عناصر الخطبة
1/فضائل العشر الأواخر 2/سر إخفاء ليلة القدر 3/اعتقادات خاطئة في ليلة القدر 4/ ليلة القدر ليلة متنقلة في وتر العشر الأواخر 5/الإحياء الصحيح لليلة القدر 6/أقسام الاعتكاف 7/الاعتكاف المحرم.اقتباس
اجتهد أيها المؤمن، واحرص يا عبد الله على القيام في ليالي العشر كلها، إيمانًا بالله -جَلَّ وَعَلا-، واحتسابًا للقيام من ثوابه عنده، تدركها بإذن الله لا محالة، واحذر قُطّاع الطريق وسراق الوقت عنك يخصونها في ليلة، فتهمل...
الخطبةُ الأولَى:
الحَمْدُ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ أيها الناس: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها المؤمنون! هذا شهركم شهر رمضان، قد تصرَّم منه نحو الثلثين، وبقي ثلثه، وهي أفضل لياله على الإطلاق، بل أفضل ليالي العام مطلقًا؛ لاشتمالها على هذه الليلة الشريفة الفاضلة؛ ليلة القدر، التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة القدر -يا عباد الله- أُريها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، ثم تلاحَى اثنان من الصحابة، فرُفِعَتْ بسبب هذه التلاحي والتغاضب، ولله في ذلك حكمةٌ عظيمةٌ، ليجتهد عباده وأولياؤه المؤمنون، فيقومون هذه الليالي التسع أو الليالي العشر إذا تم الشهر، فيقومون ويجتهدون فيها؛ لعلهم أن يوافقوا فيها قيام الإيمان والاحتساب، فينالوا فيها الخير العظيم، الذي هو خير من عبادة ألف شهر، وهي خصيصةٌ لنا –هذه الأمة-؛ أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، بقلة أعمارنا، لكن بكثرة ومباركة الله بأعمالنا.
ولهذا قال -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"، آخر الناس أممًا وأقلهم أعمارًا وأكثرهم أعمالاً وأسبقهم في الصالحات، وما ذاك -يا عباد الله- إلا لهذه المواسم الخيرة، ولما أثاب الله به عباده من هذه الأمة، فجازاهم بالعمل القليل الثواب العظيم كرامةً منه -سبحانه- ولطفًا وتحننًا.
واعلموا -عباد الله- أن من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة، إذا كان قيامه إيمانًا بفرض الله عليه بالصيام وندب القيام، واحتسابًا للثواب على ذلك عنده -جَلَّ وَعَلا-.
وثمة أغلاطٌ في هذه الليلة يا عباد الله؛ منها تخصيصها بليلةٍ من الليالي ثابتةٌ فيها لا تتنقل عنها، وهذا خلاف الراجح مما دلَّت عليه الأدلة الكثيرة في هذه الليلة، فإنها وقعت في حياته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في سنةٍ من السنوات، في ليلة إحدى وعشرين، حيث رأى -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام- أنه يسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين.
قال أبو سعيدٍ الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فنزل المطر وكفَّ المسجد وإني لأنظر إلى أثر الطين في جبينه وأنفه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-"(أخرجاه في الصحيحين). وكان هذا ليلة إحدى وعشرين.
فالصحيح أن ليلة القدر ليلةٌ متنقلة، تكون في الأشفاع والأوتار، لكنها في الأوتار آكد، قال -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-: "من كان منكم متحريها -أي: ليلة القدر- فليتحراها في العشر الأواخر من رمضان"(أخرجاه في الصحيحين).
ومن المحدثات -يا عباد الله- تخصيص ليلة سبعٍ وعشرين باحتفالاتٍ ومهرجانات ومباركات وإرسال التهاني، حتى ظنها من ظنها أنها هي الليلة التي لا يكون غيرها ليلة القدر.
ومن المحدثات أيضًا تخصيصها بالعمرة، ولهذا أزحم ما يكون الحرم في ليلة سبعٍ وعشرين، لظنّ كثيرٍ من العوام أنها هي ليلة القدر، ولهذا يخصونها بالعمرة، وليلة القدر لا تُخصُّ بعمرة، كما لا تُخصُّ بالصدقة، ولا تُخصُّ بمواصلة الصيام، وإنما خصها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بالقيام، حيث قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا".
والقيامُ إنما يكون بالصلاة والدعاء والابتهال والانكسار بين يديه -جَلَّ وَعَلا-، وأوضح علاماتها ودلائلها لا تتأتى إلا بعد انقضائها، وهي في ظهور الشمس في صبيحتها كالطست أي قرصٌ لا شعاع له.
ليلة القدر -يا عباد الله- ليلةٌ شريفةٌ فاضلة، ألا فلا تغلبنكم نفوسكم ولا شياطين الإنس بصرفكم عنها، ومن هؤلاء من الذين يذيعون هذه المنامات والأحلام أنها تواطأت رؤيا فلانٍ وعلان، أو المعبر الفلاني وغيره أنها في هذه السنة ليلة كذا وكذا.
