عناصر الخطبة
1/من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره 2/أربع من عملِ الأحياء يجري للأموات 3/حفر قبر لميت مسلم 4/الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر 5/عبادة في أيام الصبر 6/الصبر على الطاعون.اقتباس
يا ربح من قدم من ماله بين يديه فجعله نفعًا مستمراً للعباد؛ كأن أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو بنى مسجدا، أو مركز علم نافع، أو داراً لليتيم والأرملة والمسكين، أو شرى مصاحف أو طبع كتبًا نافعة ووزعها، فأجرها يصل إلى قبره ما بقي خيره بين عباد الله!
الخطبة الاولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71].أما بعد:
أيها المسلمون: إن هناك تجارة رابحة آتية بالجهد اليسير، الذي يؤول إلى الربح الوفير، وهي معروضة للمتنافسين، وكافية لكل المتقدمين، من دخل فيها ربح بلا خسران، ونال ما وعِد بلا حرمان، فأين التجار الحريصون، وأين الراغبون المحبون؟
إنها تجارة ليس لطلبها رأس مالي، ولا للفوز فيها خبرة ولا ذكاء تجاري، وإنما لطلبها حرص إيماني، وللفوز فيها يقين بالموعود النبوي.
هذه التجارة ميدانها الأعمال وليس الأموال، ويتاجر فيها صلحاء المخلوقين مع رب العالمين، ليأخذوا ربح تجارتهم منه سبحانه يوم لقائه الذي يرجون فيه: (تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:29-30].
عباد الله: إن هذه التجارة هي تجارة الأجور الكثيرة، على أعمال يسيرة، في أبواب صالحة عديدة؛ في العلم والهدى، والصلاة والصدقة، والصلاح والصبر، وغير ذلك.
وأرباح هذه التجارة منها ما لا يعلم قدر ربحه إلا الله، ومنها ما يكون مقدراً بأجرين، أو خمسين أجراً، ومنها ما يكون مقدراً بأجر عمل صالح كبير لا يكون أهله إلا قلة من الناس.
فتعالوا اليوم-معشر المسلمين- إلى التعرف على هذه الأعمال الصالحة وأجرِها الكبير؛ حتى نحث أنفسنا على هذه التجارة الرابحة وحياتُنا مازالت في فرصة الإمهال، وأعضاؤنا مادامت قادرة على الأعمال، وتلك نعمة لا يشكرها إلا أولو الألباب.
أيها المؤمنون: من الأعمال اليسيرة التي بها أجور كبيرة: أن يبتدئ المسلم بعمل خير له أصل في الشرع فيدعو لفعله بقول أو فعل أو إعانة عليه، أو فعلَه فيعمله الناس اقتداءً به؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن خيراً فَاسْتُنَّ به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استن به لا ينقص من أجورهم شيئا"(رواه أحمد).
وقال عليه الصلاة والسلام: "من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره، ومثلُ أجورِ من اتبعه غيرَ منقوص من أجورهم شيئا"(رواه الترمذي).
ومن الأمثلة على هذا: أن قومًا وفدوا على النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- والحاجةُ عليهم بادية، فحث على الصدقة عليهم، فابتدأ رجل من الأنصار بالصدقة فجاء بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها، فتتابع الناس بعده، فعند ذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(رواه مسلم).
وجاء رجل إلى رسول الله يطلب منه راحلة ليجاهد عليها؛ لكون راحلته قد هلكت، فلم يجد عنده، فدله رجل على من يعطيه راحلة، فعند ذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"(رواه مسلم).
ألا فانظروا -يا عباد الله- يمنة ويسرة فاعملوا أو ادعوا أو دلوا إلى أعمال صالحة يتأسى الناس بكم فيها؛ لتنالوا الأجر الكبير الذي قد لا ينقطع، فإن لم تجدوا فاعملوا ذلك بين أهليكم وأولادكم، ليستنوا بكم في حياتكم وبعد مماتكم.
ومن الأعمال اليسيرة التي بها أجور كبيرة: العلم النافع الذي يُعمل به من بعد معلِّمه، والصدقة الجارية، وترك ولد صالح، والمرابطة في سبيل الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من عملِ الأحياء يجري للأموات: رجل ترك عقبًا صالحًا فيدعو, فيبلغه دعاؤهم, ورجل تصدق بصدقة جارية, له أجرها من بعده ما جرت, ورجل علم علماً, فعمل به من بعده, فله مثل أجر من عمل به, من غير أن ينتقص من أجر من عمل به شيء، ورجل مرابط يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إلى يوم الحساب"(رواه أحمد، والطبراني).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(رواه مسلم).
فيا سعادة من ربى أولاده على التقوى والصلاح فكانوا بعده كذلك؛ فإن صلاحهم لن ينسيهم فضل أبيهم عليهم؛ فلذلك لن يَنسَوه من دعائهم بعد موته، ومن رأى استقامتهم دعا لأبيهم حين خلّف بعده هذه الذرية الصالحة.
وما يقال في الأب يقال في الأم الحريصة على استقامة أولادها، وتربيتهم التربية الصالحة. ألا فصِلوا أجوركم من حياتكم إلى ما بعد وفاتكم بإصلاح أولادكم.
