عناصر الخطبة
1/ عرضٌ للمجتمع الفاضل الذي رسمته سورة الحجرات 2/ استخلاص الفضائل المجتمعية من سورة الحجرات وتطبيقها.اهداف الخطبة
اقتباس
هو مجتمع له منهجه الإعلامي الفذ في التثبت من الأقوال والأفعال والأخذ من مصدرها، قبل الحكم عليها، فأمَر المؤمنين بعدم السماع للإِشاعات، لا سيما إن كان الخبر صادراً عن شخص متَّهم، فكم من كلمةٍ نقلها فاسق كذاب سبَّبت كارثةً من الكوارث، وكم من خبرٍ لم يتثبَّت منه سامعه جرَّ...
في هذه المحطة الأسبوعية المتجددة أود أن أنتقل بحضراتكم إلى المدينة الفاضلة، نعَم! المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون، فكانت هي المدينة النبوية التي حققها محمد -عليه الصلاة والسلام- لتقدم للعام نموذجا حيا لمجتمع طالما حلم به العالم وتمنى تحقيقه.
اسمحوا لي أن انتقل بكم عبر التأريخ إلى المدينة النبوية وهي تتلقى الوحي الإلهي، وتشهد نزول سورة الحجرات، السورة التي نزلت بالمدنية النبوية لترسم ملامح المجتمع المسلم، نزلت لتبني قواعد المدينة الفاضلة، نزلت لتبين مبادئ الدولة المدنية كما يراها الإسلام.
مجتمع متكامل يقوم على القيم الكبرى التي تضمن بقاءه، وتُظْهِرُ نقاءه، مجتمع يقوم على الاحترام المتبادل، والتثبت في نشر الأقوال، وتلقيها، والأخوة، وإصلاح ذات البين، ونشر العدل والقسط، والتعارف بين الأمم، وضبط ميزان التفاضل بين الأفراد.
مجتمع تنقى شوارعه من السخرية، والنميمة، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن، والتجسس، والغيبة، وكل ما من شأنه أن يخدش نقاء هذا المجتمع المتكامل، أو يكدر صفوه، أو يشوه جماله.
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، تتضمن صورة متكاملة لمجتمع ينشده الإسلام، ويريد تحقيقه بين أبنائه؛ تتضمن حقائقَ كبيرةً تتجاوز حجم هذه السورة وعدد آياتها مئات المرات! إنها سورة الحجرات.
أول ما يبرز للناظر المتأمل عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل برسم صورة كاملة، لمجتمع رفيع كريم نظيف سليم، متضمنة القواعد والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا المجتمع، والتي تكفل قيامه أولاً، وصيانته أخيراً.
مجتمع يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب لله؛ مجتمع نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان،، وقبل ذلك عف السريرة.
مجتمع له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته.
هو مجتمع له أدب مع الله ومع رسول الله، يتمثل هذا الأدب الرفيع الذي أدَّب الله به المؤمنين تجاه شريعة الله وأمر رسوله، وهو ألاّ يُبرموا أمراً، أو يُبدوا رأياً، أو يقضوا حكماً في حضرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يستشيروه ويستمسكوا بإِرشاداته الحكيمة: (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1].
وخفض الصوت إِذا تحدثوا مع الرسول -عليه الصلاة والسلام- تعظيماً لقدره الشريف، واحتراماً لمقامه السامي، فإِنه ليس كعامة الناس؛ بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب ولا يشطحوا بلغة وضيعة غير راقية تجاه ما يتلقون من سنته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...) [الحجرات:2].
هو مجتمع له منهجه الإعلامي الفذ في التثبت من الأقوال والأفعال والأخذ من مصدرها، قبل الحكم عليها، فأمَر المؤمنين بعدم السماع للإِشاعات، لا سيما إن كان الخبر صادراً عن شخص متَّهم، فكم من كلمةٍ نقلها فاسق كذاب سبَّبت كارثةً من الكوارث، وكم من خبرٍ لم يتثبَّت منه سامعه جرَّ وبالاً، وأحدث انقساماً، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو) [الحجرات:6].
يستند هذا المنهج إلى تقوى الله، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله، من غير تقديم أي سبق إعلامي بين يديه، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات:7].
وهو مجتمع له أنظمته وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع من خلاف وفتن، تخلخل كيانه وتمزقه لو تركت بلا علاج. وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
ودعا إِلى الإِصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...) [الحجرات:9].
وهو مجتمع له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض، وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات:11].
وهو مجتمع نظيف المشاعر، مكفول المحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنه، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:12].
هو مجتمع يدعو إلى وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب والتعارف بين الجميع، فيهتف بين الأمم: (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]، وله ميزانه الواحد الذي يحكم به الجميع، إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر، هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
الخطبة الثانية:
وبعد هذا العرض السريع لمجتمع يرجوه الإسلام رسمته لنا سورة الحجرات نقول: إن المطلوب من كل واحد منا أن يسهم في تأسيس وبناء هذا المجتمع الفاضل، وأن يتحمل مسؤولياته كفرد وعنصر من عناصر المجتمع له حقوق وعليه واجبات.
المطلوب أن يتَّجِهَ كُلُّ واحدٍ منَّا إلى سورة الحجرات، ويتأملها، ويحدد ما الذي يجب عليه أن يقدمه من فضائل لمجتمعه، وما الذي عليه أن يجتنبه ويجنبه مجتمعه، فيبدأ بمفرده وعلى مستواه ومستوى أسرته في تطبيق هذه المثل، واقتفاء هذه القيم، ومحاكاتها.
ولا يظن فرد منا أن هذه الأخلاق تنبت كما تنمو الحشائش الطفيلية في الطرقات من غير تعهد ومتابعة؛ بل تحتاج منا إلى جهد، ومزيد معاناة ومتابعة.
وصلوا وسلموا...
التعليقات