِ سُطُورَا
وَرَأَيْتُ مَبْهُورًا بِذَلِكَ كُلِّهِ
فَرَحِمْتُ ذَاكَ الْجَاهِلَ الْمَغْرُورَا
وَعَلِمْتُ أَنَّ الْعَقْلَ فِينَا قِسْمَةٌ
وَاللهُ قَدَّرَ أَمْرَنَا تَقْدِيرَا
وسنبين بشيء من التفصيل أهمية اللغة العربية لكل من المفسر والمحدث والفقيه:
أهمية اللغة العربية للمفسِّر والمحدث:
قال الشاطبي - رحمه الله -: "وعلى النَّاظرِ في الشريعةِ والمتكلم فيها أصولاً وفروعًا أمران؛ أحدهما: ألا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا أو كالعربي؛ في كونِه عارفًا باللِّسان العربي، بالغًا فيه مبلغ العرب؛ قال الشَّافعي - رحمه الله -: فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة - فتكلَّفَ القول في علمِها، تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبتْ معرفتُه، كانت موافقته للصواب - إن وافقه - غيرَ محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غيرَ معذورٍ؛ إذ نطق فيما لا يحيطُ علمه بالفرقِ بين الخطأ والصواب فيها"[52].
وأبان عن هذه الأهميةِ أهلُ اللغة أنفسهم؛ يقول الزمخشري: "وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلومِ الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علمِ الإعراب"[53].
وما ذكره الزمخشري صحيحٌ؛ وذلك لتوقُّفِ معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتابِ والسنة، وأقوالِ أهلِ العقد والحل من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة: الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة، والتنبيه والإيماء، وغير ذلك مما لا يعرفُ في غيرِ علم العربية[54].
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "أهلكتهم العجمةُ؛ يتأولونه على غيرِ تأويله"[55].
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "لا بُدَّ في تفسيرِ القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلُّ على مرادِ الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يُفهَم كلامُه؟ فمعرفةُ العربيةِ التي خُوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظِ على المعاني؛ فإنَّ عامَّة ضلالِ أهل البدع كان بهذا السبب، فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك"[56].
وقال أبو حيان في معرضِ ثنائه على سيبويه - رحمه الله -: "فجدير لمن تاقت نفسُه إلى علمِ التفسير، وترقَّتْ إلى التحريرِ والتحبير، أن يعتكفَ على كتابِ سيبويه؛ فهو في هذا الفنِّ المعوَّل عليه، والمستند في حلِّ المشكلات إليه"[57].
وقال الزركشي: "واعلم أنَّه ليس لغيرِ العالم بحقائقِ اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلامِ الله، ولا يكفي في حقِّه تعلم اليسير منها؛ فقد يكونُ اللَّفظُ مشتركًا وهو يعلم أحدَ المعنيين والمراد المعنى الآخر"[58].
ولهذا السبب يقول مالك - رحمه الله -: "لا أُوتَى برجلٍ غير عالم بلغةِ العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً"[59]، ولهذا أيضًا نجد التفاسيرَ مشحونةً بالرِّواياتِ عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء وغيرهم، فالاستظهارُ لبعضِ معاني القرآن الكريم وأسرارِه نابعٌ من الاستعانةِ بأقاويلهم، والتشبث بأهدابِ فسْرهم وتأويلهم؛ كما قال الزمخشري في "المفصَّل"[60].
وروى أبو عبيد في فضائلِ القرآن عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "لأن أعرب آيةً أحب إليَّ من أن أحفظَ آية"[61]؛ وذلك لأنَّ فهمَ الإعراب يعينُ على فهمِ المعنى، والقرآن نزل للتدبرِ والعمل.
ومما يجب فهمه بالنسبة للمفسر لكتاب الله ما يلي:
1- معرفةُ أوجهِ اللغة؛ وهو أمرٌ ضروري في اختيارِ ما يناسب النص، وقَصْر المعنى على الوجهِ المراد، ومن ذلك على سبيل المثال قوله - تعالى -: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7]، فإنَّ لفظة: (الضلال) تقعُ على معانٍ كثيرة، فتوهَّم البَعْضُ أنَّه أراد بالضَّلالِ الذي هو ضد الهدى، وزعموا أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان على مذهبِ قومه أربعين سنة، وهذا خطأ فاحش؛ فقد طهَّرَه الله تعالى لنبوتِه، وارتضاه لرسالته، ومن سيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يرد على مزاعمِهم؛ إذ سُمِّي في الجاهليةِ الأمين، وكانوا يرتضونه حكمًا لهم وعليهم، والله - سبحانه وتعالى - إنما أراد بالضَّلالِ الذي هو الغفلة، كما قال في مواضعَ أخرى: ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]؛ أي: لا يغفل[62] - سبحانه وتعالى.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هو ضلاله وهو في صغرِه في شعابِ مكة، ثم ردَّهُ الله إلى جدِّه عبد المطلب، وقيل: ضلاله من حليمةَ السعدية مرضعته، وقيل: ضلَّ في طريقِ الشَّامِ حين خرج به عمه أبو طالب"[63].
