عناصر الخطبة
1/ أحوال الناس عند نزول الموت 2/ أهمية حسن الظَّن بِالله تَعَالَى عِنْد الْمَوْت 3/ أحوال السلف الصالح عند الاحتضار 4/ تلقين الميت لا إله إلا الله 5/ شدة الموت وسكراته كفارة لكل مسلم 6/ موت الفجأةاقتباس
ولا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من التيقظ، فاحضروا أمواتكم ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشّروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، نسأل الله السلامة والعافية...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ غافِرِ الذُّنوبِ، وقابلِ التَوْبِ وساترِ العُيوبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكُروبِ، سبحانَهُ وبحمدِهِ، يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له السَّميعُ البصيرُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النَّذيرُ؛ والسِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ.
أما بعدُ: فأُوصيكمْ -عبادَ اللهِ- تعَالى بالتَّقوى الَّتي بها تنتفعُون، فاتَّقوا اللهَ (ولْتنظُرْ نَفسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما تَعْملَونَ * ولا تكُونوا كالذِينَ نَسُوا اللهَ فأَنْساهُمْ أَنْفُسَهم أُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر:18-19].
فاتقوا الله -معشر المؤمنين- فتقوى الله خير زاد يلحقكم بركب الصالحين، ويجعل لكم لسان صدق في الآخرين.
عباد الله: يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام -يرحمك الله- فقال: "يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه".
أيها الإخوة: إن مشاهدة المحتضرين والنظر إلى شدة الموت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب، فينبغي لمن قسا قلبه، وكثر ذنبه، أن يستعين فيتذكر ذلك ويتأمله ويتفكر في هجوم الموت عليه، لعله يتوب ويحسن الاستعداد للقدوم على الله.
أخي الكريم: اعْلَم -رَحمني الله وإياك- أن أحوال الناس عند نزول الموت بهم تختلف وتتنوع، تبعًا لسيرتهم في الحياة الدنيا، فمنهم المكروب ومنهم المسرور، نسأل الله أن يحسن لنا الختام أجمعين.
وإن المحبوب من حَال الْمَيِّت عِنْد الْمَوْت، أَن يعلوه الهدوء والسكون من قلبه وحسن الظَّن بِالله تَعَالَى، وَمن لِسَانه الْكَلِمَة بِالشَّهَادَتَيْنِ، جاء من حَدِيث بُرَيْدَة بن حصيب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَنه قَالَ: "الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين" [الترمذي (982) وصححه الألباني]، وَأما انطلاق لِسَانه بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَهُوَ عَلامَة الْخَيْر، وَدَلِيل السَّعَادَة، وأمارة قرب نفسه من الله تعالى.
واعلم عبدَالله -رحمني الله وإياك- أن حسن الظَّن بِالله تَعَالَى عِنْد الْمَوْت وَاجِب؛ فعن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل وفاته بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -عز وجل-" [مسلم:2877].
فإذا نزل بالعبد الموت؛ فليحسن الظن بربه، دخل النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- على شَاب وَهُوَ فِي سياق الْمَوْت، فَقَالَ لَهُ: "كَيفَ تجدك؟" قَالَ: والله يا رسول الله: إني أَرْجُو الله، وإني أخاف ذُنُوبِي، فَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَام-: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قلب عبد فِي مثل هَذَا الموطن، إِلَّا أعطَاهُ الله مَا يَرْجُو، وأمنه مما يخَاف" [ الترمذي (983) وصححه الألباني].
إحسان العبد ظنه بربه وتغليبه على الخوف منه هو المشروع عند الموت، فقد ثبت من حديث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع أنه دخل على رجل فَوَجَدَهُ فِي الْمَوْت، فَقَالَ: أخبرني كَيفَ ظَنك بِالله تَعَالَى؟ فَقَالَ الرجل: "أغرقتني ذُنُوبِي، وأشرفت بِي على الهلكة، وَلَكِن أَرْجُو رَحْمَة الله تَعَالَى". فَكبر وَاثِلَة وَكبر أهل الْبَيْت لتكبيره، وَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يَقُول: "قَالَ الله تَعَالَى: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، فليظن بِي مَا شَاءَ" [البخاري (7505)، ومسلم (2675)].
وعن عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه-، كان إذا تلا: (وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ الله مَنْ يَمُوتُ) [النحل: 38]، قال: ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة؟! ثم بكى أبو حفص بكاء شديداً، ونحن ربنا نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت.
ولما مرض معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مَرَض وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: "أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر".
وعن كثير بن زيد قال: كَبُر حكيم بن حزام -رضي الله عنه- حتى ذهب بصره، ثم اشتكى فاشتد وجعه، فقلت لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به، فإذا هو يهمهم ويقول: "لا إله إلا الله، أحبك وأخشاك"، حتى مات.
