عناصر الخطبة
1/أهمية الكلمة وعظم شأنها 2/فرية حرية التعبير وحكمها في الإسلام 3/خطر التساهل في اللسان 4/وجوب قول كلمة الحق 5/جهاد الكفار والمنافقين باللسان وكيفية ذلكاقتباس
حِرْصاً مِن الشارِع الحكيمِ على نَشْرِ الخيرِ والتوجيهِ الصالح؛ لأن الخيرَ يَنتَشِرُ بالدعوةِ والكلمةِ الطيِّبة. ولِذلك صارَ سُكُوتُ اللَّسان إلا عن الخيرِ مِنْ عَلاماتِ كمالِ الإيمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". فالعبدُ مُؤَاخَذٌ بِما يقول...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-, واعلموا أن الكلمةَ في الإسلامِ لها وَزْنُها, ولها مسؤولِيَّتُها, وأن العبدَ مأمورٌ بالقولِ السديد, وحفظِ اللسان إلا عن الخير, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[الأحزاب: 70].
أي: قولوا في جميع أحوالِكم وشُؤونِكم, قولاً مستقيما, مُوافِقاً للصوَاب, وخالِياً من الكذب والباطل.
وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]؛ أي, ما يَلْفِظُ مِن قولٍ يَتَلَفَّظُ به المرء, إلا لَديه مَلَكٌ يَرْقُبُ قَوْلَه ويَكتُبُه, وهو مَلَكٌ حاضِرٌ في كُلِّ وقت.
فالعبد مُؤَاخَذٌ بما يقول في الدنيا والآخرة، وليس حُرّاً في ذلك.
وليس في الإسلام ما يُسمى بِحُرِّيَّةِ الكَلِمة, أو الرأي -أَعْنِي بِذلك: الحُرِّيَّةَ المُطْلَقَة-، وَإِنما هو مَحْكُومٌ بِنُصوصِ الشريعة, أو بِما لا يُخالِفُ الشرع.
وهذا لا يُسَمَّى إقصاءً ولا تَكْمِيماً للأفواه, كما يُسَمِّيه دعاةُ الإنفلاتِ, الذين يُطْلِقونَ لِأَلسِنَتِهِم وأقلامِهم العِنان, حَيْثُ يجعلون ذلك شَمَّاعَةً يُعَلِّقون بها ما يَقولون أو يَكْتُبون، بل هو عَيْنُ المصلحةِ والحِكمة, وحِمايَةٌ للإنسان من أخطاءِ لِسانِه, وحِمايَةٌ للناسِ من انتشارِ الباطِل، وتَلْويثِ الأَعراض.
وحِرْصاً مِن الشارِع الحكيمِ على نَشْرِ الخيرِ والتوجيهِ الصالح؛ لأن الخيرَ يَنتَشِرُ بالدعوةِ والكلمةِ الطيِّبة.
ولِذلك صارَ سُكُوتُ اللَّسان إلا عن الخيرِ مِنْ عَلاماتِ كمالِ الإيمان, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
فالعبدُ مُؤَاخَذٌ بِما يقول, قال معاذُ بنُ جبلٍ -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإنا لَمُؤاخَذون بما نَتَكَلَّمُ به؟ فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعاذ, وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وُجُوهِهِم, أو قال: على مناخِرِهِم إلا حصائدُ ألسنتِهِم".
فالعبدُ قَدْ يَخْرُج مِنَ الإسلام بِسَبَبِ كَلِمة, كما قال تعالى في الذين استهزؤوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65- 66].
وكذلكَ أَمَرَ اللهُ -تعالى- بِجَلْدِ القاذِفِ ثمانينَ جَلْدَة، وَوَصَفَهُ بالفِسْقِ، ونَهَى عن قَبُوِل شهادتِه لِزَوالِ وَصْفِ العَدالَةِ عَنْهُ بِسَبَبِ القَذْف.
وَنَهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن الغِيبَة, وهي ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَه.
وَشَدَّدَ في شأنِ النميمةِ، فقال: "لا يَدخُلُ الجنَّةَ نَمَّام".
وَمِنْ ذلك: أن يقولَ المُسلِمُ في أخيهِ المسلم ما لَيسَ فيه, فَإِنَّ ذلِك مِن أَكْبَرِ أسبابِ سَخَطِ الله.
وَكثيرٌ مِنَ المسلمين اليوم يتساهلون في رَميِ التُّهَم، وتَشْوِيهِ السُّمْعَة، جُزافاً بدون بَيِّنَة, وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال في مؤمنٍ ما لَيْسَ فيه أَسْكَنَهُ اللهَ رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قال".
