عناصر الخطبة
1/ خطورة الاستفتاءات على ثوابت الدين 2/ واجب المسلمين تجاه الثوابت الشرعية 3/ ميزان الكثرة والقلة في شريعة الإسلام 4/ من مُقتَضَيات الإيمان تعظيم الأوامر الشرعية.
اهداف الخطبة

اقتباس

الكَثرَةُ لا تَكَادُ تُجمِعُ إِلاَّ عَلَى الضَّلالِ وَالفَسَادِ وَالإِفسَادِ، فَإِذَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ قُصُورُ العَقْلِ البَشَرِيِّ عَن إِدرَاكِ الحَقَائِقِ وَمآلاتِ الأُمُورِ، كَانَ النَّهْيُ والتَّشْدِيدُ عَنْ أَخذِ آرَاءِ النَّاسِ والاعْتَمَادُ عليهْ هُوَ عَيْنُ العَقْلِ والحِكْمَةِ والصَّوابِ. إذْ كَيفَ تُعرَضُ أَحكَامِ رَبِّ البَشَرِ عَلَى عُقُولِ البَشَرِ، فَالمُؤمِنُونَ بِلسانٍ وَاحِدٍ، وَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُرَدِّدُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحَمْدُ للهِ أَظْهَرَ الشَّرعَ وَأَحْكَامَهُ، بَعَثَ الرُّسُلَ إلى سُبلِ الحَقِّ هَادِينَ، وَأَخْلَفَهُم بِعُلَمَاءَ إلى سُنَنِ الهُدى دَاعِينَ، نَشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الحَقُّ المُبينُ، وَنَشْهَد أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ، وَعلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ الحَقِّ والعِرْفَانِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ وَإيمَانٍ.

 

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقى، وُاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَرَادَ الحَقَّ أَصَابَهُ، وَمَنْ طَلَبَ الصَّوَابَ وَجَدَهُ، وَمَن لَجَأَ إلى اللهِ صَادِقَاً وَفَّقَهُ اللهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرضَاهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (ومن يَعتَصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ) [آل عمران: 101].

 

عِبادَ اللهِ: إنِّنا مُطَالَبُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَتِنَا الغَرَّاءِ وَالعَضِّ عَليها بِالنَّواجذِ، وَحِمَايَةِ جَنَابِهَا مِنْ أنْ تُخدَشَ أو تُثلَمَ، أَو أنْ تَتَسَلَّلَ لَهَا أَيْدِي العَابِثينَ! أُولئِكَ الذينَ يُقلِّبُونَ نُصُوصَها وَثَوَابِتَهَا، وَيَتَلاعَبُونَ بِأَحْكَامِهَا وَمُسَلَّمَاتِهَا كَيفَمَا شَاءُوا، وَحَقَّاً: مَنْ عَدِمَ الهِدَايَةَ تَخَبَّطَ فِي الظُّلَمِ! وَلا عَاصِمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلَّا مَنْ رَحِمَ!

 

أيُّها المُؤمِنُونَ: بَينَ فَينَةٍ وَأُخرَى يُعْرَضُ على أُناسٍ استِفتَاءَاتٌ واسْتِبَانَاتٌ، تَضَعُهَا مُؤَسَّسَاتٌ أو أفْرَادٌ تَطْلُبُ مِنْهُمْ تَصْوِيتَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَعَلى أثَرِهَا يُصْنَعُ قَرَارٌ، أو يُلْغى قَرَارٌ! وَهَذِهِ الاستِفتَاءَاتُ والاسْتِبَانَاتُ نَوعَانِ، منْها مَا يُقبَلُ فِيها أَخذُ الرَّأيِ مِن أُمُورِ الدُّنيَا المُبَاحَةِ وَمَصَالِحِ النَّاسِ المُرسَلَةِ، فَهَذِهِ لا بَأسَ بِها فَكُلُّ مُؤسَّسَةٍ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاها. وَلَكِنْ لَمَّا تَكُونُ الاستِفتَاءَاتُ والاسْتِبَانَاتُ في قَضَايَا شَرعِيَّةٍ، وَأَحْكَامٍ دِينِيَّةٍ فَهَذِهِ طَامَّةٌ كُبْرى!