وأكد على هذا المعاني وأهمية إحسان الظن بالله تعالى ما نُقل عن الصحابة، والتابعين فعن ابن عمر قال: "عمود الدين، وغاية مجده، وذروة سنامه: حسن الظن بالله، فمن مات منكم وهو يحسن الظن بالله: دخل الجنة مدلاً" أي: منبسطاً لا خوف عليه.
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود: "وَالَّذِي لَا إِلَه غَيره، لَا يحسن أحدكُم الظَّن بِالله، إِلَّا أعطَاهُ الله ظَنّه، وَذَلِكَ أَن الْخَيْر بِيَدِهِ". وَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس: "إِذا رَأَيْتُمْ الرجل قد نزل بِهِ الْمَوْت، فبشِّروه حَتَّى يلقى ربه وَهُوَ حسن الظَّن بِالله تَعَالَى، وَإِذا كَانَ حَيًّا، فخوفوه بربه، واذْكُرُوا لَهُ شدَّة عِقَابه".
وَقَالَ الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان: قَالَ لي أبي عِنْد مَوته: "يَا مُعْتَمر: حَدثنِي بالرُّخَص؛ لعَلِّي أَن ألْقى الله تَعَالَى وَأَنا حسن الظَّن بِهِ". وَقَالَ الفضيل بن عِيَاض: "مَا دمت حَيًّا، فَلَا يكن شَيْء عنْدك أخوف من الله -عز وَجل-، وَإِذا نزل بك الْمَوْت، فَلَا يكن عنْدك شَيْء أَرْجَى من الله -عز وَجل-".
لقد كان سلف الأمة يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت؛ حتى يحسن ظنه بربه -عز وجل-. وَرَأى بعض الصَّالِحين الْحسن بن هَانِي بعد مَوته فِي النّوم، فَقَالَ لَهُ: مَا فعل الله بك؟ قَالَ: غفر لي، قَالَ بِمَاذَا: قَالَ: بأَرْبعَة أَبْيَات قلتهن فِي طي فِرَاشِي، فَمشى الرجل إِلَى دَار الْحسن، فالتمسها فَوَجَدَهَا وَهِي:
يَا رب إِن عظمت ذُنُوبِي كَثْرَة *** فَلَقَد علمت بِأَن عفوك أعظم
أَدْعُوك رب كَمَا أمرت تضرعا *** فَإِذا رددت يَدي فَمن ذَا يرحم
إِن كَانَ لَا يرجوك إِلَّا محسن *** فَمن الَّذِي يَرْجُو الْمُسِيء المجرم
مَالِي إِلَيْك وَسِيلَة إِلَّا الرجا *** وَجَمِيل ظَنِّي ثمَّ أَنِّي مُسلم
وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ: كَانَ شَاب بِهِ حِدة، وَكَانَت أمه تعظه وَتقول لَهُ: "يَا بني: إِن لَك يَوْمًا فاذكر يَوْمك، وَإِن لَك مصرعًا فاذكر مصرعك"، فَلَمَّا نزل بِهِ أَمر الله تَعَالَى، أكبّت عَلَيْهِ أمه، فَجعلت تَقول: "أَي بني: قد كنت أحذرك مصرعك هَذَا"، فَقَالَ لَهَا: "يَا أُمَّهْ: إِن لي رَبًّا كثير الْمَعْرُوف، وَإِنِّي لأرجو أَن لَا يُعَذِّبنِي بكرمه وَرَحمته"، قَالَ ثَابت: فرحمه الله يحسن ظَنّه بربه.
وَقَالَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ -رَحمَه الله-: "كَانَ فِي جواري شَاب مُسْرِف على نَفسه، كثير الْخَطَايَا، فَمَرض، فَدخلت عَلَيْهِ أعوده، فَإِذا هُوَ قد مَاتَ، وَأوصى أَن يكْتب على قَبره شَيْء، فرأيته فِي مَنَامِي، فَقلت لَهُ: مَا فعل الله بك؟ قَالَ: غفر لي، فَقلت: بِمَاذَا؟، قَالَ: فَكرت فِي جُرْمِي وَفِي عَفوه، فَرَأَيْت عَفوه أَكثر من جُرْمِي"، قَالَ ذُو النُّون: فَلَمَّا أَصبَحت جِئْت إِلَى قَبره، فَإِذا عَلَيْهِ مَكْتُوب:
حسن ظَنِّي بك يَا *** رب جرأني عَلَيْك
فَارْحَمْ اللهمَّ عبدا *** صَار رهنا فِي يَديك
ويروى عَن بعض الصَّالِحين قَالَ: قَالَ مَالك بن دِينَار: "رَأَيْت مُسلم بن يسَار فِي النّوم بعد مَوته بِسنة، فَسلمت عَلَيْهِ، فَلم يرد عَليّ السَّلَام، فَقلت لَهُ: لم لَا ترد عَليّ السَّلَام، قَالَ: وَكَيف أرد عَلَيْك وَأَنا ميت، فَقلت لَهُ: وماذا لقِيت بعد الْمَوْت؟ قَالَ: ودمعت عينا مَالَك عِنْد هَذَا القَوْل، لقِيت أهوالاً وزلازل، وعظائم وشدائد، قَالَ مَالك: فَقلت لَهُ: فَمَا كَانَ بعد ذَلِك؟ قَالَ: وَمَا ترَاهُ يكون من الْكَرِيم إِلَّا الْكَرم! قبل منا الْحَسَنَات، وَغفر لنا السَّيِّئَات، وَضمن عَنَّا التَّبعَات، كَمَا كَانَ حسن ظَنِّي بِهِ"، قَالَ: ثمَّ شهق مَالَك شهقته، خر مغشيًّا عَلَيْهِ، فَلبث فِي غَشيته أَيَّامًا مَرِيضًا، ثمَّ مَاتَ من مَرضه ذَلِك، وَكَانَ يُقَال: إِن قلبه انصدع، وَلَوْلَا حسن الظَّن بِالله تَعَالَى، لهلك الْخلق.
وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زيد: "وَمَا كَانَ سَبَب موت مَالك بن دِينَار إِلَّا هَذِه الرُّؤْيَا، سَأَلته عَنْهَا، فَقَصَّهَا عَليّ، فَجعل يشهق ويضطرب، حَتَّى ظَنَنْت أَن كبده تقطعت فِي جَوْفه، ثمَّ هدأ، فحملناه إِلَى منزله، فَلم يزل مَرِيضا مِنْهَا يُعَاد حَتَّى مَاتَ".
وعن سُهَيْل أَخُو حَازِم قَالَ: "رَأَيْت مَالك بن دِينَار فِي النّوم بعد مَوته بِسنة، فَقلت لَهُ: يَا أَبَا يحيى مَاذَا فعل الله بك؟ وماذا قدمت بِهِ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: قدمت عَلَيْهِ بذنوب كَثِيرَة، فمحاها حسن ظَنِّي بِهِ -تبَارك وَتَعَالَى-". وَقَالَ عمار بن سيف: "رَأَيْت الْحسن بن صَالح فِي مَنَامِي بعد مَوته، فَقلت لَهُ: لقد كنت متمنيًّا للقائك، فَمَاذَا عنْدك أخبرنَا؟ فَقَالَ: لم أر شَيْئا مثل حسن الظَّن بِهِ -تبَارك وَتَعَالَى-".
وأنشدوا:
أحسن الظَّن مَا اسْتَطَعْت بِرَبِّك *** فالأماني جمعن فِي حسن ظَنك
وَإِذا مَا أصبت يَوْمًا بضر *** فإليه اللجا فِي كشف ضرك
وَإِذا مَا انتحاك أَمر عسير *** فَهُوَ المرتجى لتيسير أَمرك
وذنوب خبأتهن قَدِيما *** وحديثا كسرت عظم ظهرك
تب إِلَيْهِ والجأ مِنْهَا إِلَيْهِ *** فَهُوَ أدنى إِلَيْك من ذَات نَفسك
أيها الإخوة: قال أحمد بن أبي الحواري: "دخلت على أبي سليمان وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: لئن طالبني بذنوبي لأطالبنه بعفوه، ولئن طالبني ببخلي لأطالبنه بجوده، ولئن أدخلني النار لأخبرن أهل النار أني كنت أحبه".
إن حسن ظنك بالله، يعني أن لا يجمعك والفجار في دار واحدة. يقول سلمان بن الحكم بن عوانة: "أن رجلاً دعا بعرفات، فقال: لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا، قال: ثم بكى، وقال: ما إخالك تفعل بعفوك، ثم بكى، وقال: ولئن فعلت: فبذنوبنا، لا تجمعن بيننا وبين قوم ظالمين عاديناهم فيك".
قال عمر بن ذر يوماً في كلامه، وعنده ابن أبي داود وأبو حنيفة: "أتعذبنا وفي أجوافنا التوحيد؟ لا أراك تفعل، اللهم اغفر لمن لم يزل على مثل حال السحرة في الساعات التي غفرت لهم، فإنهم قالوا: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 121]، فقال أبو حنيفة: رحمك الله القصص بعدك حرام".
وَلما مرض أَعْرَابِي فَقيل لَهُ: إِنَّك تَمُوت، فَقَالَ: فَإِذا مت أَيْن يذهب بِي؟ قيل: إِلَى الله تَعَالَى، قَالَ: مَا أكره أَن يذهب بِي إِلَى من لَا يرى الْخَيْر إِلَّا عِنْده.