وكَما أَنَّ العبدَ مَنْهِيٌّ عنِ الكلامِ المُحَرَّمِ، ومُؤاخَذٌ بِه, كذلِك هو مَأْمُورٌ بِقَوْلِ الحَقِّ الذي مِنْ أَعْظَمِهِ إِنْكارُ المُنْكَر، وبَذْلُ النصيحة, كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رأى مِنكم مُنكَراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه".
بَلِ الواجبُ على الناسِ كُلِّهِم بلا استثناء أن يَدْخُلوا في الإسلام, ولا يَصِحُّ دُخُولُهُم إلا بِالنُّطْقِ بالشهادتين أوَّلاً, ولَيْسُوا أحراراً فيما يَعْتَقِدون، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ، وَيُقِيْمُوْا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَائَهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ -تعالى-".
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون، وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين.
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا أَنَّ مِنَ الكلامِ الحَقِّ الذي يَجِبُ بَذْلُه, بَلْ وَسَمَّاهُ اللهُ جِهاداً, هو جهادَ الكفارِ والمنافقين, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[التوبة: 73].
أما جِهادُ الكفار، فَغالِباً ما يكونُ بالسيف.
وأما جِهادُ المنافقين، فَغالِباً ما يكونُ باللسانِ، وإقامةِ الحُدُود عليهِم.
هذا هو مَضْمُونُ كلامِ السَّلَفِ عن الآية.
وَمُجاهَدَةُ المنافقينَ تَكونُ مَسْؤولِيَّتُها العُظمَى على العلماءِ وَوُلاةِ الأمر؛ لأنها أَعظمُ مِن جهادِ الكفار, كما قال ذلك ابنُ القيم -رحمه الله-.
أما جهادُ العلماءِ لِلمنافقين، فيكونُ بالردِّ عليهِم, وَفَضْحِ أَمْرِهِم لِلناس, وكَشْفِ شُبَهِهِم.
وأما جِهادُ وُلاةِ الأمرِ للمنافقين، فيكون بِإِنزالِ العقوبةِ عليهم.
ولَيْسَ كُلُّ وَلِيِّ أَمْرٍ يَقومُ بِذلك, وإنما يقومُ به مَنْ حَمَلَ هَمَّ الإسلام, وَغارَ على دِينِه, وحرصَ على سلامةِ عقيدةِ المسلمينَ وأخلاقِهِم مِن الفساد، بَلْ إن هذا هوَ الفسادُ الحقيقيُّ الذي تُكَرَّسُ الجُهودُ مِنْ أجْلِ مُكافَحَتِه.
وَلَقدْ ابْتُلِيَتِ الأُمَّةُ بِمَنْ يُنادُونَ بِحُرِّيَّةِ القَلَمِ والكلمة, لِيَصُولوا ويَجُولوا بِأفكارِهم وعقائِدِهم الباطلة في ساحاتِ العلمِ دونَ رقابةٍ أو محاسبة، مُسْتَغِلِّين إِرهابَهم الفِكريَّ والجَدَليَّ المُسَمَّى بِالإِقْصاءِ، وتَكْميمِ الأفواه؛ لأنهم لم يجدوا مَنْ يُحاسِبُهُم أو يَجْعَلُهم عِبْرَةً لِغَيْرِهم, كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما سَمِع بأن صَبِيغَ بنَ عُسَيْل يُلَبِّسُ على الناس في آياتِ القرآن، ويُلْقِي الشُّبَهَ على الناس, فَضَرَبه عمر -رضي الله عنه- حتى سالَ الدمُ مِن رأسِه, ونَفاهُ إلى البصرة, وأَمَرَ أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن يَمْنَعَ الناسَ من مُجالَسَتِه, وأنْ يَحْرِمَه مِنَ العطاءِ, حتى أعلَن توبَتَه.
فَرَضِيَ اللهُ عن عُمَرَ, وعن بقيةِ الصحابة, ونَسألُ اللهَ أن يَسْلُكَ بِنا سَبيلَهم, وأن يَنصرَ بنا دينه, ويُعْلِيَ بنا كلمتَه، وأن يجعلنا هُداةً مهتدين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وجنبنا ما يسخط علينا.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، يا رب العالمين.
اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، ونجّهم من الظلمات إلى النور، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم نج إخواننا المستضعفين في سوريا، اللهم ليس لهم حول ولا قوة إلا بك، اللهم ليس لهم إلا أنت يا قوي يا عزيز فانصرهم على من ظلمهم وعاداهم، اللهم ارحم ميتهم، واشف مريضهم، واكس عاريهم، وأطعم جائعهم، وآمن روعاتهم، وثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم وتولهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك، ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين.
اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها، اللهم احفظها ممن يكيد لها، اللهم وفق حكامها وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم يا حي يا قيوم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
التعليقات