2- معرفة الصِّيغ وما تدل عليه من معنى؛ لئلا يؤدِّي ذلك إلى تفسيرِ القرآن الكريم بما لا يليق، أو فهم المعنى غير المراد؛ ومن ذلك على سبيل المثال: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وغير ذلك من الآياتِ التي ورد فيها نفي الظلم عن الله - سبحانه وتعالى - بصيغة (فعَّال)، ففي هذه الآيةِ وما أشبهها وردت لفظةُ (ظلاَّم) بصيغةِ المبالغة، ومعلومٌ أنَّ نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصلِه؛ مثال ذلك قولك: زيد ليس بنحَّارٍ للإبل، لا ينفي إلا مبالغته في النَّحر، ولا ينفي أنه ربما نَحَر بعضَ الإبل، ومعلوم أنَّ المرادَ بنفي المبالغة في الآياتِ هو نفي الظلم من أصلِه عن الله - سبحانه وتعالى.
وأُجيب عن ذلك بناءً على فهمِ اللغة العربية؛ وهو أنَّ المراد نفي نسبة الظلمِ إليه - سبحانه - لأنَّ صيغة (فعَّال) قد جاءت في اللغةِ العربية مرادًا بها النسبة فأغنت عن ياء النَّسب، ومثاله في لغةِ العرب قول امرئ القيس:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعُنَنِي بِهِ
وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ[64]
أي: ليس بذي نَبْلٍ، وعلى هذا أجمعَ المحقِّقون من المفسِّرين واللغويين[65].
3- معرفةُ الأوجه الإعرابية: فمما يجبُ معرفتُه على المفسر معرفة أوجه الإعراب؛ لأنَّ المعنى يتغيرُ بتغير الإعراب، ويختلف باختلافِه، وعلى سبيلِ المثال لو أنَّ قارئًا قرأ: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4] برفع (كفو) ونصب (أحد) لكان قد أثبتَ كفوًا لله - تعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا - بل إنَّ الحركةَ لها دورٌ في المعنى ولو لم تكن إعرابًا، ويدلُّ على ذلك لزوم كسر الخاء في قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]، وكسر الواو في قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]، فإنَّ فتحَها يؤدِّي إلى الكفر.
4- ومما يحتاجُه طالبُ علم التفسير المعرفة بلغات العرب؛ إذ من المعلومِ أنَّ لكلِّ قبيلة لغتها، وأفصح اللغاتِ لغة قريش، إلا أنَّ هناك بعضَ الكلمات في القرآن جاءت على غيرِ لغة قريش، فقد أشكل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معنى قوله - تعالى -: ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ [النحل: 47]، فقام في المسجدِ فسأل عنها، فقامَ إليه رجلٌ من هذيل، فقال معناها: "على تنقصٍ"؛ أي: شيئًا فشيئًا، ودليلُه قولُ شاعرنا الهذلي يصفُ سرعةَ ناقتِه:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا
كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ [66]
أي: أخذ الرحل يحتكُّ بسنامِ النَّاقة من سرعتها، حتى كاد ينقص كما يبري البحَّار عود السفينة بالسِّكين لينقصَ منها.
أهمية العربية في فهم الحديث:
معرفةُ العربية شرطٌ في المحدِّث؛ قال ابنُ الصلاح: "وحق على طالبِ الحديث أن يتعلَّمَ من النَّحوِ واللغة ما يتخلَّصُ به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما"[67]، وروى الخطيب عن شعبة قال: "من طلب الحديثَ ولم يبصر العربيةَ كمثل رجلٍ عليه برنس وليس له رأس"[68]، وروى أيضًا عن حماد بن سلمة قال: "مثل الذي يطلبُ الحديثَ ولا يعرف النَّحوَ مثل الحمارِ عليه مخلاة ولا شعيرَ فيها"[69].
وقد روى الخليلي في "الإرشاد" عن العباسِ بن المغيرة عن أبيه قال: جاء عبد العزيز الدراوردي في جماعةٍ إلى أبي ليعرضوا عليه كتابًا، فقرأ لهم الدراوردي، وكان رديء اللسانِ يلحن، فقال أبي: "ويحك يا دراوردي أنت كنتَ إلى إصلاح لسانك قبل النظرِ في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك"[70].
ويقول الحافظُ أبو الحجَّاج يوسف بن الزكي المِزِّي (ت742هـ) في مقدمِة كتابه "تهذيب الكمال في أسماء الرجال": "ينبغي للناظرِ في كتابنا هذا أن يكونَ قد حصَّل طرفًا صالحًا من علمِ العربية؛ نحوها ولغتها وتصريفها، ومن علم الأصول والفروع، ومن علم الحديث والتواريخ وأيام الناس".
أهمية اللغة العربية للفقيه:
جَعَل علماءُ أصولِ الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بأسرارِ العربية، وبخاصة علم النحو؛ لأنَّ الشريعةَ عربية ولا سبيل إلى فهمِها إلا بفهمِ كلام العرب، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب، كما ذكر ذلك صاحبُ "المحصولِ في أصول الفقه" حيث يقول: "مسألة في شرائط المجتهد: أعلم أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام، وهذه المكنة مشروطة بأمور: أحدها: أن يكون عارفاً بمقتضى اللفظ ومعناه؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يفهم منه شيئاً؛ ولما كان اللفظ قد يفيد معناه لغة وعرفاً وشرعاً وجب أن يعرف اللغة والألفاظ العرفية والشرعية"[71].
وقد شرطه الجماهيرُ من الأصوليين؛ كالشافعي والغزالي والجويني والآمدي والقرافي والفتوحي والطوفي والشوكاني وغيرهم.
بل نجدُ ابنَ حزم - رحمه الله - يصرحُ بوجوب تعلم النحو للمفتي؛ حتى لا يقعَ في الخطأ، وإضلال النَّاسِ جراء الفهمِ السَّقيمِ للنصوص.
