د. أمين الدميري
إذا كانت وظيفة الدعاة هي التبليغَ والإنذار، ونقلَ الناسِ من محيط الكفر والمعصية إلى محيط الإيمان والطاعة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وبَذْل النصيحة؛ وذلك بالحِكمة والموعظة الحسنة - فإن مِن وراء ذلك هدفًا أساسيًّا - وهو هدفٌ نهائي - وأهدافًا مرحلية؛ أما الهدف النهائي، فهو إعادة الخلافة الإسلامية، جاء في بيان الأزهر الشريف: (وإذا كانت هناك بشرى بالخلافة، فإننا نرجو أن يتممَ الله في ذلك، ولكن لا بد من اتخاذ الأسباب، والاستعداد الكامل لمواجهة كلِّ قوى العالَم بأسلحتها الجبارة، ولا يتمُّ ذلك إلا بتوحيد الدول الإسلامية أو تقاربها...، إن النداءات والصيحات قامت بين الحين والحين من أجلِ الجامعة الإسلامية، ولكنْ عقبتانِ كؤودتان وقَفَتا في الطريق؛ هما الاستعمار من ناحية، وعدم استعداد النفوس والرؤوس الحاكمة لقَبول الإمارة تحت قيادةٍ واحدة من ناحية أخرى، ومع ذلك لا نفقد الأمل، على أن يكونَ معه عمل)[1].
وإعادة الخلافة إنما هو هدف بعيد يجب أن يستقرَّ في ضمير كلِّ مسلم، ولكي تتحققَ هذه الأمنية، ويتحوَّل هذا الأمل إلى الواقع، فلا بد لذلك من مقدِّمات وخطوات وأهداف مرحلية.
وهذه الأهداف المرحلية هي أهدافُ الدعوة في الوقت الراهن، ولكي تتوحد الجهود، وتسير في اتجاه الهدف المنشود، وتكون الدعوة على بصيرة؛ فإن من المفيد تحديدَ الداء قبل وصف الدواء، ولعل الداء العضال، والمصيبة الكبرى، والفتنة العظمى التي حلَّت وعمَّت وطمَّت في بلاد المسلمين - هي ما خلَّفه الاستعمار من أفكار وثقافات غربية، تغلغلت في عقولِ ونفوس عامة المسلمين حتى صارت دِينًا جديدًا بديلاً عن دِين الإسلام؛ هذا الداء هو "العَلمانية"، التي تنبَّأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذَّر من اعتناقها، وأمَر بالتمسك بدين الإسلام، وتعاليم القرآن؛ يقول الأستاذ خالد أبو الفتوح في مجلة البيان[2] في مقال بعنوان: (جذور العلمانية والتغريب في العالم الإسلامي): إن العَلمانية هي إحدى الصور الفجة لانفصال السلطانِ عن القرآن الذي أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((... ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقانِ، فلا تُفارِقوا الكتاب))؛ الحديث أخرجه الطبراني في الكبير (20 - 90)، والصغير (1/ 264)، وذكَره ابن حجَر في المطالب العالية (4348)، وإن الشَّرارة الأولى لهذا التوجه - نحو العَلمانية - اتَّقَدَتْ في ذهنِ لويس التاسع (1270 - 669هـ) ملك فرنسا وقائد آخِر حملتين صليبيَّتين كبيرتين على العالم الإسلامي، فحينما هُزِم في الحملة الصليبية السابعة، وأُسِر بالمنصورة سنة 1250م - 648هـ، أتيحت له فرصةُ التأمُّل والتدبُّر، فوضع مخططًا من أربعة محاور لغزو جديد: ("سِلمي" للعالم الإسلامي)[3]، هذا المخطط يكشفه الشيخ سفر عبدالرحمن الحوالي ويبيِّن معالمه كالآتي:
أولاً: تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملاتٍ تستهدف ذاتَ الغرض، لا فرق بين الحملتينِ إلا من حيث نوعُ السلاح الذي يُستخدَم في المعركة.
ثانيًا: تجنيد المبشِّرين الغربيِّين في معركة سِلمية لمحاربة تعاليم الإسلام، ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنويًّا، واعتبار هؤلاء المبشِّرين في تلك المعارك جنودًا للغرب.
ثالثًا: العمل على استخدام مسيحيِّي الشرق في تنفيذِ هذه السياسة.
رابعًا: العمل على إنشاء قاعدةٍ للغرب في قلبِ الشرق العربي، يتخذُها الغرب نقطةَ ارتكاز له، ومركزًا لقواته الحربية ولدعوته السياسية والدِّينية، ومنها يمكن حصارُ الإسلام والوثوب عليه كلما أتيحت الفرصةُ لمهاجمته[4].
وبدأ تنفيذ هذا المخطط لإخراج الأمة الإسلامية من دِينها، وتعريتها من مقومات وجودِها، وحملها على العلمانية، وانتظمت جيوش الغزو في ثلاثة أجنحة واضحة كبرى، هي:
1- قوى الاحتلال المباشر.
2- المستشرقون.
3- المبشِّرون (بالمسيحية كما يسمون).
