عناصر الخطبة
1/حث الله المؤمنين على كثرة ذكره 2/الحكمة من وقوع المؤمنين في الذنوب 3/أعظم الحرمان الحجاب عن الله 4/تكفير الذكر للذنوب على نوعين 5/من الأذكار المكفرة للذنوباقتباس
والذكر من أعظم مكفرات الذنوب، ولما تأملت تكفير الذكر للذنوب وجدته على نوعين: من الذكر ما هو مطلق ليس مربوطًا بعارض أو سبب، ومنه ما هو مربوط بعارض أو سبب، وهي بعمومها سهلة يسيرة، وفضل كبير من الله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أيها الإخوة يقول الله -تعالى- حاثًا على ذكره: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:42 -41]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "يأمر -تعالى- المؤمنين بذكره ذكرًا كثيرًا، من تهليلٍ، وتحميدٍ، وتسبيح، وتكبير وغير ذلك، من كلِ قولٍ فيه قُربة إلى الله، وأَقَلُّ ذلك أنْ يُلازمَ الإنسانُ أورادَ الصباحِ، والمساء، وأدبارَ الصلوات الخمس، وعند العوارضِ والأسباب، وينبغي مداومةُ ذلك، في جميع الأوقات، على جميع الأحوال؛ فإنَّ ذلك عبادةٌ يَسْبِقُ بها العاملُ وهو مستريحٌ، وداعٍ إلى محبةِ الله ومعرفتِهِ، وَعَونٌ على الخير، وكَفٌّ اللسان عن الكلام القبيح، (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا)؛ أي: أول النهار وآخره؛ لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيهما".
أيها الإخوة: في خضم هذه الحياة المليئة بالمغريات والصوارف، يقع المسلم بالذنوب والمعاصي لا محالة، وقد قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"(رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ وحسنه الألباني -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وقال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ؛ فَيَغْفِرُ لهمْ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، قال المناوي -رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: "وإنما يخلي اللهُ بين المؤمنِ والذنبِ؛ ليُبَلِغَهُ هذه الدرجة (درجة الاستغفار)... ولو لم يُخَلِ بينه وبين الذنوب، وسعى العبد في محاب الله كلِها، وتجنبَ مساخطَه كُلَها ربما وجد نفسَهُ قائمةً بوظائف الله، وساعيةً في طاعته، ويرى لسانَه ذاكرًا؛ فأعجبته نفسه، واستكثرَ فعلَهُ، واستحسنَ عملَهُ؛ فيكون قد انصرف عن الله إلى نفسه العاجزة الحقيرة الضعيفة القوة".
وقال -رحمه الله-: "ومن فوائد إيقاع العبدِ في الذنوبِ أحيانًا اعترافُ المذنبِ بذنبِه، وتنكيسُ رأسَه عن العجبِ، واعترافُه بالعجزِ"، وقال: "وكما أحب الله -تعالى- أن يُحسنَ إلى المحسنِ أحب التجاوز عن المسيء... والغفار يستدعي مغفورًا، والسرُ فيه إظهارُ صفةِ الكرمِ والحلمِ، وإلا لَانْثَلَمَ طرفٌ من صفات الألوهية".
وقد ذكر الشيخ السعدي -رحمه الله- عند قوله -سبحانه-: (ذِكْرًا كَثِيرًا)، أن من الذكر "الذكر عند العوارض والأسباب"، والذكر من أعظم مكفرات الذنوب، ولما تأملت تكفير الذكر للذنوب وجدته على نوعين: من الذكر ما هو مطلق ليس مربوطًا بعارض أو سبب، ومنه ما هو مربوط بعارض أو سبب، وهي بعمومها سهلة يسيرة، وفضل كبير من الله -تعالى- تفضل به على عباده، وفرصًا ذهبية لتكفير السيئات، حري بنا الأخذ بها وحث أهلينا عليها.
فمن الذكر المطلق الذي لم يرتبط بعارض أو سبب قَوْلُ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ"، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، ومنه قَولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ إِلَّا كُفِّرَتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ"(رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وحسنه الألباني)؛ أي: محيت ذنوبه المتعلقة بحقوق الله -تعالى-، وَقَولُهُ "مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ"؛ أي: في الكثرة والعظمة، وزبدُ البحرِ معروف.
ومنها كذلك التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل المطلق، فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ غُصْنًا فَنَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ، ثُمَّ نَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ، ثُمَّ نَفَضَهُ فَانْتَفَضَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"(رواه أحمد وغيره وحسنه الألباني)، ومنه كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ"(رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين عَنْ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وصححه الألباني).
أيها الإخوة: ومن الذكر ما يشرع عند القيام بسبب أو عارض عمل، ومنها الذكر الذي يقال بعد تناول الطعام، فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ،؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وحسنه الألباني*، ومنها ما يقال عند لبس الثوب، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(رواه أبو داود والدارمي والحاكم وصححه عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).
ومن مواضع الذكر -كذلك- إذا أوى المسلم إلى فراشه للنوم، بعد يوم مليء بالكد والخطأ والصواب، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"(رواه ابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة والنسائي في السنن الكبرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني).
ومن مواضع الذكر التي تغفر فيها الذنوب عندما نستيقظ من الليل لعارض فطري أو غيره، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ -أي استيقظ- فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا،؛ اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ"(رواه البخاري عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن أعظم منح الباري للمسلم الصلاة؛ فقد جعلها اللهُ مجالًا لمغفرة الذنوب ورفع الدرجات، حتى أنَّ المتأمل يُذهل مما ورد فيها من مواضع للمغفرة لا تكون في غيرها.
فأول موضع للمغفرة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ؛ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ"(رواه مسلم).
والموضع الثاني: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ"(رواه مسلم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، قال شيخنا محمد العثيمين: "فهذه تقال إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، وكنت تردد معه فقل، وقيل: بعد الشهادة في آخر الأذان".
والموضع الثالث والرابع: قول النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 7]، فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ -أي في الصلاة- فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
والموضع الخامس: إذا أتم الصلاة قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
وبعد أحبتي: هذه أقوال سهلة يسيرة؛ تكفر الذنوب، وترفع الدرجات في الجنات، فاستكثروا منها، كم نفرط مع الأسف في هذه الفرص وهي لا تأخذ منا إلا وقتًا يسيرًا!، وقد شخص النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سبب تركنا لبعض الأذكار مع عظيم أجرها، لما قال أصحابه -رضي الله عنهم- يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ؟! قَالَ: "يَأْتِي أَحَدَكُمْ -يَعْنِى الشَّيْطَانَ- فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِيهِ فِي صَلاَتِهِ فَيُذَكِّرُهُ حَاجَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا"(رواه أبو داود وصححه الألباني)، وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَغْتَرُّوا"(رواه البخاري عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ أي: بهذه المغفرة وتعتمدوا عليها؛ فتتجاسروا على الذنوب.
وصلوا على نبيكم.
التعليقات