تنبيه: ذكر بعضُ العلماء أنَّ معرفةَ متون مختصرة في علومِ العربية تكفي للمجتهد، وهذا القولُ غير صحيح، بل لا بد من التضلع في اللغةِ لمن أراد الاجتهاد؛ يقول الشوكاني - رحمه الله -: "ومن جعل المقدارَ المحتاج إليه في هذه الفنونِ هو معرفة مختصر من مختصراتِها، أو كتاب متوسط من المؤلفاتِ الموضوعة، فيها فقد أَبْعَد، بل الاستكثار من الممارسةِ لها، والتوسع في الاطلاعِ على مطولاتِها مما يزيدُ المجتهد قوةً في البحث، وبصرًا في الاستخراج، وبصيرة في حصولِ مطلوبه، والحاصلُ أنه لا بد أن تثبتَ له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطولِ الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخِ هذه الفنون"[72].
وهذا هو ما يفهم من كلامِ الصَّحابةِ والسلف وأقوال اللغويين؛ أنه ليس المقصود من تعلم اللغة العربية الاقتصار فقط على القواعدِ الأساسية التي تتوقَّفُ وظيفتها على معرفةِ ضوابط الصحة والخطأ في كلام العرب؛ وإنما المقصودُ من تعلمِ اللغة العربية لدارس الكتاب والسنة والمتأمل فيهما هو فهم أسرارها، والبحث عن كلِّ ما يفيدُ في استنطاق النَّصِّ، ومعرفة ما يؤديه التركيبُ القرآني على وجه الخصوص؛ باعتباره أعلى ما في العربيةِ من بيان، وقد نبَّه على هذه الخاصيةِ الزَّجاجيُّ في كتابه "الإيضاح في علل النحو"؛ حيث يقول: "فإن قِيل: فما الفائدةُ في تعلم النحو؟ فالجوابُ في ذلك أن يُقال: الفائدة فيه للوصولِ إلى التكلم بكلامِ العرب على الحقيقة صوابًا غير مبدل ولا مغير، وتقويم كتاب الله - عزَّ وجلَّ - الذي هو أصل الدِّينِ والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإقامة معانيها على الحقيقة؛ لأنَّه لا تفهم معانيها على صحةٍ إلا بتوفيتِها حقوقها من الإعراب"[73].
وليعلم أنه بمقدارِ التضلُّعِ من علومِ العربية مع العلوم الأخرى المشروطة، يكون قرب المجتهد من الفهمِ الصحيح للنصوص؛ قال الإمامُ الشافعي - رحمه الله -: "وما ازداد - أي: المتفقه - من العلمِ باللسان الذي جعله الله لسان من خَتَم به نبوته، وأنزل به آخرَ كتبِه، كان خيرًا له"[74].
وقال الشاطبي - رحمه الله -: "وإذا فرضنا مبتدئًا في فهمِ العربية فهو مبتدئ في فهم الشَّريعة، أو متوسطًا فهو متوسطٌ في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغْ درجةَ النهاية، فإذا انتهى إلى الغايةِ في العربية كان كذلك في الشَّريعة، فكان فهمه فيها حجة، كما كان فهمُ الصحابة وغيرهم من الفصحاءِ الذين فهموا القرآن حجةً، فمن لم يبلغ شأوهم، فقد نقصه من فهمِ الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يكن حجة، ولا كان قوله مقبولاً"[75].
ولكن العلماء يفرِّقون بين طبيعةِ العمل الاجتهادي؛ فمنه ما يتعلَّقُ باستنباطِ المصالحِ والمفاسد مجردًا من اقتضاءِ النُّصوص لها، وإنما العلم بمقاصدِ الشريعة، فهذا العلمُ لا يلزمُ له معرفة واسعة في العلومِ العربية، وإنما يلزمُ العلم بمعرفةِ مقاصد الشريعة، وإن تعلق الاستنباط بالنصوص الشرعية، فلا بد من اشتراطِ العلم بالعربية[76].
فالعربية إذًا وسيلةٌ من وسائلِ الاهتداء إلى بعضِ الأحكام الفقهية من نصوصِ الشريعة، وقد نبَّه العلماءُ الأوائل على هذه الأهميةِ في استنباط الأحكامِ الشرعية، ومن هؤلاء على سبيل المثال:
1- القرافي (ت 682 هـ) في كتابِه "الاستغناء في أحكام الاستثناء".
2- الإسنوي (ت 772 هـ) في كتابِه "الكوكب الدري".
3- أبو بكر محمد بن عبدالله؛ المعروف بابنِ العربي، صاحب كتاب "أحكام القرآن الكريم".
4- القرطبي في تفسيره؛ حيث إنه كثيرًا ما يعبِّرُ في الردِّ على بعض الأقوال بقوله: "وهذا كلُّه جَهْلٌ باللسانِ والسنة ومخالفة لإجماع الأمة"[77].
ولا أدلَّ على ذلك من جَعْل النحو أحد ثلاثة مصادر منها استمداد أصول الفقه، وهذه المصادر: علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية، بل إنَّ تحديدَ الدلالةِ اللفظية قد يتوقَّفُ عليها تقرير الحكم الشرعي؛ لأنَّ الأسلوبَ العربي في لغةِ القرآن الكريم يتميَّزُ بالتصرفِ في فنون القول، وتكثر فيه الألفاظُ التي تمثل أكثر من معنى، ومن ذلك على سبيلِ المثال:
1- لفظة (اللَّمس) الواردة في قولِه - تعالى -: ﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]، فمن الفقهاءِ من حدَّدَ معنى (اللمس) بالاتصالِ بالمرأة، ومنهم من حدَّده بمعنى المسِّ فقط.