 

وَلَعَلِّي يَا كِرَامُ أَضَعُ النِّقَاطَ على الحُرُوفِ وبِالمِثَالِ يَتَّضِحُ الحُكْمُ وَالمَقَالُ: فَلو أنَّ اسْتِفْتَاءً نُشِرَ بَيْنَ النَّاسِ عَنْ بِدَايَةِ وَقْتِ العَمَلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَنِهَايَتِهِ وَطُلِبَ مِن النَّاسِ التَّصْوِيتُ على الخَيَارَاتِ المَطْرُوحَةِ، لَمَا قَالَ أَحْدٌ أنَّ هذا الاسْتِفْتَاءَ حَرَامٌ!

 

وَلَو أَنَّ اسْتِفْتَاءً نُشِرَ بَيْنَ النَّاسِ عَنْ رَأيِهمْ فِي إقَامَةِ الحَفَلاتِ الغِنَائِيَّةِ، أو دُخُولِ النِّسَاءِ لِلمَلاعِبِ الرِّياضِيَّةِ، أو قِيَادَةِ النِّسَاءِ للسَّيَّارَاتِ، أو السَّمَاحِ لإقَامَةِ مَعَابِدَ لِغَيرِ المُسْلِمينَ في البِلادِ الإسْلامِيَّةِ، أو المُطَالَبَةِ بِنَزْعِ الوِلايَةِ عن الرِّجَالِ! أو بِتَزْوِيجِ المَرْأةِ نَفْسَهَا، أو سَفَرِها بِدُونِ مَحْرَمٍ لَهَا. فَهَلْ مِثْلُ هذِهِ الاسْتِفْتَاءَاتِ مَقْبُولَةٌ شَرْعَاً؟ وَتُغَيِّرُ مِنْ أحْكَامِ اللهِ شَيئَا؟

 

أيُّها المُؤمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ: أَطْرَحُ هَذا لأنَّنا بِتْنَا نَسْمَعُ أنَّ كَثِيراً مِنْ المُنْكَراتِ صَارَتْ تَمُرُّ على النَّاسِ، بَلْ وَتُمَرَّرُ عَلِيهِمْ بِاسْمِ رَغْبَةِ النَّاسِ! وَحَاجَةِ المُجْتَمَعِ! حتَّى يَكَادُ أنْ يَكُونَ النَّاصِحُ والآمِرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّاهِي عَنْ المُنْكَرِ بَيْنَ النَّاسِ غَرِيبَاً!

 

عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لِلهِ وَلِشَرْعِهِ لَيسَ لَنا إلَّا أنْ نَقُولَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].

 

أَمَّا أُسلُوبُ الاستِفتَاءِ المَفتُوحِ فَلَيسَ هُوَ مِمَّا يُعرَفُ بِهِ الحَقُّ مِن البَاطِلِ، بَل يَا مُؤُمِنُونَ: لا أُفْشِيكُمْ سِرَّاً أنَّ هَذا الأُسْلُوبَ مِمَّا يَستَنِدُ إِلَيهِ أَهلُ البَاطِلِ غَالِبًا في القَدِيمِ وَالحَدِيثِ، وَيَعتَمِدُونَ عَلَيهِ في دَعمِ بَاطِلِهِم وَتَسوِيغِ ضَلالِهِم؛ فَاللهُ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ وَأصْدَقُ القَائِلِينَ أخْبَرَنَا في كِتَابِهِ المُبِينِ أنَّ رْغْبةَ الجُمهُورِ وَعَامَّةَ النَّاسِ أنَّهُم لا يُجمِعُونَ عَلَى الحَقِّ وَلا يَتَّفقون عَلَى اتِّبَاعِهِ، بَل هُمْ فِي الغَالِبِ مُنحَرِفُونَ مَائِلُونَ؛ لأَنَّ الحَقِّ لا يُوَافِقُ شَهَوَاتِهِم وَلا يُحَقِّقُ رَغَبَاتِهِم، قَالَ سُبحَانَهُ: (وَإِن تُطِعْ أَكثَرَ مَن في الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ) [الأنعام: 116]، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ) [يوسف: 103].

