عناصر الخطبة
1/الحكمة من تحريم الاختلاط 2/الاختلاط ينافي جمال الزواج ومقاصده 3/من مظاهر الاختلاط في الأسر والمجتمعات 4/آثار الاختلاط على استقرار الحياة الزوجية 5/ كيفية معالجة قضية الاختلاط لسلامة الحياة الزوجية؟اقتباس
لَقَدْ أَخَذَ الْإِسْلَامُ بِمَبْدَأِ: "الْوِقَايَةُ خَيْرٌ مِنَ الْعِلَاجِ"، فَلَأَنْ نَسُدَّ الذَّرِيعَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَاحِشَةِ مِنَ الْبِدَايَةِ؛ بِتَحْرِيمِ الِاخْتِلَاطِ، لَهُوَ أَفْضَلُ أَلْفَ مَرَّةٍ مِنْ أَنْ نَسْكُتَ حَتَّى تَقَعَ الْمُعْضِلَاتُ، ثُمَّ نَعُودَ فَنَبْكِيَ عَلَى اللَّبَنِ الْمَسْكُوبِ وَعَلَى الْعِرْضِ الْمَسْلُوبِ!...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْبَشَرَ جَعَلَهُمْ جِنْسَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)[الذَّارِيَاتِ: 49]، وَرَكَّبَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَيْلًا فِطْرِيًّا إِلَى الْآخَرِ؛ لِبَقَاءِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ، وَنَظَّمَ ذَلِكَ الْمَيْلَ بِرَابِطَةِ الزَّوَاجِ، وَجَعَلَ -عَزَّ وَجَلَّ- كُلَّ عَلَاقَةٍ غَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ خَارِجَ إِطَارِ الزَّوَاجِ مَمْنُوعَةً مُحَرَّمَةً.
وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي نُصُوصِ تَحْرِيمِ الِاخْتِلَاطِ أَدْرَكَ حِكْمَةَ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ؛ وَحَسْبَ الِاخْتِلَاطِ قُبْحًا أَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ؛ فَالْمَيْلُ الْمُرَكَّبُ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى بَعْضِهِمُ بَعْضًا، هُوَ دَاعٍ فِطْرِيٌّ إِلَى التَّقَارُبِ وَالتَّجَاذُبِ بَيْنَهُمَا، فَمَا أَنْ يَصِلَ الشَّابُّ وَالْفَتَاةُ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ إِلَّا وَيَكُونُ هَمُّهُ التَّوَاصُلَ مَعَ النِّسَاءِ، وَيَكُونُ هَمُّهَا التَّقَرُّبَ مِنَ الرِّجَالِ، لَوْلَا حَاجِزُ الدِّينِ وَالْحَيَاءِ النَّاتِجُ عَنِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ.
وَلِذَلِكَ فَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الِاخْتِلَاطَ الْمُسْتَهْتِرَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ؛ فَإِنَّهُ -بِلَا شَكٍّ- السَّبَبُ الْأَكْبَرُ لِلْوُقُوعِ فِي الزِّنَا، وَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الطَّالِبَ وَهُوَ الْأَجْرَأُ فَقَدْ كَثُرَتِ التَّحْذِيرَاتُ النَّبَوِيَّةُ لَهُ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلَمَّا حَذَّرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، عَادَ فَخَصَّ مِنْهَا "فِتْنَةَ النِّسَاءِ" بِمَزِيدٍ مِنَ التَّحْذِيرِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ أَخَذَ الْإِسْلَامُ بِمَبْدَأِ: "الْوِقَايَةُ خَيْرٌ مِنَ الْعِلَاجِ"؛ فَلَأَنْ نَسُدَّ الذَّرِيعَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَاحِشَةِ مِنَ الْبِدَايَةِ؛ بِتَحْرِيمِ الِاخْتِلَاطِ، لَهُوَ أَفْضَلُ أَلْفَ مَرَّةٍ مِنْ أَنْ نَسْكُتَ حَتَّى تَقَعَ الْمُعْضِلَاتُ، ثُمَّ نَعُودَ فَنَبْكِيَ عَلَى اللَّبَنِ الْمَسْكُوبِ وَعَلَى الْعِرْضِ الْمَسْلُوبِ!
