عناصر الخطبة
1/ عقيدة المسلمين في الإيمان بالرسل 2/ صفات الرسل 3/ واجبنا تجاههماهداف الخطبة
اقتباس
الرسالة رحمة، الرسالة اصطفاء، النبوة رفعةٌ وعِزةٌ يمنُّ الله -تعالى- بها على من يشاء من عباده، قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ)؛ فدلّ ذلك على أن النبوة هي أرفع من غيرها من الفضائل، أرفع من العِلم، وأرفع من ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتَّصَلَتْ عينٌ بنظَر، ووعَتْ أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جلس إليه أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول الله: هل كان آدم نبيًّا؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "نعم، كان نبيًّا مكلَّمًا"، فقال أبو ذر: يا رسول الله: كم هو عدد الأنبياء؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "هم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال كم الرسل من بينهم؟! قال: "هم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً"، وفي رواية قال: "ثلاثمائة وخمسة وعشرون رسولاً".
هؤلاء الرسل -أيها الإخوة الكرام- اصطفاهم الله -جل وعلا- واختارهم من خلقه جميعًا ليبلغهم -جل وعلا- رسالاته حتى يكونوا رسلاً بينه وبين الناس، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج:75]، فجعل الله -تعالى- الرسالة اصطفاءً واختيارًا منه -جل وعلا-، لا يملك أحد أن يكون رسولاً من تلقاء نفسه، ولا أن يعترض على أحد من الرسل: لماذا اختاره الله -جل وعلا-؟!
ولما اعترضت قريش على إرسال نبينا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]، وحددوا رجلين كان لهما وجاهة عندهم وعِظَم، فقالوا: لو كان الله سيبعث نبيًّا وسينزل قرآنًا لأنزله على أحدهما، فكيف يُنزله على رجل نشأ يتيمًا وكان منا ليس في غنى ولا في مال كثير؟! (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] قال الله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) [الزخرف:32].
الرسالة رحمة، الرسالة اصطفاء، النبوة رفعةٌ وعِزةٌ يمنُّ الله -تعالى- بها على من يشاء من عباده، قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ) [الزخرف:32]؛ فدل ذلك على أن النبوة هي أرفع من غيرها من الفضائل، أرفع من العِلم، وأرفع من الولاية، وإذا اختار الله -تعالى- رجلا فجعله نبِيًّا فقد أعَزَّهُ وأعلى شأنه.
والرسل -أيها الإخوة الكرام- قد جعلهم الله -تعالى- رسلاً بينهم وبين الناس، وأوجب الله -تعالى- على الناس الإيمان بهم وتصديقهم، والرسل كثير، قد بيّن الله -جل وعلا- في كتابه عددًا منهم بأسمائهم، فذكر الله -تعالى- في كتابه خمسة وعشرين نبيًا، منهم من فصَّل الله -تعالى- قصصهم كما فصل الله -تعالى- قصة موسى -عليه السلام-، وقصة آدم، وقصة عيسى وعدد من أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام-، ومنهم من لم يفصل الله -تعالى- قصته، وإنما ذكر الله -تعالى- اسمه كما ذكر اليسع وذا الكفل وغيرهما من الأنبياء مِن غير أن يفصل الله -تعالى- صفاتهم.
وجب علينا الإيمان بهم كلهم، سواء مَن علمنا أسماءهم منهم من الكتاب أو من السنة أو مَن لم نعلم، كما قال الله -تعالى-: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) [النساء:164]، فدل هذا على أن الله -تعالى- بعث إلى عدد من الأمم أنبياء كما قال -جل وعلا-: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15]
وربما بعث الله -تعالى- إلى الأمة الواحدة؛ بل إلى المدينة الواحدة، بل إلى القرية الواحدة أكثر من نبي، كما قال الله -جل وعلا- لما ذكر في أول سورة يس خبر أولئك الأنبياء: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس: 14].