 

هَذِهِ هِيَ حَالُ الكَثرَةِ الكَاثِرَةِ وَهَذَا هُوَ اتِّجَاهُهَا، كُفرٌ وَإِبَاءٌ وَعَدَمُ إِيمَانٍ، وَضَلالٌ وَعَنَتٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَسَادٌ، وَخَرْصٌ وَاتِّبَاعٌ لِلظَّنِّ بِلا عِلمٍ. أَتَدْرُونَ؟ اسْتَمِعُوا يا رَعَاكُمُ اللهُ: إلى كَلامِ الإمَامِ الفَقِيهِ، المُفَسِّرِ الكَبِيرِ الشَّيخِ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فَهُوَ يَقُولُ: "يُحَذِّرُ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدَاً -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَنْ طَاعَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ انَحَرَفُوا فِي أَدْيَانِهِم وَأَعْمَالِهِمِ، وَعُلُومِهِمْ. فَأَدْيَانُهُم فَاسِدَةٌ، وَأَعْمَالُهُم تَبَعٌ لِأَهْوَائِهِمْ، وَعُلُومُهُم لَيسَ فِيهَا إِيصَالٌ لِسَوَاءِ الطَّرِيقِ! بَلْ غَايَتُهُم أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، الَّذِي لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيئَاً، وَيَتَخَّرَصُونَ فِي القَولِ عَلى اللهِ مَا لا يَعْلَمُونَ، وَالآيَةُ دَلَّتْ عَلى أَنَهُ لا يُسْتَدَلُّ عَلى الحَقِّ، بِكَثْرَةِ أَهْلِهِ، وَلا يَدُلُّ قِلَّةُ السَّالِكِينَ لِأَمْرٍ مِن الأُمُورِ أَنْ يَكُونُوا على غَيرِ الحَقِّ، فَإِنَّ أَهْلَ الحَقِّ هُمُ الأَقَلُّونَ عَدَدَاً، الأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرَاً وَأَجْرَاً". انتهى كَلامُهُ.

 

إي واللهِ لَقَدْ صَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ: فَالقِلَّةُ جَاءَت في مَوَاضِعَ مِن كِتَابِ اللهِ في مَعرِضِ المَدحِ وَبَيَانِ سَلامَةِ مَنهَجِ أَصحَابِهَا، قَالَ تَعَالى عنْ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)[هود: 40]، وَقَالَ جَلَّ شَأنُهُ: (وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ)[سبأ: 13].

 

أَرَأَيتُم عِبَادَ اللهِ: لَقَد ذُكِرَتِ القِلَّةُ فِي مَوَاطِنِ النَّقَاءِ وَالعَدلِ، وَالجُودِ بِالنَّفْسِ في مَيَادِينِ الجِهَادِ، وَعِنْدَ البَذلِ وَالعَطَاءِ، وَعِنْدَ النَّهيِ عَنِ الفَسَادِ.