ويا ربح من قدم من ماله بين يديه فجعله نفعًا مستمراً للعباد؛ كأن أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو بنى مسجدا، أو مركز علم نافع، أو داراً لليتيم والأرملة والمسكين، أو شرى مصاحف أو طبع كتبًا نافعة ووزعها، فأجرها يصل إلى قبره ما بقي خيره بين عباد الله.
ويا فلاح من علم علمًا نافعًا فأودعه في كتاب جيد باقٍ بعد موته، أو جعله في أسماع الناس فحملوه من بعده فتقربوا إلى الله بسببه، فكم من الأجور التي تصل إليه على الأعمال الصالحة التي يعملها من استفاد من علمه! وكم ندعو اليوم لعلمائنا السابقين بالمغفرة كلما مر بنا أثر من آثارهم العلمية وقد فارقوا الحياة منذ قرون، ومازالت دعوات الناس بالرحمة تبلغهم.
وما مات من يُهدى الأنامُ بعلمِهِ *** ولو صارَ في الرَّمْسِ البعيدِ قُرونا
وكيف يموتُ المرءُ والأجرُ سائرٌ *** ويبقى لسانُ الصدقِ فيه هَتونا.
وأما الرابع في الحديث الأول الذي يجري له أجره بعد موته فهو: الذي مات مرابطًا في سبيل الله على ثغر من ثغور الإسلام، إذا قصد بذلك حراسة الدين ونصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله -تعالى-، وإلا لم يحصل له الثواب الموعود.
وفي فضل هذا العمل قال عليه الصلاة والسلام أيضًا: "كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويُؤمن من فتان القبر"(رواه أبو داود والترمذي).
أيها الإخوة الفضلاء: ومن الأعمال اليسيرة التي بها أجور كبيرة: حفر قبر لميت مسلم، أو شراؤه له، أو استئجار من يحفره له؛ فإن هذا العمل قلما ينتبه له الناس مع أن ثوابه عظيم؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفر لميت قبراً فأجنّه فيه؛ أجرى الله له من الأجر كأجرِ مسكنٍ أسكنه إلى يوم القيامة"(رواه البيهقي والحاكم).
فيا له من أجر جزيل! فأين أهل الدثور، الراغبون في الأجور؟ وأين أين من يحفر قبوراً ليجعلها لأموات المسلمين يبتغي بذلك وجه الله -تعالى-؟
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون: يا من ترغبون في الثواب، وتحبون جوائز الملِك الوهاب؛ لا تنسوا أن الطاعم مما أحل الله، الشاكرَ لله على ذلك ينزّل منزل الصائم الصابر في الأجر، فهل شكرنا الله بقلوبنا وألسنتنا عندما نتمتع بما أحل لنا الله من الطعام والشراب؟
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر"(رواه أحمد والترمذي).
قال بعض العلماء: "إن الشاكر لما رأى النعمة من الله وحبس نفسه على محبة المنعم بالقلب، وإظهارها باللسان؛ نال درجة الصابر، فالتشبيه واقع في حبس النفس بالمحبة"(فيض القدير).
وقال بعض أهل العلم: " شكر الطاعم الذي يقوم بإزاء أجر الصائم الصابر هو: أن يطعم المسلم، ثم لا يعصي باريه، ويتم شكره بإتيان طاعاته بجوارحه؛ لأن الصائم قُرن به الصبر لصبره عن المحظورات، وكذلك قُرن بالطاعم الشكر، فيجب أن يكون هذا الشكر الذي يقوم بإزاء ذلك الصبر يقاربه أو يشاكله، وهو ترك المحظورات على ما ذكرناه"(صحيح ابن حبان (2/ 18).
أيها الإخوة الكرام: إن الصبر على قدر الله وعلى طاعته من الأعمال التي تنال بها الأجور الكثيرة، ومن مواطنه في ذلك: الصبر في أيام الفتن على الأعمال الصالحة التي يشق عملها فيها بسبب خوف، أو حرب، أو قلة، أو انشغال بال، أو انصراف كبير إلى الدنيا، أو غير ذلك من الفتن التي تصرف الناس عن الدين؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنَّ من ورائِكم أيامَ الصبر، الصبرُ فيه مثلُ قبضٍ على الجَمْر، للعامل فيهم مثلُ أجر خمسينَ رجلاً يعملون مثلَ عمله" قيل: يا رسول الله: أجرُ خمسين منهم؟ قال: "أجرُ خمسين منكم"(رواه أبو داود).
ومن مواطن الصبر التي تنال فيه الأجور: الصبر على البقاء في بلد الطاعون؛ قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له؛ إلا كان له مثل أجر شهيد"(رواه البخاري).
فيا أيها الناس: سابقوا إلى هذه الأعمال اليسيرة؛ فإن وراءها أجوراً كبيرة، وازرعوا اليوم كي تحصدوا غداً أجراً باقيا، وتنالوا ثوابًا وافيا:
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ *** وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
إِنْ أَحْسَنُوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساؤوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا
نسأل الله لنا ولكم توفيقًا لا يصحبه خذلان، وربحًا لا يلحقه خسران.
هذا وصلوا على النبي المصطفى...
التعليقات