اقتباس
مما يُلاحظ على طلاب العلم أيام النَّهَم, وبدايات طلب العلم, أنهم يجدون نشوةً وحماساً في العلم, وإلقاء الكلمات, ومحبةٍ أحياناً في البروز والظهور. وقد انقسموا إلى ثلاثة أقسام.. قسم يفضِّل الخمول وعدم الظهور أبدا, ولو ..
مما يُلاحظ على طلاب العلم أيام النَّهَم, وبدايات طلب العلم, أنهم يجدون نشوةً وحماساً في العلم, وإلقاء الكلمات, ومحبةٍ أحياناً في البروز والظهور.
وقد انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم يفضِّل الخمول وعدم الظهور أبدا, ولو بإلقاء كلمات في القرى المحتاجة للعلم والدعوة, ويفضل الجلوس عند المشايخ وطلاب العلم, على حساب قراءته وجرده لكتب العلماء, ويقول بأن العلم الحقيقي عند المشايخ.
وهذا القسم قد يستأنسون بما ورد عن بعض السلف في تفضيلهم للخمول وذمهم لمحبة الذكر والشهرة.
كما ورد عن سُحنون رحمه الله أنه قال: كان بعضُ من مضى يُريد أن يتكلَّم بالكلمة, ولو تكلَّم بها لا انتفع بها خلقٌ كثير، فيحبسها، ولا يتكلَّم بها مخافةَ المباهاة.
وهؤلاء مضى عليهم سنواتٌ ربما تجاوزت الخمس عشرة سنة ولم نر لهم أثراً في مجتمعهم, فلم يكن منهم الخطيب, ولا المؤلف, ولا صاحب الدروس والمحاضرات.
كم جعلوا من الخمول جداراً منعهم نفعَ العباد, وكم جعلوا الشهرة حجةً في طلب الرقاد.
2- قسمٌ لا يرى الخمول وعدم الظهور أبدا, ويبادر بإلقاء الكلمات في كل مكان وحتى في حيه وبين مشايخه, ولا يكثر الجلوس عند المشايخ وطلاب العلم, ويفضل قراءة وجرد كتب العلماء, ويقول بأن العلم الحقيقي في الكتب.
وهؤلاء قد يستدلون بما ورد عن بعض السلف الذين لا يرون كتمان الحال, والشهرة كما قال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: ما عملتُ عملاً أبالي مَن رآه إلا أن يخلو الرجل بأهله أو يقضي حاجة غائطٍ.
فهؤلاء طار ذكرهم, واشتهر أمرهم, ولكن ما أكثر زلاتهم, وأعظم جرأتهم, وما أحبهم للثناء, وما أقربهم من الرياء.
3- قسمٌ يرى الخمول وعدم الظهور, ولا يفضل الشهرة والذكر ولا يكرهه, ويحرص على إلقاء الكلمات في القرى المحتاجة للعلم والدعوة, ولا يتجرأ على إلقائها في حيه وبين مشايخه توقيراً واحتراماً لهم, ويكثر الجلوس عند المشايخ والعلماء وطلاب العلم, لكن ليس على حساب قراءة وجرد كتب العلماء, فهو كثير الاطلاع, ملازمٌ لأهل العلم, ويقول بأن العلم الحقيقي بين الكتب العلماء.
وهؤلاء هم أهل العلم والدعوة, وهم الصادقون المخلصون -ولا يعني بأن غيرهم ليسوا كذلك-, ففيهم الخطباء البلغاء, وفيهم الدعاة الفصحاء, منهم من ألف كتبا, ومنهم من فتح دروسا, ولكنهم مع ذلك لا يحصرون على الظهور والبروز, ولا يتجرؤون على الفتوى المخالفة لما اشتهر عند العلماء.
والحق أن الشخص لا يُلام على ما يجده من محبةٍ للذكر الحسن, والشهرة في الخير ونفعِ الناس.
ففي صحيح مسلم أنه قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ: « تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ».
فأخبر أن حَمْد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا؛ فكيف لا يفرح أحدٌ ببشارةٍ معجلةٍ له الدنيا؟
وعند الإمام أحمد بإسناده صحيح على شرط مسلم بلفظ: "يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ", وهذا القيد لا بدّ منه, فلو عمل أحدٌ عملا ًللناس قاصداً الثناء فلا أجر له في ذلك, ولكنه يعمله لنفسه في الأصل, فينتشر ذكره عند الناس فيحمدونه.
قال الذهبي رحمه الله تعليقا على مقولة إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله عبدٌ أحبَّ الشُّهرة.
قال: عَلاَمَةُ المُخْلِصِ الَّذِي قَدْ يُحبُّ شُهرَةً، وَلاَ يَشعُرُ بِهَا: أَنَّهُ إِذَا عُوتِبَ فِي ذَلِكَ، لاَ يَحرَدُ وَلاَ يُبرِّئُ نَفْسَه، بَلْ يَعترِفُ، وَيَقُوْلُ: رَحِمَ اللهُ مَنْ أَهدَى إِلَيَّ عُيُوبِي، وَلاَ يَكُنْ مُعجَباً بِنَفْسِهِ؛ لاَ يَشعرُ بِعُيُوبِهَا، بَلْ لاَ يَشعرُ أَنَّهُ لاَ يَشعرُ، فَإِنَّ هَذَا دَاءٌ مُزْمِنٌ..
فحبُّ الشهرةِ قد لا يسلم منها الكثير من الناس, وهي لا تكون مذمومةً إذا كان مقصد صاحبها حسناً, وذلك بأنه لا يريد منها إلا نفعَ الناس وتبليغَ العلم النافع لهم؛ لأن الناس لا يُقْبِلون على من يجهلون.
وعلامةُ صحة مقصده: أنه يقبل النقد والعتاب, ويرجع إلى الحق والصواب, وألا يضيق صدره بقلة المتابعين له, وأن لا يُعجب بنفسه ولا بعلمه.
نسأل لنا أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل, وأن يجنبنا الإصرار على الخطأ والزلل؛ إنه سميعٌ مجيب.
التعليقات