اقتباس
أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم
د. أحمد فريد
المصدر: "المسك والورد والعنبر في خطب المنبر"
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتواتر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق السماوات العلا، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليمًا.
وبعد:
فمما شهدت به كتب التاريخ والسير أن الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه عاشوا أعلى مراتب النصر والتأييد، ومن عجب أن هذا النصر والتأييد ما كان في ميدان دون ميدان؛ وإنما كان في كل الميادين، وفي كل الأوقات.
عاشوا هذا النصر وذلك التأييد مع النفس الأمارة بالسوء، فألجموها بلجام التقوى، وعاشوا هذا النصر وذلك التأييد مع الشيطان القاعد لهم بكل طريق.
وعاشوا هذا النصر وذلك التأييد مع الدنيا وزخارفها، فلم تبهرهم الأضواء، ولم تفتنهم الشهوات.
وعاشوا هذا النصر وذلك التأييد مع العدو في أرض المعركة، فانتصروا على أعدائهم في أقصر وقت وبأقل التكاليف.
فكان النصر دائمًا حليفهم، والتأييد ديدنهم، ولا شك في أن الناصر لهم هو الله عز وجل:
فَمَا العِزُّ لِلإِسْلاَمِ إِلاَّ بِظِلِّهِمْ ♦♦♦ وَمَا المَجْدُ إِلاَّ مَا بَنَوْهُ فَشَيَّدُوا
والله تعالى لا يحابي أحدًا من خلقه، ولكن الصحابة رضي الله عنهم توفرت فيهم أخلاق، هي أخلاق النصر، وتبقى هذه الأخلاقُ أخلاقَ النصر في كل زمان ومكان، فمهما توفرت هذه الأخلاق في طائفة من المسلمين فلا بد أن ينصرهم الله عز وجل، فما هي أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم؟
فمن هذه الأخلاق: أنهم كانوا يعظمون أمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: فكانوا يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ عملاً بقول الله عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132].
فمن ذلك استجابة الصحابة رضي الله عنه لأمر الله عز وجل وأمر رسول صلى الله عليه وسلم وخروجهم إلى حمراء الأسد الغد من يوم أُحُد على ما بهم من جراح وألم، وسجل الله عز وجل هذا الموقف في كتابه الخالد، ونزل قوله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 172 - 174].
لما سقط مسطح بن أثاثة بحادثة الإفك شقَّ ذلك على أبي بكر رضي الله عنه وقال: هذا أمر لم نتهم به في الجاهلية، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام؟! وحَلَفَ أن لا ينفع مِسطحًا بنافعة أبدًا وكان ينفق عليه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، وسمعها أبو بكر فقال: "بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا"، وعاد له بما كان يصنع[1].
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم صدقهم في أقوالهم وأعمالهم؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 19].
عن شداد بن الهاد أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيًا فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه.
فقال: ما هذا؟
قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟
قال: "قسمته لك".
قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن تَصْدُقِ اللهَ يصدقك)).
فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل، قد أصابه السهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((أهو هو؟)).
قالوا: نعم. قال: ((صدق الله فصدقه))[2].
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة.
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين يرقع ثوبه؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: "رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين قد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث، لبد بعضها على بعض".
وعن عروة قال: دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما وهو مضطجع على طنفسة رحله، متوسد الحقيبة، فقال له عمر: "ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك"، فقال: "يا أمير المؤمنين، هذا يبلغنا المقيل".
وقال معمر في حديثه: لما قَدِمَ عمر الشام تلقاه الناس وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: الآن يأتيك، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته فلم يرَ في بيته إلا سيفه وترسه ورحله[3].
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم شجاعتهم النادرة، واستهانتهم بالحياة الدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))، قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟
قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قولك بخ بخ؟))، قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنك من أهلها))؛ فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتِل[4].
وعن أبي موسى الأشعري أنه قال بحضرة العدو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف))، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم.
فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب حتى قتل[5].
وفي يوم اليمامة أغلقت بنو حنيفة أنصار مسيلمة الكذاب الباب عليهم، وأحاط بهم الصحابة رضي الله عنهم، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الحجف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله.
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: قطع حبال الجاهلية، وموالاة الله عز وجل ورسوله والمؤمنين؛ فكان الواحد منهم بمجرد أن يسلم يخلع على باب هذا الدين كل ما كان من أمر الجاهلية، ولا يكون حبه ونصرته إلا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
فهذا عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بأبيه وهو في ظل أطم أي: في مكان مرتفع فيقول: غبر علينا ابن أبي كبشة، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه، فيَرُدُّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لا، ولكن بِرَّ أباك وأحسن صحبته...))[6].
ومر مصعب بن عمير على أخيه أبي عزيز بن عمير وقد أسره أحد الأنصار، فقال للأنصاري: شد يدك به؛ فإن أمه ذات متاع.
فقال أبو عزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي؟
فقال له مصعب: إنه أخي دونك[7].