وَفِي تِلْكَ الْبِلَادِ الَّتِي تُبِيحُ الِاخْتِلَاطَ الْمُسْتَهْتِرَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، تُحَدِّثُنَا الْإِحْصَائِيَّاتُ عَنْ أَرْقَامٍ مُخِيفَةٍ لِحَالَاتِ الِاغْتِصَابِ، وَعَمَلِيَّاتِ الْإِجْهَاضِ، وَانْتِشَارِ أَطْفَالِ الزِّنَا، وَعُزُوفِ الشَّبَابِ عَنِ الزَّوَاجِ؛ وَلِمَاذَا يَتَزَوَّجُونَ وَيَتَحَمَّلُونَ التَّبِعَاتِ، وَهُمْ يَحْصُلُونَ عَلَى مَا يُرِيدُونَ مِنَ الْفَتَيَاتِ، دُونَ مُقَابِلٍ وَلَا اشْتِرَاطَاتٍ؟!
وَطَالَعَتْنَا الصُّحُفُ أَنَّ "نِسْبَةَ الْحَبَالَى مِنْ تِلْمِيذَاتِ الثَّانَوِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي أَمِرِيكَا بَلَغَتْ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ: (48%)، وَفِي صَحِيفَةِ الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ: "أَنَّ (75%) مِنَ الْأَزْوَاجِ يَخُونُونَ زَوْجَاتِهِمْ فِي أُورُوبَّا، وَأَنَّ نِسْبَةً مُقَارِبَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ يَفْعَلْنَ الشَّيْءَ ذَاتَهُ"!!
وَلَكَمْ نَصَحَ الْعُقَلَاءُ: "بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ"!.. وَلَكُمْ صَرَخَ مَنِ اكْتَوَى بِنَارِ الِاخْتِلَاطِ: "إِيَّاكُمْ فِي التَّعَامُلِ مِنَ الْإِفْرَاطِ"!.. فَيَا لَيْتَ الْغَافِلِينَ يَفِيقُونَ!
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الزَّوَاجِ الْعُلْيَا: سَكَنَ الزَّوْجَيْنِ؛ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الرُّومِ: 21]، وَالِاخْتِلَاطُ يَمْحَقُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ إِذْ كَيْفَ يَتَحَقَّقُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ وَالزَّوْجُ يُخَالِطُ مَنْ هِيَ أَجْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ زَوْجَتِهِ.. وَكَيْفَ تَسْكُنُ الزَّوْجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ تُخَالِطُ وَتُحَدِّثُ وَتَمْزَحُ مَعَ مَنْ هُوَ أَبْهَى طَلْعَةً وَأَقْوَى جَسَدًا وَأَكْثَرُ لَبَاقَةً وَمَالًا مِنْ زَوْجِهَا!... فَلَا شَكَّ أَنَّ السَّكَنَ بَيْنَهُمَا مَفْقُودٌ؛ فَكِلَاهُمَا يُقَارِنُ شَرِيكَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَرَى فِي الْآخَرِ إِلَّا النَّقْصَ وَالْعَيْبَ وَالْعَجْزَ!