وقد قُطِفَتْ ثمار هذه الخُطة عندما استطاعت قوى الاحتلال العسكري في العالَم الإسلامي أن تحاربَ جيوش الدولة العثمانية بأناس مسلمين، ساروا في ركاب "اللنبي" حتى فتَح القدس، وهي أولُ حرب صليبية في التاريخ يكون قومُها مغفَّلين منسوبين إلى الإسلام، وكان من نتيجة ذلك أن تحقق ما يلي:
أ - القضاء على الحركات الإسلامية الجهادية؛ كحركة المهدي في السودان، وعمر المختار في ليبيا، عبدالقادر الجزائري وعبدالكريم الخطابي في المغرب الأقصى، وإسماعيل الشهيد بالهند، وحسن البنا في مصر.
ب - إلغاء المحاكم الشرعية، وإحلال القوانين الوضعية محلها، وأول قُطر بدأ إلغاء الشريعة الإسلامية هو الهند في عام 1791م، ثم في الجزائر عام 1830، وفي مصرَ حكَم القانون الفرنسي في عهد إسماعيل عام 1883، أما الأحوال الشخصية، فألغيت في مصرَ بعد ذلك، وفي تونس 1906.
ج - القضاء على التعليم الإسلامي بمعرفة كرومر (المندوب السامي البريطاني)، ودانلوب (القسيس والمستشار الثقافي البريطاني) الذي انتهج سياسةً بعيدة المدى، دقيقة الخُطى، للقضاء على الأزهر الشريف ومعاهده وكتاتيب القرآن[5].
وأقول: إنه تم إعدادُ جيل من تلاميذ المستشرقين وعملاء الاستعمار من أبناء المسلمين في مصر والشام؛ ليساندوا الاستعمارَ الغربي، وليكملوا المسيرة، وليستلموا زمامَ الأمور نيابةً عنه، أو وكلاء له، وكان ولاؤُهم لأسيادهم الذين صنَعوهم.
يعلِّق الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله تعالى - على وصية لويس قائلاً: "ويَسُوءُني أن أقول: إنني ما كنت أعرف شيئًا عن وصية لويس التاسع حتى الأربعين من عمري، ومن أين أعرف ودراستنا للتاريخ رديئةٌ كل الرداءة، ثم قرأت ترجمة للوصية المذكورة عن "العلاقات بين الشرق والغرب في الحروب الصليبية إلى اليوم"، فعرَفت العللَ الكامنة وراء كثير من المصائب الاجتماعية والعِلمية التي نواجهها... إن لويس التاسع يرى أن يؤخرَ دور السيف، ويقدِّمَ دور الخديعة..، ويرى أن المعالنة بالقضاء على الإسلام خطأ[*]، ويوصي قومه باستبطان ذلك وإظهار غيرِه[*])[6].
أما الحدث الأكبر، والثمرة الهائلة والخطيرة، فكانت إلغاء الخلافة على أيدي العَلمانيين في تركيا (في 3 مارس 1924م)، يقول الشيخ يوسف القرضاوي: "وأبرز بلدٍ إسلامي حكَمَته العَلمانية، ونفذت منه خططها، وضربت بيد من حديد على كلِّ من يقاومها، وخاضت في ذلك بحرًا من الدم، هو تركيا، بلد الخلافة الإسلامية الأخيرة، الذي قهره "أتاتورك" على تطبيق الأنموذج الغربي في الحياة كلها، وفي السياسة، وفي الاقتصاد والاجتماع، والتعليم، والثقافة، وسلَخه من تراثه وقيمه، كما تُسلخ الشاة من جلدها، وأقام دستورًا لادينيًّا يعزِلُ الدِّينَ عن الحياة عزلاً كاملاً..."[7].
ومن عجائب الأمور، أن ينظر البعضُ إلى مصطفى كمال أتاتورك "نظرة إجلال وإعجاب، ويتخذه البعض في بلاد المسلمين بطلاً ومثلاً أعلى...؛ يقول المستشار عبدالجواد يس: (فعندما قام مصطفى كمال أتاتورك بخَلْع السلطان محمد وحيد الدين، وأعلن تجريدَ السلطان من السلطة الفعلية، وفصَل الدِّين عن الدولة، كان الأمر - كما يذكر الدكتور محمد حسين - "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ج2، ص21" - أنْ أيَّدت كثرةُ الناس في مصر مصطفى كمال في هذه الخطوة، واستبشرت بظهور الجمهورية..، وتعالَتْ نبرةُ المديح والإعجاب بمصطفى كمال؛ لما حقق انتصارات ضد الغزو الأوربي، ولعزله السلطان الذي احتمى بالإنجليز، وعندما فرَّ شيخُ الإسلام التركي إلى مصر، وهاجَم حزب كمال أتاتورك، ردَّ الكثيرون في مصرَ هجومه، وانتصروا للكماليِّين.