 

إذَاً يا مُسْلِمُونَ: الكَثرَةُ لا تَكَادُ تُجمِعُ إِلاَّ عَلَى الضَّلالِ وَالفَسَادِ وَالإِفسَادِ، فَإِذَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ قُصُورُ العَقْلِ البَشَرِيِّ عَن إِدرَاكِ الحَقَائِقِ وَمآلاتِ الأُمُورِ، كَانَ النَّهْيُ والتَّشْدِيدُ عَنْ أَخذِ آرَاءِ النَّاسِ والاعْتَمَادُ عليهْ هُوَ عَيْنُ العَقْلِ والحِكْمَةِ والصَّوابِ. إذْ كَيفَ تُعرَضُ أَحكَامِ رَبِّ البَشَرِ عَلَى عُقُولِ البَشَرِ، فَالمُؤمِنُونَ بِلسانٍ وَاحِدٍ، وَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُرَدِّدُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

 

لَقَدْ صَدَقَ المُصْطَفى -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». فاللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنتَ خَيرُ مَن زَكَّاهَا، أَنتَ وَلِيُّهَا وَمَولاهَا.

 

أقُولُ مَا سَمِعتُمْ وأستَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ وَلِلمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ فاستَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ لِلهِ، رَفَعَ شَأْنَ العِلْمِ وَالعُلَمَاءِ فَقَالَ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)؛ نَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ شَهَادَةَ صِدْقٍ وَيَقِينٍ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، القَائِلُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرَاً يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ"، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ وَإيمَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعدُ: فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوى، وَأَطِيعُوا الرَّبَّ وَالمَولَى. أَيُّها المُسْلِمُونَ: إنَّ هُنَاكَ أَدْعِيَاءَ عَلى العِلْمِ وَأهْلِهِ، نَصَّبوا أَنْفُسَهم مُفْتِينَ، وَنَاصِحِينَ، وَمُصْلِحِينَ، أَسُفُنَا عَليهِمْ أنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلْمٍ، هَذا الجِنْسُ ضَرَرُهُ عَظِيمٌ، وَبَلِيَّةٌ اُبْتُلِينَا بِها حَذَّرَنَا رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنهُمْ فَقَالَ: "إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ".

 

عِبَادَ اللهِ: وَكَثِيرٌ مِنْ الاستِفتَاءَاتِ والاسْتِبَانَاتِ فِي زَمَنِنَالا يُقْصَدُ مِنْهَا خَيرَاً بَلْ تَبَيَّنَ أنَّ بَعْضَهَا اسْتِفْزَازٌ لِمَشَاعِرِ المُسْلِمينَ والغَيُورِينَ! وإلَّا فَإنَّ نَبِيَّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- تَرَكَنَا على مَحَجَّةِ بَيضَاءَ لا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا أَهْلُ الضَّلالِ والأهْواءِ وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ اثْنَتَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي».

 

 ألمْ يَكُنْ رَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يُرَدِّدُ فِي خُطَبِهِ: «إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا»؟ فَلِمَ الافْتِيَاتُ على دِينِ اللهِ تَعَالَى وَمُحَاوَلَةُ تَضْلِيلِ النَّاسِ إذَاً؟ فَكَيفَ يُسمَحُ لِمَخلُوقٍ ضَعِيفٍ، أَنْ يَسأَلَ العَامَّةَ: مَا رَأيُكُم فِي فِعْلِ هَذَا أوَتَركِ ذَاكَ؟!

 

ألا يَعْلَمُونَ أنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ مَعَ دِينٍ لَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلافًا كَثِيرًا؟! إنَّ مَرَدَّ أُمُورِنَا إلى شَرْعِ اللهِ تَعَالى لا هَوى فُلانٍ، أو رَغْبَةِ فُلانٍ. يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ)[النساء: 59]. وَيَقُولُ لَنا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (اِتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)[الأعراف: 3].

 

أَلا فلْنَتِّقِ اللهَ يا مُسلِمُونَ: وَلا نَغتَرَّ بِعُقُولٍ قَدْ تَكُونُ نَالَتْ تَقَدُّمًا في دُنيَاهَا، فَنُحَكِّمَهَا فَي مَا لَيسَ مِن شَأنِهَا، فَقَد قَالَ العَلِيمُ الخَبِيرُ: (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ * يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ) [الروم: 4- 5]!

