اقتباس
اختلف الفقهاء في حمد الله -تعالى- في خطبة الجمعة هل هو ركن أو لا؟ وذلك على قولين: القول الأول: أنه سنة، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن سعدي، وبه قال ابن حزم. القول الثاني: أنه ركن، فلا تصح الخطبة إلا به، وبهذا...
سبق في الجزء الأول من هذه السلسلة ذكر أقوال بعض الفقهاء عن أركان خطبة الجمعة، وتأصيل هذه المسألة، وفي هذه الحلقة نشرع في الحديث عن أركان خطبة الجمعة وخلاف الفقهاء في ذلك، فنقول:
الركن الأول: حمد الله -تعالى-:
اختلف الفقهاء في حمد الله -تعالى- في خطبة الجمعة هل هو ركن أو لا؟ وذلك على قولين:
القول الأول: أنه سنة، وبهذا قال الحنفية(1) والمالكية(2)، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن سعدي كما تقدم(3)، وبه قال ابن حزم(4).
القول الثاني: أنه ركن، فلا تصح الخطبة إلا به، وبهذا قال الشافعية(5)، والحنابلة(6) قال في الإنصاف: "بلا نزاع"، يعني عند الحنابلة(7).
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
لم أعثر على تصريح لهم بدليل، ولكن ظاهر كلامهم الاستدلال بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- الآتي في أدلة أصحاب القول الثاني، فحملوه على الاستحباب؛ لكونه مجرد فعل -والله أعلم-.
أدلة أصحاب القول الثاني:
1- ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك - وقد علا صوته واشتدّ غضبه..."(8) الحديث(9).
قال النووي: فيه دليل للشافعي -رضي الله عنه- أنه يجب حمد الله -تعالى- في الخطبة، ويتعين لفظه، ولا يقوم غيره مقامه"(10).
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن هذا مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل على الاستحباب، كما أن لفظ: "كان...." لا يدل على المداومة، وإن دل عليها فإنها لا تدل على الوجوب، كما تقدم بيانه(11).
2- ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم"(12) (13) (14).
مناقشة هذا الدليل: يناقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن في ثبوته كلاما لأهل العلم كما في تخريجه.
الوجه الثاني: على تقدير ثبوته فإنه ليس ظاهر في الدلالة على الوجوب؛ لأنه يفيد النقص، وغير الصحيح لا يوصف بالنقص وإنما يوصف بعدم الإجزاء.
الوجه الثالث: على تقدير ثبوته لو دل على وجوب التجميد لدل على وجوبه في كل أمر ذي بال، ولا نعلم أحدا يقول بذلك(15).
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة -والله أعلم بالصواب- هو القول الأول القائل بسنية حمد الله -تعالى- في الخطبة؛ لعدم ثبوت ما يدل على الركنية، وإنما الذي ثبت هو مجرد الفعل، وهو لا يدل على الركنية وإنما على الاستحباب كما ذكرت.
الركن الثاني: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-:
اختلف الفقهاء في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الجمعة هل هي ركن، أو لا؟ وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها سنة، وبهذا قال الحنفية(16)، والمالكية(17)، وبعض الحنابلة(18)، وذكره في المغني احتمالا(19)، واختاره ابن سعدي -رحمه الله- كما تقدم(20).
القول الثاني: أنها ركن، فلا تصح الخطبة إلا بها، وبهذا قال الشافعية(21) وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه أكثرهم(22).
القول الثالث: أنها واجبة، وليست بركن يشترط الإتيان به، وهذا مروي عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث جاء في الاختيارات: "ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين، وتردد في وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة، وقال في موضع آخر: ويحتمل -وهو الأشبه- أن الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- فيها واجبة... "(23).
الأدلة:
دليل أصحاب القول الأول:
الظاهر أنهم يستدلون على السنية بما استدل به أصحاب القول الثاني، وأما عدم الركنية والوجوب فاستدلوا عليه بما يلي:
1- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر الصلاة عليه في خطبته، ولو كانت ركنا أو واجبا لذكره(24).
2- أن الأصل عدم الركنية والوجوب، فيعمل به(25).
أدلة أصحاب القول الثاني.
استدلوا بأدلة من السنة، والمعقول:
أولا: من السنة.
ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- في ذكر إسراء النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر فيه قول الله -تعالى-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)(26) قال: "فلا أُذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي"(27).
وهذا واضح الدلالة.
مناقشة هذا الدليل: يناقش من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن مبنى الاستدلال على ثبوت الدليل، وهذا مما لم يتحقق لي في هذا الحديث كما في تخريجه.
الوجه الثاني: على تقدير ثبوته فقد نوقش الاستدلال بـ وَرَفَعْنَا بأنه خبر لا عموم فيه، وقد أريد به كلمة الشهادة ونحوها، فلا يلزم إرادة غير ذلك، فإن قيل: تجعل خبرا بمعنى الأمر، رُدَّ بأن جعل الأمر فيه للوجوب يلزم منه مخالفة الإجماع، إذ لا يعلم أحد يقول بوجوب ذكره -عليه الصلاة والسلام- كلما ذكر الله -تعالى- وإن جعل للاستحباب بطل الاستدلال(28).
الوجه الثالث: على تقدير ثبوته فإنه يدل على الشهادة لا على الصلاة.
ثانيا: من المعقول:
أن الخطبة عبادة افتقرت إلى ذكر الله -تعالى- فافتقرت إلى ذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- كالأذان، والتشهد، والصلاة(29).
مناقشة هذا الدليل:
يناقش بأن هذا وإن كان حاصلا في بعض العبادات فهو غير مطرد، فمثلا الوضوء تشرع له التسمية ولا تشرع له الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الذكاة وغيرهما، حتى الأذان يشرع فيه ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا الصلاة عليه. وأما القول الثالث فلم أطلع على دليل له، إلا أن يكون ما قاله أصحاب القول الثاني في دليلهم العقلي، وقد تمت مناقشته -والله أعلم-.
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة -والله أعلم بالصواب- هو القول الأول القائل بسنية الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الجمعة، لعدم ثبوت ما يدل على ركنيتها أو وجوبها حسب اطلاعي، ولما استدلوا به.
____________
التعليقات