2- ومن ذلك أيضًا ما ورد في حديثِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسرعكنَّ لحاقًا بي أطولكنَّ يدًا))[78]، قاله لنسائه، فحسبْنه من الطولِ الذي هو ضد القصر، فظنت سَوْدة إحدى زوجاته أنَّها المرادة، فلما ماتت زينب - رضي الله عنها - قبلها، علمْنَ حينئذٍ أنَّ المراد بالطولِ هو الفضل والكرم، وكانت زينبُ أكثرهنَّ صدقة، وهذا يوافق كلامَ العرب؛ فهم يقولون: فلان أطول يدًا، في حالةِ الكرم[79].
وقد فطنَ بعضُ العلماء إلى أهمية تلك المعرفة؛ ومنهم الراغب الأصفهاني (ت552 هـ) في كتابه "المفردات في غريب القرآن"؛ حيث تناولَ في هذا الكتابِ التحديدَ الدقيق بين دلالاتِ الألفاظ في القرآن الكريم، وكذلك فعل الزمخشري في كتابه "أساس البلاغة"؛ حيث وضَّحَ الاستعمالاتِ المختلفةَ للفظ، وما يضيفه الاستعمالُ من دلالةٍ حقيقية أو مجازية، كما فطن إلى ذلك أيضًا الإمامُ الشافعي - رحمه الله - في كتابه "الرسالة"[80]، وذكر ابن السيد البطليوسي في كتابه "التنبيه على الأسبابِ التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين"[81] أنَّ الإعرابَ له تأثير بيِّنٌ في الأحكامِ الفقهية وتوجيهها؛ فالمعاني تختلفُ باختلافِ وجوه الإعراب، ويختلف الحكم تبعًا لذلك؛ وعلى سبيل المثال:
لو قال شخصٌ: له عندي مائةٌ غيرُ درهم، برفع (غير) لكان مقرًّا بالمائةِ كاملة؛ لأنَّ غير هنا صفة للمائة، وصفتها لا تنقص شيئًا منها[82]، ولو قال: له عندي مائةٌ غيرَ درهم، بنصب (غير) لكان مقرًّا بتسعةٍ وتسعين درهمًا؛ لأنه استثناء، والاستثناء إخراجُ ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناولَ ما قبله.
ولو قال لزوجتِه: أنت طالق إن دَخَلْتِ الدار، بكسر همزة (إن)، لم تطلق حتى تدخلَ الدَّار؛ لأنَّ (إن) للشرط، ولو قال: أنت طالق أن دَخَلْتِ الدار، بفتح همزة (أن)، وقع الطلاق في الحال؛ لأن معنى الكلام: أنت طالقٌ لأن دخلت الدار؛ أي: من أجلِ أنك دخلتِ الدار؛ فصار دخولُ الدارِ علة طلاقها، لا شرطًا في وقوعِ طلاقها[83].
بل إنَّ الحكم يختلف باختلافِ تصاريف الكلمة؛ فلو أنَّ رجلاً حلف ألا يلبسَ مما غزلته فلانة، فلا يحنثُ إلا بما غزلته قبل اليمين، ولو قال: مما تغزله فلا يحنثُ إلا بالذي تغزله بعد اليمين، فلو قال: من غَزْلِها دخل فيه الماضي والمستقبل[84].
مميزات اللغة وخصائصها:
اللغةُ العربية ذات ميزات عديدة، فهي أوسعُ اللغات وأصلحها؛ في جمع معانٍ، وإيجازِ عبارة، وسهولةِ جريٍ على اللسان، وجمالِ وقْعٍ في الأسماع، وسرعةِ حفظ.
ومن مميزات لغتنا الجميلة ما يلي:
1- سعة اللغة العربية:
مفرداتها وفيرة، وكلُّ مرادفٍ ذو دلالة جديدة، فالأسدُ له أسماء كثيرة لكلِّ واحد منها معنى يختصُّ به، وللناقةِ كذلك، وما من حيوان أو جماد أو نبات إلا وله الكثير من الأسماءِ والصفات، مما يدلُّ على غنى هذه اللغةِ الرائعة، ولأنواعِ الحزن والترح والأسى معانٍ متعددة، ولليوم الآخر - على سبيل المثال - أكثر من ثمانين اسمًا، عددها ابنُ قيم الجوزية - رحمه الله - في مدارج السالكين، لكلٍّ منها سبب ومعنى يختصُّ به، وهذا ما لا نجدُه في أكثر اللغات الأخرى.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "لسانُ العربِ أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميعِ علمه إنسانٌ غير نبي، ولكنَّه لا يذهبُ منه شيء على عامَّتها، حتى لا يكونَ موجودًا فيها مَنْ يعرِفه، والعلمُ به عند العربِ كالعِلم بالسُّنة عند أهلِ الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السُّنن، وإذا فُرّق عِلْم كلِّ واحد منهم، ذهب عليه الشيءُ منها"[85].
وأكثر مواد اللغة العربية غير مستعملة، وكثيرٌ منه غير معروف؛ قال الكسائي: "قد دَرَس من كلامِ العرب كثير"[86]، وقال أبو عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العربُ إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا، لجاءكم علمٌ وشعر كثير"[87]، وذكر الزبيدي في مختصر "العين" أنَّ عدةَ مستعمَلِ الكلامِ كله ومهمله ستة آلاف ألف وتسعة وخمسون ألفًا وأربعمائة (6059400)؛ والمستعملُ منها خمسةُ آلافٍ وستمائة وعشرون (5620)، والمهمل ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون (6600093).