اجتهد أيها المؤمن، واحرص يا عبد الله على القيام في ليالي العشر كلها، إيمانًا بالله -جَلَّ وَعَلا-، واحتسابًا للقيام من ثوابه عنده، تدركها بإذن الله لا محالة، واحذر قُطّاع الطريق وسراق الوقت عنك يخصونها في ليلة، فتهمل ما قبلها وما بعدها؛ فتكون عندئذٍ ممن فاتتك هذه الليلة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وجعلنا ممن قام هذه الليلة الشريفة إيمانًا واحتسابًا، فتفضل الله عليهم، وغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أعاد مواسم الخيرات على عباده، فلا ينقضي موسمٌ إلا ويعقبه آخرُ مرةً بعد أخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة والفلاح في الدنيا وفي الأخرى، وأصلي وأسلم على سيد الورى الشافع المشفع في المحشر، وعلى آله وأصحابه أولي النهى، ما طلع ليلٌ وأقبل عليه نهارٌ وسرى.
أما بعد؛ عباد الله: إن من الأعمال الصالحة في هذه العشر اعتكافها؛ والاعتكاف اعتكافان يا عباد الله؛ اعتكافٌ إيمانيٌ توحيدي، وهو اعتكاف المؤمنين وعلى رأسهم سيدهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ حيث اعتكف في العشر الأخير من رمضان بعد ما اعتكف العشر الوسطى؛ كل ذلك تحريًا لهذه الليلة، والاعتكاف سنةٌ مؤكدة، وهو لزوم المسجد طاعةً لله -جَلَّ وَعَلا-، ولهذا قضاه في سنةٍ من السنوات في شوال.
والاعتكاف يكون واجبًا إذا نذَره المؤمن؛ جاء في صحيح البخاري من حديث عمر -رَضِي اللهُ تَعَالى عَنْهُ- قال: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام في الجاهلية، قال -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-: "أوفِ بنذرك"؛ لأن هذا الاعتكاف طاعةٌ لله فوجب الوفاء به، وما سواه فإنه سنةٌ مؤكدة.
والاعتكاف يكون في مسجدٍ تقام فيه الجماعة، حتى لا يُضطر إلى الخروج، فيؤدي الجماعة في مسجدٍ آخر، والاعتكاف يجوز للرجال والنساء، ويُشترط في اعتكاف النساء شرطان؛ إذن وليها أولاً، وألا يترتب على اعتكافها فتنةٌ منها، أو فتنةٌ عليها.
والاعتكاف -يا عباد الله- ليس هو لمجرد السكنى، أو للرحلة إلى المسجد، وإنما هو في حقيقته خلوةٌ بالله -جَلَّ وَعَلا-، وتدبرٌ لما هو عليه، ومحاسبةٌ لنفسه في أعماله، ومراقبةٌ لها، وشحذ همةٍ في سيره إلى ربه -سبحانه وَتَعَالى-، هذا هو اعتكاف المؤمنين، واعتكاف الموحدين الذي أمر الله أبا الأنبياء والمرسلين أن يطهر بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وثمة اعتكافٌ شركي، اعتكافٌ كفري، اعتكافٌ ليس له علاقةٌ بالإيمان بالله؛ وهو الاعتكاف عند المقامات والقبور والأضرحة، وعند الأحجار والأشجار تبركًا بها، أو اعتقادًا لأن يناله من بركاتها ومن خيرها، أو لدفع ما يخشاه من الشرور والضرر.
ففي حديث أبي واقدٍ الليثي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: خرجنا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إلى حُنين ونحن حدثاء عهدٍ بكفر، فمررنا بسدرةٍ للمشركين يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فجاوزناها، فمررنا على سدرةٍ أخرى فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- متعجبًا ومستنكرًا: "الله أكبر، الله أكبر، سبحان الله، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ)".
نعم عباد الله: إن الاعتكاف عند هذه الأضرحة والمقامات والمزارات والأحجار والأشجار يفعله عُبادها ممن صرفوا حق الله -جَلَّ وَعَلا- لغيره، فكان هذا الاعتكاف اعتكافٌ شركي، اعتكافٌ كفري، لا يقرب من الله، وإنما يقرب من عذابه، ومن ناره، ومن سخطه.
ثم اعلموا -عباد الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وشر الأمورِ محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم عباد الله بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، ولا يأكل الذئب إلا من الغنم القاصية.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم وارضَ عن الأربعةِ الخلفاء، وعن العشرةِ وأصحابِ الشجرة، وعن المُهاجرين والأنصار، وعن التابعِ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عزًا تُعز به أولياءك، وذلاً تذل به أعداءك، اللهم أبرم لهذه الأمةِ أمرًا رشدًا يُعز به أهل طاعتك، وبُهدى بهِ أهل معصيتك، ويؤمر فيهِ بالمعروف، ويُنهى فيهِ عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا والمُسلمين في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاةَ أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا والمُسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم من ضرنا وضر المؤمنين فضره، ومن مكر بنا فامكر به، ومن كاد علينا فكِد عليهِ يا خير الماكرين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم من أراد بلادنا أو أراد أمننا أو أراد ولاتنا وعلماءنا وأراد شعبنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيرهُ تدميرًا عليه، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائِلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال وأنت ولينا، اللهم تقبَّل صيامنا وصلاتنا وركوعنا وسجودنا.
اللهم تقبَّل منا الصيام يا رب العالمين، اللهم كن للمُستضعفين من المُسلمين في كل مكان، كن لنا ولهم وليًا ونصيرًا وظهيرًا يا ذا الجلالِ والإكرام، اللهم ارحم المُسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقاك يا ذا الجلالِ والإكرام، اللهم إنا نسألك الهدى والتُقى، والعفاف والغنى، ونسألك عزًا للإسلام وأهله وذلاً للكفر وأهلهِ يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات