د.عبد التواب مصطفى خالد معوض
لقد أدى التقدم العلمي ، وتعدد حاجات الناس المستحدثة ، وما ترتب على ذلك من كثرة الوقائع المتباينة، والمتعددة مع غياب المؤسسات الشرعية التي تقوم بتطبيق الشريعة أو بيان حكمها فيها إلى تطلع المسلمين إلى معرفة حكم الله فيها لمعرفة حلالها من حرامها ، وصحيحها من فاسدها ، ومقبولها من مردودها ومرجع الناس في ذلك بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو عالم الشريعة ،الراسخ في العلم ، المشهود له بالزهد والورع، المستقل بأحكام الشرع نصا واستنباطا لقوله تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[1]
ومما لاشك فيه أن خلو المجتمع من المفتين يجعل الناس يسيرون وفق أهوائهم، ويتخبطون في دينهم خبط عشواء فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ويرتكبون المعاصي من حيث يعلمون أو لا يعلمون[2]
ومن ثم فحاجة الناس إلى المفتي لا تقل عن حاجتهم للطعام والشراب ولذلك وصفهم ابن القيم رحمه الله بأنهم:" في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [3]
ففي هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى" برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما.
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم"[4]
ولما كان للافتاء والفتوى هذه المنزلة العظيمة زاد خطرها إذ عليها يتوقف صلاح الدنيا والآخرة ، ومعرفة الحلال من الحرام، ومما زاد من خطورتها كثرة الأحداث، وتعدد القضايا التي ليس لها نظير في حياة سلفنا يقاس عليه ،أو لها نظير ولكن تغيرت علل الأحكام بسبب تغير الظروف مما يستلزم معه تغير الحكم .
وهذا كله يستلزم أن يكون المفتي على قدر تام من التصور والإحاطة الشاملة بالمسألة قبل الحكم فيها حتى يكون الاجتهاد صوابا أو قريبا من الصواب وإلا أفسد على الناس دينهم وحياتهم ودفعهم على ارتكاب المعاصي من حيث لا يشعرون، وباء هو بإثمهم جميعا إلى يوم الدين والقول على الله بغير علم هو افتراء عليه بالكذب نهانا الله عنه بقوله {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }[5]
والمعنى: إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه، لا يخلَّدون في الدنيا ، ولا يبقون فيها، إنما يتمتعون فيها قليلا...ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم.[6]
فالآية : بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه[7]
ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهِّيه.[8]
وبين الله سبحانه أن الفتيا بغير علم "من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[9]
من أجل هذا التهديد والوعيد لمن يفتي في شرع الله بغير علم وجدنا كثيرا من السلف يتورع عن الفتيا بل ويحذر من الخوض فيها وقد ذكر العلماء كثيرا من أخبارهم في ذلك وإليك بعضا منها:
قال:ابن المنكدر :العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم .
وقال عبد الرحمن ابن أبي ليلى :أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى في كل ما يسأل فهو مجنون
وعن الشعبي والحسن وأبي حصين ـ بفتح الحاء ـ التابعيين قالوا: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر
وقال عطاء بن السائب التابعي: أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد .
وقال سفيان بن عيينه وسحنون أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما .
سئل الشافعي عن مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب .
وقال الأثرم :سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول لا أدري وذلك فيما عرف الأقاويل فيه
وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري .
وروى عنه أيضا أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب .
وسئل عن مسألة فقال لا أدري فقيل :هي مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف .
وقال الشافعي: ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه على الفتيا .
وقال أبو حنيفة :لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
وقال سحنون : إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر ؟ فلم ألا على حبس الجواب
وروي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه فجعل الرجل يقول: إني وقفت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم :لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم : والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.
[10]
*باحث في الفقه الإسلامي وأصوله.
[1] ـ النحل آية 43
[2] ـ الفتيا ومناهج الإفتاء ـ د/ محمد سليمان الأشقر ـ دار النفائس ـ الأردن ـ طبعة ثالثة ص 28
[3] ـ إعلام الموقعين ج1/16 والآية سورة النساء آية 59
[4] ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ـ دار إحياء التراث ـ لبنان 1405هـ/1985م ج5/260
[5] ـ النحل 116
[6] ـ جامع البيان في تأويل القرآن ـ: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، [ 224 - 310 هـ تحقيق : أحمد محمد شاكرـ مؤسسة الرسالة الطبعة : الأولى ، 1420 هـ - 2000 م ج17/314 باختصار
[7] ـ إعلام الموقعين ج1/39
[8] ـتفسير ابن كثير ـ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ـ تحقيق سامي بن ممد سلامة ـ دار طيبة للنشر والتوزيع الإسلامية ـ طبعة ثانية 1420هـ /1999م ج4/609
[9] ـ الأعراف 33 وانظر إعلام الموقعين ج1/39
[10] ـ انظر آداب الفتوى للإمام النووي14-17 وإعلام الموقعين ج1/35 وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح ص 11
التعليقات