وذكر عبدالغفور عطار أنَّ المستعملَ في العربية في عصرِنا الحاضر لا يكادُ يزيد على عشرةِ آلاف مادة، مع أنَّ "الصِّحاحَ" للجوهري يضم أربعين ألف مادة، و"القاموس" ستين ألف مادة، و"التكملة" ستين ألف مادة، و"اللسان" ثمانين ألف وأربعمائة، و"التاج" عشرين ومائة ألف مادة؛ حتى قال السيوطي: "وأين سائرُ اللغاتِ من السَّعة ما للغة العرب؟!"[88].
ومع أنَّ المستعمل من موادِّ اللغة العربية ليس إلا أقل القليل منها، فإنها لم تضقْ عن حاجة الإنسان وتجاربه، وخواطره وعلومه، وفنونه وآدابه؛ بل وسعت روافدَ الحضارةِ والعلوم غير المعروفة عند العربِ في أزهى العصور الإسلامية، حتى صار لسانُ حالِ لغتنا الحبيبة كما قال حافظ إبراهيم:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لَمُخْتَرَعَاتِ؟!
أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي؟
وصدق حافظُ إبراهيم في كلماتِه، ولو أنها نطقتْ لتكلَّمَت بأعجب من ذلك.
2- ولغتنا قائمة على جذور متناسقة لا تجدها في اللغات الأخرى قاطبة:
فالفعلُ الماضي ذهب، ومضارعه يذهبُ، وأمره اذهب، من جذرٍ واحد، أمَّا مثيله في الإنجليزية فماضيه "went" ومضارعه وأمره "go" كلمتان مختلفتان كليًّا، وخذ مثلاً الفعل "cut" بمعنى قطع، يقطع، اقطع، تجده رسمًا واحدًا في الأزمنةِ الثلاثة كلِّها، وتضطر إلى وضعِها في جملٍ كي تعرفَ الزَّمنَ لكلٍّ منها، بينما زمن الفعل في العربية معروف.
3- كما أنَّ للأفعال المتقاربة الجذور في العربية معانيَ متشابهةً لا ترى أمثالها في اللغات الأخرى:
فالفعل (قطع) إذا بدل الحرف الأخير فقط قيل: قط، قطم، قطف، قطش، تجد فيها اشتراكًا في قضمِ الشيء إلى قطع، وفي الفعل (سما) المفتوح العين ثلاثة حروف كذلك، بدِّل الحرفَ الأخير وقلْ مثلاً: سمج، سمر، سمح، سمك، سمق، سمط، تجد اشتراكها في العلوِّ، وهكذا.
4- يذكر الدكتور عبدالله الدنان المهتم بتعليمِ اللغة العربية للناشئةِ منذ الصغر أشياءَ عجيبة عن لغتِنا الحبيبة فيقول:
"إنَّ كثيرًا من الكلماتِ الإنجليزية مأخوذةٌ من اللغةِ العربية؛ ومن ذلك (الباكلوريوس) أو كما يُقال: باكلوريا في بلادِ الشام لشهادة الثانوية، بأنَّ أصلَها جاء من العربيةِ؛ حيث إنَّ العلماءَ من المحدثين ومقرئي القرآن كانوا إذا أجازوا الطالبَ كتبوا له في الإجازة: (أجزناك بحقِّ الرِّواية)، فأخذوها منَّا ثم حُرِّفت: (بحقِّ الرواية، بهك الرواية، بك رواية، باكلوريا)، وقد ذكر أمثلة عديدة من هذا القبيل.
5- وقام مؤلفُ كتاب "اللغة العربية أصل اللغات كلها" في القسم الثاني من الكتابِ بدراسةٍ معجمية مقارنة، أجراها الباحث على نحو خمسمائة كلمة إنجليزية متسلسلة حسب الترتيب الهجائي في قاموس المورد، بدءًا من أولِ كلمة في حرف A وهي (Aard) التي أصلها العربي (أرض)، وهكذا ستجد العجبَ في هذه اللغة الأم، ومن أمثلة ما جاء في الموردِ لفظ الجلالة (الله) صار لديهم (allah)، وعباءة (aba)، ولفظة (algebra) مأخوذة من علمِ الجبر، حتى عفريت أصلها عربي فيكتبونها (afreet)، وكلمات كثيرة كالفلاح (fellah)، والفلس (fils)، والقطن (cotoon)، والحنَّاء (henna)، ومومياء (mummy)، والزَّعفران (saffron)، والسبانخ (spinach)... إلخ.
6- إنَّ اللغةَ العربية تميز بين المذكر والمؤنث، سواء في العددِ أو في غيره، بعكس اللغاتِ الأخرى، وتسيرُ العربية على عنصرِ المخالفة للتمييزِ بين المؤنَّثِ والمذكر في العدد، وليس في هذا تعقيدٌ ما دام هناك نظامٌ مطرد.
7- وقال الخفاجي في "سر الفصاحة": "وقد خبرني أبو داود المطران - وهو عارف باللغتين العربية والسريانية - أنه إذا نقلَ الألفاظ الحسنة إلى السرياني، قبُحت وخسَّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي، ازداد طلاوةً وحُسنًا"[89].
وفي هذا دليلٌ على ما تمتلكه اللغةُ العربية من طاقاتٍ هائلة، ومؤهلات مطلقة: صوتية، وصرفية، ومعجمية، ونحوية، وبلاغية، ودلالية.