 

وَالوَاجِبُ أَنْ نَسْتَدِلَّ عَلَى الحَقِّ وَالبَاطِلِ، بِالطُّرُقِ المُوصِلَةِ إلَيهِ كَمَا وَجَّهَنَا رَبُّنا فَقَالَ: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)[النحل: 43]، وَقَالَ تَعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم)[النساء: 59]. فَالحَقُّ هُوَ ضَالَّتُنا، وَرِضَا اللهِ غَايَتُنَا. قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "الجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الحَقَّ؛ وَلَو كُنْتَ وَحْدَكَ".

 

وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ- رَحِمَهُ اللهُ-: "اعْلَمْ أنَّ الإجْمَاعَ وَالحُجَّةَ وَالسَّوَادَ الأَعْظَمَ هُوَ العَالِمُ صَاحِبُ الحَقِّ وَإنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإنْ خَالَفَهُ أَهْلُ الأَرْضِ، فَإذَا ظَفِرْتَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أُولِي العِلْمِ طَالِبٍ لِلدَّلِيلِ مُحَكِّمٍ لَهُ، مُتَّبِعٍ لِلحَقِّ حَيثُ كَانَ وَأَينَ كَانَ، وَمَعَ مَنْ كَانَ زَالَتِ الوَحْشَةُ وَحَصَلَتِ الأُلْفَةُ".

 

 نَقُولُ هذا الكَلامَ يا رَعَاكُمُ اللهُ: لأنَّنا نَخْشى أنَّهُ إذا كَثُرَ الإمْسَاسُ، وَقَلَّ الآمِرُ والنَّاهِي لا قَدَّرَ اللهُ تَعَالى أنْ نَأنَسَ المُنْكَرَاتِ! وَتَقِلَّ غَيْرَتُنَا على مَحَارِمِ اللهِ تَعَالى فَيَقعُ الهَلاكُ ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ تَعالى. فَلنَكُنَ مِن المُتَعَاوِنينَ على البِرِّ والتَّقْوَى، المُتَنَاهِينَ عَنْ الإثْمِ والعُدْوانِ.

 

فَاتَّقُوا اللهَ يَا مُؤمِنُونَ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَأَسلِمُوا لَهُ وَسَلِّمُوا لأَمرِهِ وَلا تُخَالِفُوا، فَإِنَّا أُمِرنَا بِاتِّبَاعِ مَا أُنزِلَ عَلَى رَسُولِنَا الكَرِيمِ، وبِالرُّجُوعِ إِلى أَهلِ العِلمِ المَوثُوقِينَ، لا إِلى استِفتَاءِ النَّاسِ وَتَلَقِّي آرَاءِهِمْ. فَنَحْنُ بِحَمْدِ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَعُلَمَاءَ عِنَدنا مُفْتِينَ مُعْتَبَرِينَ، وَهَيئَةٍ لِكِبَارِ عُلَمَاءِ المُسْلِمينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَ العِلمَ مِنْ الوحَيَينِ. فَدَعُوا قَالَةَ السُّوءِ، وَمُدَّعُوا الإصْلاحِ، والْزَمُوا غَرْزَ عُلَمَائِكُمْ تُفْلِحُوا بِإذْنِ اللهِ تَعَالى.

 

رَدِّدُوا: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ، عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ. اِهدِنَا لِمَا اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِكَ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ. الَّلهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشدٍ يُعزُّ فِيهِ أَهْلُ الطَّاعةِ ويُذلُّ فيه أهلُ المعصيةِ ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا ربَّ العالمين.

 

اللهم أرنا الحقَّ حقاً وارزقنا إتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى واجعلهم هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا ربَّ العالمين.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. عباد الله أذكروا الله العظيمَ يذكركم واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

 

 

المرفقات
أفغير دين الله يبغون.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life