فبيّن الله -تعالى- أنها قرية واحدة بعث الله -تعالى- إليها ثلاثة من الرسل لإنذارهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
أيها المسلمون: أمر الله -تعالى- بالإيمان بجميع الأنبياء، وهو من عقيدة المسلمين: (كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة: 285]، لا يجوز أن تؤمن بمحمد -عليه الصلاة والسلام- وتكفر بعيسى أو تكفر بموسى أو بنوح أو بلوط أو بغيرهم.
فالإيمان بنبي واحد يقتضي الإيمان بجميع الأنبياء، كما قال الله -جل وعلا- عن قوم عاد: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:123]، مع أنهم ما كذبوا إلا نبيًا واحدًا، لكنهم لما كذبوا نبيًا واحدًا كذبوا بجميع رسالات الأنبياء.
وقال الله -جل وعلا- مبينًا حال قوم نوح: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:105]، مع أنهم ما كذبوا إلا نوحًا -عليه السلام-.
الإيمان بهم جميعًا بأنهم رسل من عند الله -جل وعلا-، لهم حق الطاعة، لهم حق الاحترام، لهم حق الاتباع، لهم حق التصديق فيما بلغوه عن ربنا -جل وعلا-.
ذم الله -تعالى- أهل الكتاب لما كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون بغيرهم، قال الله -جل وعلا-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ) [البقرة:91]، نحن نؤمن بما أنزل علينا، نؤمن بموسى وعيسى ويكفرون بما وراءه فجعلهم الله -تعالى- كفارًا بجميع الأنبياء.
الأنبياء -أيها المسلمون- فضّل الله -تعالى- بعضهم على بعض، فقال الله -جل وعلا-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة:253].
ويجوز أن تقول: إن أولي العزم هم أفضل الرسل، لكن لا يجوز أن تقول ذلك على سبيل التنقُّص من غيرهم، فإذا قلت مثلاً: إن موسى -عليه السلام- أفضل من فلان من الأنبياء جاز ذلك إن كنت تقصد أن موسى من أولي العزم وأنه نبي مكلم، لكن إذا كنت تعني تنقُّصًا لذلك النبي أو أن ذلك النبي قصّر في رسالته فهذا لا يجوز، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تخيّروا بين الأنبياء"، يعني: لا تقولوا: هذا خيرٌ من هذا، حمل أهل العلم الحديث على أنه إذا كان على سبيل التنقص للنبي الآخر.
جعل الله -تعالى- للرسل أحسن صفات البشر، فأجمع أهل العلم على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن ربنا -جل وعلا-، فلا يمكن أن يبلغ إلا الحق، ولا يمكن أن يغير ولا أن يبدل، فإذا أوحى الله -تعالى- إلى أي رسول بوحي فإن الله -تعالى- يعصمه من النسيان، يعصمه من الخطأ فيما يتعلق برسالته.
فهم معصومون فيما يبلغونه عن ربنا -جل وعلا-، وهم أيضًا صادقون فيما يخبروننا، كما قال الله -جل وعلا-: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52].
فلا يمكن أن يتهم نبي بأنه يكذب فيما يدعو إليه أو فيما يبلغه عن ربنا -جل وعلا-، ولما أقبل رجل إلى سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا محمد: اعدل؛ فإنك لم تعدل. غضب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك لأن الرجل اعترض على قسمة قسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- في مال لم يأخذ لنفسه منه شيئًا، وإنما قسمه على أصحابه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "يأمنني أهل السماء ولا تأمنونني؟!". الله يأتمنني على رسالته، الله يأتمنني أن لا أزيد ولا أنقص، الله يأتمنني على أن أحكم بالقرآن فأعدل، وأنت لا تأتمنني على دريهمات قسمتها بينكم؟!
الرسل بلغوا كل الرسالة بأمانة وصدق، كما قال الله -جل وعلا- عن نوح -عليه السلام- لما قال لقومه: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ) [الأعراف: 61-62].