ومن الطَّريفِ ما ذكره محمد الخضر حسين قال: "كتب (جون فرن) قصةً خيالية بناها على سياح يخترقون طبقاتِ الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطِها، ولما أرادوا العودةَ إلى ظاهرِ الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثرًا يدلُّ على مبلغِ رحلتهم، فنقشوا على الصخرِ كتابة باللغة العربية، ولما سُئل (جون فرن) عن اختيارِه للغة العربية، قال: إنها لغةُ المستقبل، ولا شكَّ أنه يموتُ غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه".
وسنورد بعضَ ما قاله الغربُ عن ميزات لغتنا، (والفضل ما شهدت به الأعداءُ):
1- قال المستشرق المجري عبدالكريم جرمانوس: "إنَّ في الإسلامِ سندًا هامًّا للغة العربية أبقى على روعتِها وخلودها، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة، على نقيضِ ما حدث للغاتِ القديمة المماثلة كاللاتينية؛ حيث انزوت تمامًا بين جدرانِ المعابد، ولقد كان للإسلامِ قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوبِ التي اعتنقته حديثًا، وكان لأسلوبِ القرآن الكريم أثرٌ عميق في خيالِ هذه الشعوب، فاقتبست آلافًا من الكلماتِ العربية، ازدانت بها لغاتها الأصلية، فازدادت قوةً ونماءً، والعنصرُ الثاني: الذي أبقى على اللغةِ العربية هو مرونُتها التي لا تُبارى، فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهمَ كلمةً واحدةً من اللهجةِ التي كان يتحدث بها أجدادُه منذ ألف سنة، بينما العربُ المحدثون يستطيعون فهمَ آداب لغتِهم التي كتبت في الجاهليةِ قبل الإسلام"[90].
2- وقال المستشرق الألماني "يوهان فك": "إنَّ العربيةَ الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزِها العالمي أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنَّها قد قامت في جميعِ البلدان العربية والإسلامية رمزًا لغويًّا لوحدة عالم الإسلامِ في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروتُ التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كلِّ محاولةٍ يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامِها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائلُ، فستحتفظ العربيةُ بهذا المقامِ العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية"[91].
3- وقال "جوستاف جرونيباوم": "عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنزلها قرآنًا عربيًّا، والله يقول لنبيِّه: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، وما من لغةٍ تستطيعُ أن تطاولَ اللغةَ العربية في شرفِها، فهي الوسيلةُ التي اختيرت لتحملَ رسالةَ الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودعَ الله في سائرِ اللغات من قوةٍ وبيان، أمَّا السعة فالأمرُ فيها واضح، ومن يتتبع جميعَ اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتِها المدهشة في المترادفات، وتزين الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتازُ العربيةُ بما ليس له ضريب من اليسرِ في استعمالِ المجاز، وإن ما بها من كناياتٍ ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كلِّ لغة بشرية أخرى، وللغةِ خصائصُ جمَّة في الأسلوبِ والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أيِّ لغةٍ أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصرُ اللغاتِ في إيصال المعاني، وفي النَّقلِ إليها، يبين ذلك أنَّ الصورةَ العربية لأيِّ مَثَل أجنبيٍّ أقصر في جميعِ الحالات"[92].
4- وقال المستشرق الألماني "أوجست فيشر" - وهو يتكلَّمُ عن العربِ والمعاجم -: "وإذا استثنينا الصِّينَ، فلا يوجدُ شعبٌ آخرُ يحقُّ له الفَخارُ بوفرةِ كتبِ علومِ لغتِه، وبشعورِه المبكرِ بحاجته إلى تنسيقِ مفرداتها، بحَسبِ أصول وقواعد غير العرب"[93].
وقال "هايوود": "إنَّ العربَ في مجال المعجم يحتلُّون مكانَ المركز، سواء في الزَّمانِ أو المكان، بالنسبةِ للعالم القديمِ أو الحديثِ، وبالنسبة للشرقِ أو الغربِ"[94].
5- وقال "كارلونلينو": "اللغةُ العربية تفوقُ سائرَ اللغاتِ رونقًا وغنًى، ويَعجِز اللسانُ عن وصفِ محاسنها".
6- وقال "فان ديك" (الأمريكي): "العربيةُ أكثر لغاتِ الأرض امتيازًا، وهذا الامتيازُ من وجهين؛ الأول: من حيث ثروة معجمِها، والثاني: من حيث استيعابها آدابها".
7- قال الدكتور "فرنباغ" (الألماني): "ليست لغةُ العربِ أغنى لغات العلم فحسب، بل إنَّ الذين نبغوا في التأليفِ بها لا يكادُ يأتي عليهم العدُّ، وإنَّ اختلافنا عنهم في الزَّمانِ والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربيةِ وبين ما ألفوه حجابًا لا يتبين ما وراءه إلاَّ بصعوبة".
8- وقال "فيلا سبازا": "اللغةُ العربية من أغنى لغاتِ العالم، بل هي أرقى من لغاتِ أوروبا؛ لتضمنها كلَّ أدواتِ التعبير في أصولها، في حين أنَّ الفرنسيةَ والإنجليزية والإيطالية وسواها قد تحدرت من لغاتٍ ميتة، ولا تزال حتى الآن تعالِجُ رمم تلك اللغاتِ لتأخذَ من دمائِها ما تحتاجُ إليه"[95].
9- كما يقول أحد الفلاسفة الغرب عن اللغة العربية: "معجزةُ اللغةِ العربية من بين لغات العالم أنها ليس لها طفولة، وليس لها شيخوخة"[96].
4- تعتبر اللغة العربية لغة رسمية في كلِّ دول العالم العربي، ويطلق العربُ على اللغة العربية لقب: (لغة الضاد)؛ لأنَّها الوحيدةُ بين لغات العالم التي تحتوي على حرفِ الضَّاد، ويبلغ عددُ المسلمين في العالم اليوم مليارًا ونصفًا من البشرِ متعددي الألوان والعروقِ والأجناس واللغات، يربطهم باللغةِ العربية القرآن، فلا إسلام بلا قرآن، ولا قرآن بلا لغةٍ عربية.
5- أنَّ اللغةَ العربية تعد أقدم اللغات الحية على وجهِ الأرض: وعلى اختلافٍ بين الباحثين حول عمر هذه اللغة؛ لا يجدُ بعضهم شكًّا في أنَّ العربيةَ التي نستخدمُها اليوم أمضت ما يزيدُ على ألفٍ وستمائة سنة.
فعلى المسلم أن يعرفَ أهميةَ هذه اللغة ومكانتها، وأنه لا غنى لنا عنها، كما يجبُ أن يعتزَّ بها لا بغيرها من اللغات كما هو الحاصل عند بعضِ النَّاسِ مع الأسف، وعلينا أن نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ لا تكفي السباحة فيه، بل أن نغوصَ في مكنونِه، ونستخرج منه المعاني الجميلة والبديعة التي تصنعه وتلبسه لباسًا جذابًا.
أقول هذا سائلاً الله - تعالى - أن يردنا إلى اللغةِ العربية ردًّا جميلاً، وأن يزيدَنا علمًا بها، والله - تعالى - أعلم.
وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] المقدمة (ص 426).
[2] الصاحبي في فقه اللغة ج1 (ص4).
[3]- المزهر ج1(ص321).
[4]- مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب ج1 (ص9)، وينظر: إيضاح الوقف والابتداء؛ تأليف أبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، تحقيق محيي الدين عبدالحميد رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1395هـ، 1971م
[5] المصدر السابق.
[6] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ج1 (ص425).
[7] الإحكام في أصول القرآن؛ لابن حزم، ج1 (ص17)، والأحكام؛ للآمدي ج1 (ص51).
[8] تفسير الألوسي، ج21 (ص192).
[9] البيتين في الوافي بالوفَيَات؛ للصفدي، ج3 (ص168) منسوبتان لإسحاق بن خلف الشاعر المعروف بابن الطبيب من شعراء المعتصم.
[10] حاشية كتاب حلية طالب العلم (ص201).
[11] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج8 (ص343).
[12] المحصول في علم أصول الفقه؛ للرازي 1 (275).
[13] انظر: الكوكب الدري؛ للإسنوي (ص45).
[14] شذرات الذهب؛ لابن العماد الحنبلي (231).
[15] سير أعلام النبلاء؛ للذهبي (175).
[16] سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، ج2 (ص201) وغيره.
[17] ينظر: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، ج2 (ص201).
[18] ذكر محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي - رحمه الله تعالى - في الآدابِ الشرعية ج2 (ص219) هذه القصة، وسنوردها مع شيء من التصرف بالزيادة والحذف والترتيب: "لما ورد سيبويه إلى العراق شق أمره على الكسائي، فأتى جعفر بن يحيى والفضل بن يحيى فقال: أنا وليكما وصاحبكما، وهذا الرجل قد قدم ليذهب محلي، قالا: فاحتمل لنفسك فسنجمع بينكما، فجُمعا عند البرامكة، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه، فسألوه كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي أو هو إياها؟ فقال: أقول: فإذا هو هي، فقال له: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل فمن يحكم بينكم؟ قالوا: هؤلاء الأعراب بالباب، فأدخل أبو الجراح، وهو عربي خالص لا يشوب كلامَه شيء من كلام أهل الحضر، وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونِه معلمه، فقال له: نريدُ أن تقول كما قال الكسائي، فقال: إن لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب، فقرروا معه أن شخصًا يقول: قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا، فالصواب مع من منهما؟ فيقول العربي: مع الكسائي، فقال: هذا يمكن، فانصرم المجلس على أن سيبويه قد أخطأ وحكم عليه، فأعطاه البرامكة وأخذ له من الرشيد وبعث به إلى بلدة، فيقال: إنه ما لبث إلا يسيرًا ثم مات كمدًا، قال علي بن سليمان: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب على ما قال سيبويه، وهو: فإذا هو هي، وهذا موضع الرفع"، وهذه القصة تدل على شدة اهتمامهم باللغة العربية - رحمهم الله جميعًا.
[19] العبر في خبر من غبر، ج1 (ص56).
[20] تفسير القرطبي، ج1 (ص21).
[21] تفسير القرطبي، ج1 (ص21).
[22] العبر في خبر من غبر، ج1 (ص56).
[23] العبر في خبر من غبر، ج1 (ص56).
[24] وقفة مع بعض الترجمات الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم؛ للدكتور وجيه حمد عبدالرحمن ج1 (ص6).
[25] اختلف في لغة أهل الجنة ما هي؟ وذلك بسبب اختلاف المفسرين في قوله - سبحانه وتعالى - في وصف نساء أهل الجنة مادحًا إياهنَّ: ﴿ عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 37] فقد اختلف المفسرون في معنى: (عربًا) على أقوال كثيرة، وقد قال ابن كثير في تفسيره (7: 534): "عن ابن أبي حاتم.... قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((﴿ عُرُبًا ﴾؛ قال: كلامهنَّ عربي))"، ونقله القرطبي في التفسير أيضًا ج17 (ص211)، ونقله الألوسي في تفسيره ج20 (ص231)، وقال: "ولا أظن لهذا صحة؛ والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر"، وقال الحافظ في الفتح ج10 (ص24): "وقد جاء مرفوعًا: (العُرُب كلامهن عربي) وهو ضعيف منقطع".