وقتل أبو عبيدة بن الجراح يوم بدر أباه، حيث تعرض له أبوه يريد أن يقتله ويتحاشاه أبو عبيدة، فلما أصر أبوه على قتله تمكن منه أبو عبيدة فقتله.
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: حرصهم على الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة، عملاً بقول الله عز وجل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وبقوله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46].
أخرج عبدالرزاق في "المصنف" من حديث قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان صدرًا من خلافته كانوا يصلون بمكة ومِنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعًا، فبلغ ذلك ابن مسعود فاسترجع، ثم قام فصلى أربعًا.
فقيل له: استرجعت ثم صليت أربعًا؟ قال: الخلاف شر[8].
وروي مثله عن أبي ذر رضي الله عنه.
وعن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي.
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: استهانتهم بزخارف الدنيا وزينتها الجوفاء.
أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل عليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقال له: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام[9].
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: مبادرتهم إلى التوبة إن بدرت منهم معصية، تفاديًا من سخط الله عز وجل وعقوبته؛ كما في قصة ماعز والغامدية.
وربط أبو لبابة ابن عبدالمنذر نفسه في سارية من سواري المسجد لما أحس أنه خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت براءته.
وكذا الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، حتى نزلت براءتهم من السماء.
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: تكافلهم فيما بينهم، ومواساتهم لإخوانهم.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك[10].
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: اتهامهم أنفسهم بالتقصير.
هذا عمران بن حصين يدخل عليه بعض أصحابه، وكان قد ابتلي في جسده، فيقول له نفر منهم: إنا لنبأس لك لما نرى فيك.
قال: فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وهذا أبو الدرداء يصيبه المرض ويدخل عليه أصحابه ليعودوه، ويقولون له: أي شيء تشتكي؟ فيقول: ذنوبي، فيقولون: أي شيء تشتهي؟ فيقول: الجنة.
وهذه أسماء بنت أبي بكر كانت تصدع، فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي، وما يغفره الله أكثر.
ومن أخلاق النصر في جيل الصحابة رضي الله عنهم: أنفتهم واستعلاء الإيمان في قلوبهم.
وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عاليًا، وأقام صفحة عنقهم، فلن تنحني لغير الله أبدًا، لا لملك جبار، ولا لحبر من الأحبار.
عن أبي موسى قال: انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا مَن عنده من القسيسين والرهبان أن اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله.
ومن أخلاق النصر: اهتمامهم بتزكية نفوسهم بالعبادات.
هذا عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان في آخر الليل أيقظ أهله، ثم يقول لهم: "الصلاة"، ويتلو هذه الآية: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
وعن نافع قال: كان ابن عمر يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فيقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فيقول: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.
وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يختم القرآن في ثلاث، وواظب على ذلك وهو طاعن في السن حتى أدركته الوفاة.
ومن أخلاقهم: استنصارهم بالله عز وجل.
أخرج ابن عبدالحكم عن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتحُ مصر، كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه:
"أما بعد.. لقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، تقاتلون منذ سنين، وما ذاك إلا لما أخذتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف إلا أن يكون غيَّرهم ما غيَّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكونوا لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تتنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله، وليسألوه النصر على عدوهم".
فلما أتى عمرًا الكتابُ جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبون إلى الله عز وجل ويسألونه النصر، ففتح الله عليهم.
وكانوا رضي الله عنهم يطلبون العزة بما أعزهم الله عز وجل به من الإيمان والعمل الصالح.
عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل الشام استشرفوك.
فقال عمر: أواه! لو قال ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
من أخلاق النصر في جيل الصحابة: ثقتهم بنصر الله عز وجل.
فكان من ثقتهم بنصر الله عز وجل يتهمهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض بالغرور، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].
هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول للروم وقد تحصنوا بالحصون: أيها الروم، انزلوا إلينا، فوالله لو كنتم معلقين بالسحاب لرفعنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا.
ووقف الفارس المسلم عقبة بن عامر رضي الله عنه بفرسه على شاطئ الأطلنطي يقول: والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرضًا تفتح في سبيل الله؛ لخضتك بفرسي هذا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
[1] رواه البخاري (8/ 346) التفسير، مطولاً في قصة الإفك.
[2] رواه النسائي (4/60، 61) الجنائز، وصححه الألباني.
[3] "حلية الأولياء" (1/ 101).
[4] رواه مسلم (3/ 68، 69) الإمارة.
[5] رواه مسلم (13/ 69، 70).
[6] ذكره الهيثمي في "المجمع" (9/ 308)، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات، والأطم: المكان المرتفع.
[7] "سيرة ابن هشام مع الروض الأنف" (3/ 54).
[8] رواه أبو داود (1944 عون) المناسك، وصححه الألباني.
[9] رواه الطبري في تاريخه (3/ 520) ط. دار المعرفة.
[10] رواه البخاري (7/ 140) مناقب الأنصار.
التعليقات