كل الرسل بلغوا الرسالة تامة كاملة من الله -جل وعلا-، ولم يكتم رسول منهم أبدًا خبرًا واحدًا أمره الله -تعالى- ببلاغه.
وقال الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، يعني نبينا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، بلغ الناس ما نزل من ذم في اليهود والله يعصمك منهم، بلغ الناس حرمة الربا والله يعصمك من أذى المرابين، بلغ الناس بحرمة الزنا والله يعصمك من أذى المتعلقين بالزنا، بلغ الناس حرمة السرقة والله يعصمك من أولئك اللصوص، فلا يضرونك بتبليغك: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67].
فمن جاء بعد ذلك من أهل الضلال وأهل الانحراف وأهل الزيغ والفجور، وزعم أن نبينا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئًا من الرسالة يتعلق بصحابي معين، سواء كان من عامة الصحابة أم من الخلفاء الراشدين، أم من آل البيت أم من غيرهم، أو زعم أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كتم شيئًا من القرآن ولم يبلغه فقد كفر بالله العظيم، إذ كذب بهذه الآية، وكذب بقول الله -جل وعلا-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
فإذا كان -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ البلاغ التام وجب علينا أن نأخذ بكلامه جميعه -صلوات ربي وسلامه عليه-.
أيها المسلمون: وجعل الله -تعالى- في الرسل شجاعة في قول الحق، فيهم شجاعة في سيادة الناس، فيهم شجاعة في الثبات على مبادئهم، فيهم شجاعة في مواجهة الفتن، فيهم شجاعة في القتال والجهاد في سبيل الله.
ألم تسمع ما ذكره الله -جل وعلا- عن نبيه هود -عليه السلام-؟! لما هدده قومه وقف -عليه السلام- أمامهم وقال: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [هود:55]؛ ذلك لما قالوا: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ -استمعوا للشجاعة- قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا) [هود:53-55]، أتحداكم! (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [هود:55]، لا تتأخروا في كيدكم؛ فأنا شجاع معتمِد على الله، واثق به: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56].
كانوا شجعانًا، يقول بعض الصحابة: "كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي معركة حنين لما تقدم الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بمالك بن عوف وأصحابه قد كمنوا لهم واختبؤوا بين صخور في أعلى وادٍ، فلما دخل جيش المسلمين، وكانوا اثني عشر ألفًا، فإذا بهم ينزلون ويرمونهم بالحجارة والسهام، فيتولى جميع الجيش إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسعة من أصحابه.
لكن أكثر من أحد عشر ألفًا ولوا الأدبار! فإذا به -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أنا النبي لا كذب"، أنا ما جئت أفتري، أنا ما جئت أفتح دياركم أبحث عن عز لقومي ولا شرف لمجدي ولا علوّ لذاتي، "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وثبت -عليه الصلاة والسلام- ثبات الرجال.
في معركة أحد يثبت -عليه الصلاة والسلام- حتى تنتهي المعركة ثم يشرف على دفن أصحابه الكرام، -رضي الله تعالى عنهم- وعلاج الجرحى ونقلهم.
لم يكن أحد من المرسلين خوارًا ولا جبانًا ولا موليًا دبره إذا حضر عدوه، كلا؛ بل كانوا شجعانًا، أبطالاً، خصهم الله -تعالى- بخصائص الكمال في البشر.
وأحسَنُ منك لم ترَ قطُّ عيني *** وأجْملُ منك لم تلِدِ النساءُ
خُـلِقْتَ مُبرَّأً مِن كُلِّ عيبٍ *** كأنَّكَ قد خُلِقْتَ كما تَشَاء
كما قال حسان بن ثابت في سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أيها المسلمون: هؤلاء هم رسل الله -تعالى-، الذين أمرنا باحترامهم وتقديرهم ومعرفة مكانتهم، لقد اصطفاهم الله -تعالى- واختارهم على علم سابق منه -جل وعلا- بصلاحهم وسلامة صدورهم، ومناسبتهم ليكونوا رسلاً بينه وبين عباده.