[26] المزهر، ج1 (ص105).
[27] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ج1 (ص424).
[28] الفتاوى (32252).
[29] اللغة العربية التحديات والمواجهة، ج1 (ص10)؛ للأستاذ: سالم مبارك الفلق.
[30] جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر، ج2 (ص132).
[31] مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب، ج1 (ص9)، وينظر: إيضاح الوقف والابتداء؛ تأليف أبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، تحقيق محيي الدين عبدالحميد رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1395هـ (1971م.
[32] اقتضاء الصراط المستقيم (ص207).
[33] المزهر، ط دار إحياء الكتب العربية، ج2 (ص302).
[34] انظر: الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها [ص: 35].
[35] وحي القلم (3 27).
[36] الخصائص، ج3 (ص245).
[37] تفسير البغوي، ج2 (ص267).
[38] البيت منسوب في ثمرات الأوراق لعامر بن الطفيل، ج1 (ص43)، وكذا في الحور العين ج1 (ص60)، ولسان العرب ج1 (ص63)، وفي العباب الزاخر لعمرو بن الطفيل ج1 (ص13).
[39] كتاب الاعتصام؛ للشاطبي، ج2 (ص56).
[40] أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لا تسبوا الدهر ج19 (ص161- 5713)، ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر ج11 (ص313- 4169).
[41] كتاب الاعتصام؛ للشاطبي، ج2 (ص58).
[42] تهذيب الكمال ج8 (ص328)، والتاريخ الكبير ج1 (ص409)، وثقات ابن حبان ج9 (ص23).
[43] تهذيب الكمال ج 18 (ص 388).
[44] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع؛ للخطيب البغدادي، ج3 (ص231-1071).
[45] شعب الإيمان؛ للبيهقي ج 4 ( ص 188 – 1626).
[46] مصنف عبدالرزاق، ج 5 (ص 497)، وأخبار مكة؛ للفاكهي ج1 (ص331).
[47] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع؛ للخطيب البغدادي، ج 3 (ص 251).
[48] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع؛ للخطيب البغدادي، ج 3 (ص 253).
[49] الصاحبي في فقه اللغة ج1 (ص11).
[50] مجموع الفتاوى، ج1 (ص243).
[51] الصاحبي في فقه اللغة، ج1 (ص11).
[52] الاعتصام، ج1 (ص503).
[53] المفصل؛ للزمخشري (ص 3).
[54] الإحكام في أصول الأحكام (1 827).
[55] خلق أفعال العباد للبخاري ج1 (ص130- 125)، وربيع الأبرار ج1 (ص321).
[56] الإيمان (ص111).
[57] البحر المحيط (13).
[58] البرهان في علوم القرآن [1/ 295].
[59] الإتقان في علوم القرآن [4/ 209].
[60] المفصل (ص3).
[61] الإشراف في منازل الأشراف، ج1 (ص470- 469).
[62] انظر: الإنصاف لأبي محمد عبدالله بن السِّيد البطليوسي (ص72).
[63] البحر المحيط في التفسير [10/ 497].
[64] ديوان امرئ القيس (ص49).
[65] انظر: البحر المحيط (3131)، وتفسير أبي السعود (2121)، وروح المعاني للألوسي (4143)، وأضواء البيان للشنقيطي (7140).
[66]- قال في العباب الزاخر ج1 (ص409): "أنشد البيت الأزهري لابن مقبل، وليس له، ورواه بعضهم لذي الرمة، وليس له، وروى صاحب الأغاني في ترجمة حماد الراوية أنه لابن مزاحم الثمالي، ويروى لعبد الله بن عجلان النهدي".
[67] مقدمة ابن الصلاح، ج1 (ص120).
[68] المصدر السابق.
[69] المصدر السابق.
[70] تدريب الراوي، ج2 (ص 106).
[71] المحصول للرازي [6/ 21].
[72] إرشاد الفحول، ج1 (ص370).
[73] الإيضاح في علل النحو؛ للزجاجي (95).
[74] الرسالة، ج1 (ص47).
[75] الموافقات [5/ 53].
[76] انظر: الموافقات [5/ 124] بتصرف.
[77] تفسير القرطبي (517) لقوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3].
[78] أخرجه مسلم رقم (2452).
[79] انظر: الإنصاف للبطليوسي (ص21).
[80] انظر: الرسالة (ص52)؛ تحقيق أحمد شاكر.
[81] انظر: التنبيه للبطليوسي (ص184).
[82] شرح المفصل لابن يعيش (111).
[83] انظر: معاني الحروف للرماني (ص174)، والتنبيه للبطليوسي (ص188)، وشرح المفصل (12).
[84] الكوكب الدري (ص 308).
[85] الرسالة، ج1 (ص42).
[86] لسان العرب، ج2 (ص593).
[87] تفسير اللباب؛ لابن عادل، ج7 (ص186).
[88] المزهر، ج1 (ص321).
[89] سر الفصاحة، ج1 (ص17).
[90] الفصحى لغة القرآن؛ أنور الجندي (ص301).
[91] المصدر السابق.
[92] المصدر السابق.
[93] مقدمة المعجم اللغوي التاريخي؛ أوجست فيشر.
[94] المصدر السابق.
[95] انظر: لغتنا هويتنا؛ لرامز محيي الدين علي، المصدر: موقع ديوان العرب، بتصرف.
[96] انظر: أرشيف منتدى الفصيح (3).
التعليقات