نسأل الله أن يحسن لنا الختام أجمعين، بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبيُّ الكريم؛ من الهدي القويم؛ والصراط المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفورَ الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم فتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، وله الشكرُ علَى توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خيرُ مَنْ دعا إلى سبيلِ اللهِ ورضوانِهِ؛ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وصِدْقِ إيمانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وإخوانِهِ وسلَّمَ تسليماً مَزيداً.
عباد الله: وإذا نزل بالعبد الموت شرع لمن حوله من إخوانه وزوجه وولده أن يلقنوه لا إله إلا الله، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" [مسلم:916]، وقال عثمان بن عفان: "إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله، فإنه ما من عبد يختم له بها موته، إلا كانت زاده إلى الجنة"، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، وذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون".
ولا بد من تلقين الميت، وتذكيره الشهادة، وإن كان على غاية من التيقظ، فاحضروا أمواتكم ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشّروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، نسأل الله السلامة والعافية.
قال علماؤنا: تلقين الموتى هذه الكلمة سُنّة مأثورة، عمل بها المسلمون، وذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله، فيختم له بالسعادة، وليدخل في عموم حديث رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث معاذ -رضي الله عنه-: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله دَخَلَ الْجَنَّةَ" [أبو داود (3116) وصححه الألباني].
ولينبّه المحتضر على ما يدفع به الشيطان، فإنه يتعرض للمحتضر؛ ليفسد عليه عقيدته، فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة واحدة، فلا تعاد عليه ليلاً بِفَجْر، وقد كره أهل العلم الإكثار من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه، قال ابن المبارك: "لقنوا الميت لا إله إلا الله، فإذا قالها، فدعوه". وإنما ذلك؛ لأنه يخاف عليه إذا لجّ عليه بها أن يتبرم ويضجر، ويثقلها الشيطان عليه، فيكون سببًا لسوء الخاتمة، وكذلك أمر ابن المبارك أن يفعل به قال الحسن بن عيسى: قال لي ابن المبارك: "لقني -يعني: الشهادة- ولا تعد عليّ إلا أن أتكلم بكلام ثانٍ".
والمقصود: أن يموت الرجل وليس في قلبه إلا الله -عز وجل-؛ لأن المدار على القلب، وعمل القلب هو الذي ينظر فيه، وتكون النجاة به، وأما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب، فلا فائدة فيها، ولا عبر عندها.
وقد يكون التلقين بذكر الحديث عند الرجل العالم، كما ذكر أبو نعيم: أن أبا زرعة كان في السوق وعنده جماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين فاستحيوا من أبي زرعة فقالوا: يا أصحابنا تعالوا نتذاكر الحديث، فقال محمد بن سلمة: حدثنا ضحاك بن مخلد، حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب، ولم يجاوزه، وقال أبو حاتم: حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، ولم يجاوزه، والباقون سكوت، فقال أبو زرعة وهو في السوق: حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود (3116) وصححه الألباني]، وتوفي -رحمه الله-.
ويروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال: دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدناه لما به، ورجل يلقنه الشهادة ويقول له: لا إله إلا الله، وهو يكثر عليه، فقال له الشعبي: ارفق به، فتكلم المريض وقال: إن تلقني أو لا تلقني فإني لا أدعها ثم قرأ: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) [الفتح: 26]، فقال الشعبي: الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا. وقيل للجنيد -رحمه الله- عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال ما نسيته فأذكره.
عباد الله: لا شك أن في شدة الموت وسكراته على العبد كفارة لبعض ذنوبه، إذ الشدة والبلاء والألم يكفر الله بها عن العبد، وهذا ما جاءت به الآثار، فعن أبي هريرة: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيراً يُصِب منه" [البخاري 5645]. وعن قتادة قال: قال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله: إنه يمرض الرجل الذي كنا نرى أنه صالح، فيُشدَّد عليه عند موته، ويمرض الرجل الذي ما كنا نرى فيه خيرًا، فيهوّن عليه عند موته؟" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن يبقى من ذنوبه شيء فيشدد عليه عند موته لأن يلقى الله لا ذنب له، وإن المنافق تبقى من حسناته شيء فيهون عليه لأن يلقى الله ولا حسنة له" [مصنف عبد الرزاق (6773)]، وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله، شُدِّد عليه الموت؛ ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة، وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفاً في الدنيا، هُوِّن عليه الموت؛ ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا، ثم يصير إلى النار".
وعن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله: إنك لتوعك وعكًا شديدًا؟ قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: "أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها"[البخاري5648].
وإن موت الفجأة دون مقدمات ولا مرض شأنه خطير إذ يحل الموت بالعبد وهو في غفلة، قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "موت الفجأة أخذة أسف" [أبو داود (3110)وصححه الألباني].
فتذكروا رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم في هذا العام المنصرم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
التعليقات