وَمِنْ حِكَمِ الزَّوَاجِ أَنْ يَقْصُرَ الشَّرِيكُ طَرْفَهُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَيَغُضَّ بَصَرَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَهَذَا مِنْ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ)[ص: 52]، أَيْ: عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلَا يُرِدْنَ سِوَاهُمْ، قِيلَ: تَقُولُ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا: "وَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَثُرَتْ وَتَعَدَّدَتْ وَاسْتَشْرَتْ صُوَرُ الِاخْتِلَاطِ وَمَظَاهِرُهُ فِي أُسَرِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا، فَمِنْهَا: الزَّوَاجُ فِي بَيْتِ الْعَائِلَةِ: إِذْ تَخْتَلِطُ الْمَرْأَةُ بِأَقَارِبِ زَوْجِهَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهَا مُخَالَطَتُهُمْ، وَلَقَدْ شَدَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ قَائِلًا: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: "الْحَمْوُ الْمَوْتُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْ صُوَرِ الِاخْتِلَاطِ مَا يَكُونُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ كَالْأَفْرَاحِ وَالْأَعْيَادِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا تُرْفَعُ فِيهِ الْكُلْفَةُ، وَتُجَلْجِلُ فِيهِ الضَّحِكَاتُ، وَتُنْتَهَكُ فِيهِ الْحِشْمَةُ وَالصِّيَانَةُ وَالْعَفَافُ!
وَمِنْ صُوَرِهِ: الِاخْتِلَاطُ بِالْجِيرَانِ، وَمُحَادَثَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ، وَكَمْ أَدَّى التَّبَسُّطُ مَعَ الْجِيرَانِ إِلَى وَيْلَاتٍ قَدِ اكْتَوَتِ الْمُجْتَمَعَاتُ مِنْ نَارِهَا؛ مِنْ زِنًا وَفَوَاحِشَ وَمُوبِقَاتٍ، وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشَرَةِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْ صُوَرِهِ: الِاخْتِلَاطُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطِ بِزُمَلَاءِ الْعَمَلِ، حَيْثُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ وَيَتَضَاحَكَانِ بِلَا حَيَاءٍ وَلَا رَقِيبٍ، وَلَرُبَّمَا نَشَأَتْ عَنْ ذَلِكَ الْعَلَاقَاتُ الْمُحَرَّمَةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا السَّيْلَ الطَّافِحَ مِنَ الْخُلْطَةِ الْمُحَرَّمَةِ قَدْ نَتَجَتْ عَنْهُ آثَارٌ وَخِيمَةٌ زَلْزَلَتْ كِيَانَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، فَمِنْهَا: عَدَمُ قَنَاعَةِ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ، وَعَدَمُ اكْتِفَائِهَا بِهِ: فَكَمَا قَدَّمْنَا؛ فَكِلَاهُمَا يَخْتَلِطُ بِمَنْ هُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ مِنْ شَرِيكِهِ، وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ تُبَيِّنُ لَنَا شِدَّةَ ضَرَرِ هَذَا عَلَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ: أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ أَبَدًا؛ إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ، فَإِذَا هُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا، وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا، قَالَ زَوْجُهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُعْطَيْتُهَا أَفْضَلَ مَالِي؛ حَدِيقَةً، فَلْتَرُدَّ عَلَيَّ حَدِيقَتِي، قَالَ: "مَا تَقُولِينَ؟" قَالَتْ: نَعَمْ، وَإِنْ شَاءَ زِدْتُهُ، قَالَ: فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا"(صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)؛ فَهَذِهِ صَحَابِيَّةٌ جَلِيلَةٌ، وَقَعَتْ عَيْنُهَا عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، فَكَانَ مَا كَانَ، فَمَاذَا لَوْ خَالَطَ غَيْرُهَا الرِّجَالَ بِلَا دِينٍ يَرْدَعُهُمْ، وَرَأَيْنَ فِيهِمْ مَا يَفْتَقِدُهُ أَزْوَاجُهُنَّ؟! أَوْ خَالَطَ الرِّجَالُ نِسَاءً وَعَايَنُوا مِنْهُنَّ مَا لَيْسَ عِنْدَ زَوْجَاتِهِمْ؟!
وَمِنْهَا: اشْتِعَالُ نَارِ الشَّكِّ وَالْغَيْرَةِ فِي قَلْبِ الزَّوْجَيْنِ: وَإِذَا دَخَلَ الشَّكُّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَرَّ الِاسْتِقْرَارُ الْأُسَرِيُّ مِنَ الْبَيْتِ، فَالزَّوْجُ لَا يَدْرِي حِينَ اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِزَمِيلِهَا فِي الْعَمَلِ مَاذَا جَرَى بَيْنَهُمَا! فَهُوَ دَائِمُ التَّشَكُّكِ فِي سُلُوكِهَا، يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالظُّنُونِ وَعَظَائِمِ الْأُمُورِ... وَلَوْ أَنَّهَا قَصَرَتْ نَفْسَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا مَوْضِعٌ.
وَمِنْ مَفَاسِدِ الِاخْتِلَاطِ: الْوُقُوعُ فِي الْخِيَانَةِ الزَّوْجِيَّةِ: فَهِيَ خُطُوَاتٌ لِلشَّيْطَانِ يَتْبَعُهَا الْوَاقِعُونَ فِي الِاخْتِلَاطِ الْمُحَرَّمِ؛ نَظْرَةٌ، فَابْتِسَامَةٌ، فَمَوْعِدٌ، فَلِقَاءٌ، فَفَاحِشَةٌ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، لِذَا قَالَ الْجَلِيلُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى)[الْإِسْرَاءِ: 32]، وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَزْنُوا، وَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ اقْتِرَابٌ مِنَ الزِّنَا.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ مُعَدِّدًا مَفَاسِدَ الِاخْتِلَاطِ: "وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنَ اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى، وَفَشَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ: أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا".
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، وَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ الْمُسْتَهْتِرَ ذَنْبٌ، وَدَوَاؤُهُ التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، ثُمَّ إِصْلَاحُ مَا خَلَّفَهُ الِاخْتِلَاطُ مِنْ مَفَاسِدَ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ: سَدُّ كُلِّ طَرِيقٍ لِلِاخْتِلَاطِ، وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ بِالْغُرَبَاءِ، وَمَنْعُ كُلِّ اخْتِلَاطٍ مُحَرَّمٍ كَانَ يَحْدُثُ مِنْ قَبْلُ.
وَثَانِيًا: الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ؛ فَقَدْ خَاطَبَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَطْهَرَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ إِنَّهُمُ الصَّحَابَةُ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ قَائِلًا لَهُمْ: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الْأَحْزَابِ: 53]، فَمَا بَالُنَا بِمَنْ هُمْ أَدْنَى مِنْهُمْ.
وَثَالِثًا: ضَبْطُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا؛ لِتَقْلِيلِ فُرَصِ الِاخْتِلَاطِ؛ فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَرَابِعًا: الِالْتِزَامُ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَقَصْرِ الزَّوْجَيْنِ طَرْفَيْهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا الْآخَرِ، طَاعَةً لِلْأَمْرَيْنِ الْقُرْآنِيَّيْنِ؛ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)[الْمُؤْمِنُونَ: 30]، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[الْمُؤْمِنُونَ: 31].
خَامِسًا: الْتِزَامُ آدَابِ التَّعَامُلِ مَعَ الْأَجَانِبِ؛ مِنْ عَدَمِ الْكَلَامِ إِلَّا لِحَاجَةٍ، مَعَ عَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ؛ (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[الْأَحْزَابِ: 32].
سَادِسًا: الْبُعْدُ عَنْ أَمَاكِنِ الزِّحَامِ كَالْأَسْوَاقِ؛ فَإِنَّهَا -كَمَا قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ-: "مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَحَرِيٌّ بِنَا وَقَدْ عَلِمْنَا خُطُورَةَ الِاخْتِلَاطِ وَعَوَاقِبَهُ الْمُخْزِيَةَ، أَنْ نَقْطَعَ أَسْبَابَهُ جَاهِدِينَ، وَنُحَذِّرَ مِنْهُ الْمُسْلِمِينَ، وَنَصُونَ أَزْوَاجَنَا عَنْهُ، وَنُقِيمَ بُيُوتَنَا عَلَى مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات