عناصر الخطبة
1/ قصر الأيام وسرعتها 2/العبادة ليس لها حد 3/الترغيب في محاسبة النفس 4/الاستعداد ليوم الرحيل.اهداف الخطبة
اقتباس
الأيام مطايا بيدها أزمة ركبانها, تنزل بهم حيث شاءت, فبينا هم على غواربها ألقتهم فوطئتهم بمناسمها. قال الحسن: "يعرض على العبد يوم القيامة ساعات عمره, فكل ساعة لم يحدث فيها خيرا تتقطع نفسه عليها حسرات". وكان يونس بن عبيد جالسا مع أصحابه يحدثهم, فنظر في وجوههم وقال: "لقد ذهب من أجلي وأجلكم ساعة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أطال أعمارنا وأحسن أعمالنا وجمّل أحوالنا, أحمده -سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه وسابغ عطائه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والرزق والتوحيد والعبودية، تنزه وتقدس عن الأشباه والأمثال والأنداد والنظائر (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11], وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, خير من صلى وصام, وطاف بالبيت الحرام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي ملاذكم وأمنكم وسعادتكم وفوزكم, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الناس: إن الأيام دولٌ, والأعمار قُصّرٌ, والعمر صغيرٌ، والأحوال قُلّبٌ, والقرآن حجةٌ لكم أو عليكم، والجوارح شهودٌ، والكرام يكتبون، والديان يُحصي وسيُجزي, فهنيئا لمن طال عمره وحسن عمله، وقدّم صالحا, وهجر سيئاً، وعاش موحداً،و جاهد صابرا، ومات ثابتاً, فالعمل العمل, والجدُ وتركُ الكسل.
أيها الموحدون: انتهى رمضان وطوى الحج بساطه، وتغيرت الأحوال, ودار الزمان, وانقضى العام, والرب لا يحول ولا يزول, والحي القيوم لا ينام، ولا تشابهه الأنام، فلنجد العمل في كل العمر والعام, ونجتهد في تقلب الليل والنهار، ولنعلم أن الله يُعبد على الدوام, وليس في نهاية العام، وأن الصحف تُطوى بموت الإنسان, وليس في نهاية السنة مهما تعاقب الجديدان.
أيها المؤمنون: العبادة ليس لها حد ولا زمن ولا مكان إلا بالموت
فعن سالم بن عبد الله في قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99] قال: "الموت". قال الحسن: "أبى قوم المداومة، والله ما المؤمن الذي يعمل شهرا أو شهرين أو عاما أو عامين, لا والله ما جعل الله لعمل المؤمن أجلا دون الموت". وعن قتادة في قول الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات: 143], قال: "كان طويل الصلاة في الرخاء".
قال عمر -رحمه الله-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم تزنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية".
إخواني: حاسبوا أنفسكم قبل الحساب, وأعدوا للسؤال صحيح الجواب, واحفظوا بالتقوى هذه الأيام, واغسلوا عن الإجرام هذه الأجرام, قبل ندم النفوس في حين سياقها, قبل طمس شمس الحياة بعد إشراقها, قبل ذوق كأس مرة في مذاقها, قبل أن تدور السلامة في أفلاك محاقها, قبل أن تجذب النفوس إلى القبور بأطواقها, وتفترش في اللحود أخلاق أخلاقها, وتنفصل المفاصل بعد حسن اتساقها, وتشتد شدائد الحسرة حاسرة عن ساقها, وتظهر مخبآت الدموع بسرعة اندفاقها, وتتقلب القلوب في ضنك ضيق خناقها, ويطول جوع من كان في الدنيا فاكها, وتبكي النفوس في أسرها على زمان إطلاقها.
إخواني: الأيام مطايا بيدها أزمة ركبانها, تنزل بهم حيث شاءت, فبينا هم على غواربها ألقتهم فوطئتهم بمناسمها. قال الحسن: "يعرض على العبد يوم القيامة ساعات عمره, فكل ساعة لم يحدث فيها خيرا تتقطع نفسه عليها حسرات". وكان يونس بن عبيد جالسا مع أصحابه يحدثهم, فنظر في وجوههم وقال: "لقد ذهب من أجلي وأجلكم ساعة". وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد: فقد أحيط بك من كل جانب, واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة مرحلة, فاحذر الله تعالى والمقام بين يديه وأن يكون آخر عهدك به والسلام".
يا ناسيا! مهلا عن قليل حادث, حادث قلبك بما بين يديك حادث, يا راحلا! وهو يظن أنه مقيم لابث, يا نائما! قد أزعجته المقلقات البواعث, يا لاعبا والليالي في سيره حثائث!, يا ساهيا قد علقت به براثن الموت الضوابث!.
يا معجبا بزخارف في ضمنها الحوادث!, يا مقبلا على سحار من الهوى نافث!, يا مخمورا بالمنى الخمر أم الخبائث!, يا مطلوبا بالجد وفعله فعل عابث, يا حريصا على المال ماله حظ وارث!, إياك والدنيا فإن حلفها حلف حانث, لا تسمعن قولها فالعزم عزم ناكث.
يا من عمره كلما زاد نقص, يا من يأمن الموت وكم قد قنص, يا مائلا إلى الدنيا هل سلمت من نغص, يا مفرطا في الوقت هلا بادرت الفرص. يا من إذا ارتقى في سلم الهدى فلاح له الهوى نكص, من لك يوم الحشر إذا نشرت القصص, ذنوبك كثيرة جمة, ونفسك بغير الصلاح مهتمة, وأنت في المعاصي إمام وأمة, يا من إذا طلب في المتقين لم يوجد ثمة, يا من سيلحق في مصرعه, وإن أباه, أباه وأمه, متى تنقشع هذه الظلمة والغمة؟!, متى تنشق أكمة أكمه ذي كمه؟!, يا من قد أعماه الهوى ثم أصمه, يا من لا يفرق بين المديح والمذمة, يا من باع فرحه ثم اشترى غمه؟ يا عقلا خربا يحتاج إلى مرمة.
قال مالك بن دينار: "وددت أن الله -عز وجل- أذن لي يوم القيامة -إذا وقفت بين يديه- أن أسجد سجدة؛ فأعلم أنه قد رضي عني ثم يقول يا مالك كن ترابا".
ذكرت نفوس القوم العذاب فأنّت, وتفكرت في شدة العتاب فأرنت, تذكرت ما جنت مما تجنت فجنت, أزعجها الحذر ولولا الرجاء ما اطمأنت. آه لنفس ضنت بما بذلوه, ثم رجت ما نالوه, بئس ما ظنت, ما نفس سابقت كنفس تأنت.
التعليقات