فصلّى الله على نبينا، وصلى الله على جميع أنبياء الله ورسله ما ذكرهم الذاكرون الأبرار، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله ما تعاقب الليل والنهار، وأسأل الله أن يجعلنا من زمرتهم، وأن يحشرنا يوم القيامة في صفهم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: من أعظم ما جعل الله -عز وجل- من صفات الأنبياء "الذكاء"، فكانوا أذكياء حفاظًا، قادرين على قيادة الناس، وعلى المناظرة، وعلى المحاورة، وعلى التعليم، وعلى اتخاذ القرارات الصائبة الصارمة في المواقف الحالكة.
لم يكن نبي من الأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والسلام- تغيب عنه الحكمة في المواقف التي يحتاج فيها إليها، مع وحي الله -جل وعلا- لهم فيما يحتاجون إليه من أمور الأمة.
أيها المسلمون: وقف إبراهيم -عليه السلام- أمام النمرود، فتحدث إبراهيم عن ربه -جل وعلا-، (قَالَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، قال النمرود، ذلك الملك الظالم: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)! ثم دعا رجلين قد حكم عليهما بالقتل، فأمر بأحدهما أن يُطْلَقَ فأُطْلِقَ وأمر بقتل الآخر فقتل، قال: أنا أحييت هذا وأمَتُّ هذا!
فقال إبراهيم -عليه السلام- وقد علم أنه يناظر رجلاً مجادلاً لا نية له في أن يتبع ميزانًا ولا قانونًا يهدي إلى الحق، (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)! إذا أنت ربٌّ تتحكم في الكون وتفعل ما تشاء، فالوعد غدا صباحًا، الشمس كل يوم تطلع من الشرق، نريدك -يا من تدعي الربوبية- أن تُطلِعَها غدا من الغرب! (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة:258]، لم يستطع أن يجادل فقد حاجَّه إبراهيم.
وأيضًا جاء عن سليمان -عليه السلام- أنه كان قد أوتي ذكاءً وحكمة وفهمًا كما أوتي غيره من الأنبياء، ومن ذلك أن امرأتين في عهده -عليه السلام- نزلتا إلى نهر كي تغسلا ثيابهما، وكان مع كل منهما طفل حديث الولادة، فوضعتا ولديهما وتوجهتا إلى النهر، فأقبل الذئب وأخذ ولد واحدة منهما ومضى به، فاختلفتا في الولد الباقي، كل واحدة تقول: ولدي.
فاحتكمتا إلى داود -عليه السلام-، ثم احتكمتا إلى سليمان -عليه السلام-، فلما رأى سليمان أن الكبيرة تبكي وتقول: هذا ولدي، والصغيرة تبكي وتقول: بل هو ولدي، وضعه أمامه ثم دعا بسكين، ووضع طرف السكين على رأسه، قالتا له: ماذا تفعل؟! قال: أقسمه بينكما، يفعل ذلك احتيالاً لينظر قلب الأم متى تحرك، قال: أقسمه بينكما، وإذا بالكبيرة تثبت، وتنفجر الصغيرة باكية وتلقي بنفسها على الغلام وتقول: لا، لا تقتله، أعطه إلى هذه، لا تقتله؛ فعلم أن هذه هي أمه، فحكم به لها.
والقصص في حُكْمِه وفيما وهبه الله -تعالى- من ذكاء، وقصص الحكمة عند غيره من الأنبياء كثيرة متوفرة، فهؤلاء الأنبياء -أيها المسلمون- لهم جلالتهم، وينبغي الاقتداء بهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
علينا أن نقتدي بهم، وأن نتعلم سيرهم، وأن ندافع عنهم، وأن نعرف لهم مكانتهم وجلالة قدرهم.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجمعنا بأنبيائه في جنات النعيم...
التعليقات