ثم لما قام الكماليون بإلغاء الخلافة نهائيًّا بصورة رسمية - عام 1924 - كان الاعتراضُ قائمًا في الغالب "على أنه يكفي تجريدُ الخلافة من السلطة الزمنية - وهو نفس التعبير الغربي الشائع في مصطلحات الفِكرة العَلمانية بأوروبا، وإبقاء السُّلطة الرُّوحية كما في أوروبا - وأنه لا يجب إلغاء الخلافة بعد أن أصبحت سلطةً روحية لا دخل لها بالسلطة الزمنية، ولا هي عقبة في سبيلها...)[8].
ومن هنا - ومما سبق - يمكن القول بأن الجهادَ الأكبر، وفريضة الوقت، وواجب اليوم على الأمة الإسلامية بأسرها هو التصدي للعَلْمانية، وجهاد العَلمانيين - المتطرِّفين منهم والمعتدلين - ومقاومة الموجة اللادينية، أو ما يسمى بالغزو الثقافي الذي يجتاح العالَمَ الإسلامي، وحشد الطاقات، وتوجيه الجهود، وتوحيد الصفوف للوقوف كالبنيان المرصوص - دعاة ومصلحين، وخطباء وعلماء - لمواجهة الرِّدَّة التي أصابت وغَزَتِ المجتمعات الإسلامية؛ يقول عنها الأستاذ أبو الحسن النَّدوي "ردَّة ولا أبا بكر لها": (إنها ردة اكتسحت العالَمَ الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وغزت الأُسَرَ والبيوت، والجامعات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرةٍ مثقَّفة - إلا من عصم ربك - إلا وفيها مَن يدين بها، أو يحبُّها، أو يجلُّها، وإذا استنطقته أو خلوتَ به أو أثَرْتَه، عرَفتَ أنه لا يؤمن بالله، أو لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن بالقرآن الكتاب المعجِزِ الخالد...، وأفضلهم من يقولُ: إنه يفكر في مثل هذه المسائل، ولا يهتمُّ بها كبير اهتمام...
إنها ردَّة، ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغَلْ خاطرهم؛ لأن صاحبها لا يدخل كنيسة أو هيكلاً، ولا يعلن ردتَه وانتقاله من دينٍ إلى دين..
لقد قالوا قديمًا: قضية ولا أبا حسنٍ لها، وأقول: ردة ولا أبا بكرٍ لها...)[9].
ولستُ بحاجة إلى بيانِ مظاهر العَلمانية في الحياة الإسلامية، وتأثيراتها في الحكم والتشريع، وفي التربية والثقافة، وفي الاجتماع والأخلاق[10]، إلا أن قضية الأمة هي أن العَلمانية تصطدم وتتعارَضُ مع قضيةِ الألوهية.
وقد ذكر الدكتور محمد البهي أن العَلمانية هي أخطرُ العقَبات في طريق الإسلام[11].
ومن هنا يمكن القول بأن هدفَ الدعوة الآن هو مواجهةُ أفكار العَلمانية وأساليبها، واجتثاث جذورِها، وبيان ظروف نشأتها وبيئة ولادتها، وأنها كالجسمِ الغريب في جسدِ الأمَّة الإسلامية، وأنها تقوم على إقصاء الدِّين عن الحياة، والتمرد على الإله المعبود الذي له الخَلْق والأمر.
وعلى هذا، فإن الدعوةَ يجب أن تتوجَّهَ إلى ثلاثة محاور أساسية، وهي:
1- مواجهة العَلمانية والعَلمانيين.
2- الدعوة إلى التوحيد، وتصحيح المفاهيم الخاطئة في أمور العقيدة.
3- إحياء الخلافة والسعي إلى إعادتها.
[1] بيان للناس من الأزهر الشريف ص 256، عن وجوب إقامة الحكومة الإسلامية، ووجوب إقامة إمام يتولى شؤون المسلمين؛ انظر ص 190.
[2] العدد 159، فبراير 1999، ص 46.
[3] العدد 159، فبراير 2001م، ص 46 - 48.
[4] العلمانية، رسالة ماجستير، مكتب الطيب، ط2، 1999، ص 536.
[5] المرجع السابق، ص 538.
[*] قلت: وقد أخطأ وخالَف زعماء أمريكا مؤخرًا بإعلانهم أنهم يخوضون حربًا صليبية مقدَّسة ضد الإسلام، وصرح الرئيس السابق (بوش) بأن غزو أفغانستان والعراق كان بوحيٍ إلهي، وأن الرب أمَره بذلك.
[*] في البداية صرحوا أنهم يريدون القضاءَ على الإرهاب، وعلى أسلحة الدمار الشامل.
[6] ظلام من الغرب، نهضة مصر، ط 3/ 2003 م، ص 199.
[7] الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه، دار الصحوة، ط1، 1987، ص 60.
[8] تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن 19م، المختار الإسلامي، ص 92.
[9] ردة ولا أبا بكر لها، أبو الحسن الندوي، دار الثقافة، الدوحة، ص 8 - 9.
[10] انظر العلمانية؛ الشيخ سفر الحواليص 561، وحُكم العلمانية في الإسلام ص 647.
[11] عقبات في طريق الإسلام؛ د. محمد البهي، مكتبة وهبة، ص 9.
التعليقات