اقتباس
اتصف السلف -رحمهم الله- بصفات عظيمة أدهشت العقول؛ فقد كانوا بحق جيلاً فريدًا في إيمانهم بالله -تعالى-، ويقينهم، وصدقهم، وحسن توكلهم على الله -تبارك وتعالى-، ومن ذلك: أنهم كانوا على...
السلف الصالح هم خير القرون، وأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، هم الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون الذين ساروا على نهجهم وأخذوا من علومهم وأدبهم وأخلاقهم، ثم من التزم بذات الطريق وسار على نفس الدرب في الفهم والاستدلال والتعظيم لأمر الدين والشرع واقتفاء الآثار النبوية من القرون خاصة من القرون الثلاثة الأولى المفضلة.
والسلف هم خير الناس بنص شهادة وتزكية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"، قال النووي في شرح الحديث: "الصحيح أن قرنه صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم".
وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس، لا من حيث الأفراد، فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة، فلا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من هو أكثر من بعضهم علما وعبادة.
لذلك فالسلف هم أقدر الناس على فهم المراد من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وهم أجدر الناس بالإمامة والاقتداء، وهم أكثر الناس صدقا وعدلا في التطبيق الفعلي والتنزيل العملي لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنصوص الشرعية الدالة على فضلهم ومكانتهم وأثرهم كثيرة جدا، لا حاجة لذكرها بعد تزكية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم، ووصفهم العميم بالخيرية والأفضلية على سائر البشر.
والحديث عن أحوال وأعمال السلف في الحج حديث عن علم قد درس مناره، ومُحِيت آثاره، فلم يبق منه إلا بقايا من الرسوم والألفاظ، وأطلال من الجمل والعبارات، والتي ما فتئ الناصحون يرددونها حثاً للناس على التمسك بما كان عليه السلف، وترغيباً لهم في سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم. وإلا فأين نحن من القوم؟ وكم بين اليقظة والنوم؟
فقد اتصف السلف -رحمهم الله- في حجمهم بصفات عظيمة أدهشت العقول؛ فقد كانوا بحق جيلاً فريدًا في إيمانهم بالله -تعالى-، ويقينهم، وصدقهم، وحسن توكلهم على الله -تبارك وتعالى-، ومن ذلك: أنهم كانوا على فقهٍ سليمٍ لحقيقةِ الحجِ وَمقصدِهِ وَحكمتهِ وَغَايتهِ، كما تميزوا بقوةٍ في العَبادةِ، وَصدقٍ في الالتجاء، والخضوع بين يدي الربّ -سبحانهُ وَتعالى-، وصفاء أرواحٍ تستشعرُ قربها مِنْ الله في هذه الشعيرةِ العظيمةِ، مع إخاء ومحبة وبذل وعطاء.
والجدير بالذكر: أن السلف الصالح كانوا على جهود متنوعة في العبادة، كلٌّ يتعبد الله بما يُسّر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك صحابته الكرام.
ولما كان للحج تأثير عظيم في تزكية النفوس وإصلاح القلوب لما فيه من معاني العبودية، ومظاهر الربانية التي تجلت في كل أعماله ومناسكه؛ فإن مناسك الحج قد أثمرت في واقع السلف قلوباً تقية، وأفئدةً زكية، وأبداناً طاهرةً نقية، فكانوا مع إحسانهم العمل يخشون الردّ وعدم القبول، أما نحن -إلا من رحم الله- فلا إحسان ولا خشية، ومع ذلك ينام أحدنا ملء جفونه، وكأنه حاز النعيم، وضمن من الجنة فردوسها الأعلى.
ونحن -معاشر المسلمين- في أمس الحاجة إلى أن نهتدي بهدي الصالحين من سلف الأمة، وأن نقتفي آثارهم حتى نكون مثلهم أو على الأقل نتشبه بهم.
وهذه طائفة من أخبار السلف وآثارهم في الحج.
أولا: حث السلف على الحج:
فقد كثرت أقوال الصحابة وسلف الأمة في بيان فريضة شعيرة الحج ووجوب أداء الفرض منه على الفور والتحذير من تأخيره، والحث على التزود منه، وجاءت أفعالهم واقعًا حيًّا وتطبيقًا جليًّا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه خرج فرأى ركبًا فقال: "من الركب؟ قالوا: حاجِّين، قال: ما أنهزكم غيره؟ -أي ما أخرجكم غيره- ثلاث مرات، قالوا: لا، قال: لو يعلم الركب بمن أناخوا لقرت أعينهم بالفضل بعد المغفرة، والذي نفس عمر بيده ما رفعت ناقة خفها ولا وضعته إلا رفع الله له درجة وحط عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة"، وروي أيضًا عن كعب أنه قال: "وفد الله ثلاثة: الحاج والعمَّار والمجاهدون، دعاهم الله فأجابوه، وسألوا الله فأعطاهم".
وكان الواحد منهم يحرص على الإكثار من الحج لعله أن تختم حياته به، قال طلحة اليامي: "كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث -إما قال: وجبت له الجنة، وإما قال: برئ من النار-: من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات، ومن خرج حاجًّا فإذا قدم من حجته مات، ومن خرج معتمرا فإذا قدم من عمرته مات".
وكان السلف لا يعدل بالحج شيئا من الأعمال الصالحة، فإن فضل الحج عظيم وثوابه جزيل؛ إذ ليس له جزاء إلا الجنة إذا كان مبرورًا خالصًا لله -عز وجل-، موافقًا للسنة، فكيف يُعدل به غيره من الأعمال الصالحة الأخرى، فالحج عبادة مالية بدنية، قال رجل لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج -أي أزاوله وأمارسه- وقد ضعفت وكبرت، فهل من شيء يعدل الحج؟ قال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟ فأما الحل -أي النزول- والرحيل، فلا أجد له عدلًا -أو قال مِثْلًا" قال أبو الشعثاء: "نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيامُ كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل"، وسئل طاووس: "الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ فقال: أين الحل والرحيل والسهر والنصب والطواف بالبيت والصلاة عنده والوقوف بعرفة وجمع ورمي الجمار؟".
وقد أدمن السلف الحج والعمرة وضربوا على ذلك أمثلة رائعة، وقال أبو غالب: قَالَ لي ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: "أَدْمِن الاختلافَ إلى هذا البيت، فإنك إنْ أدمنتَ الاختلافَ إلى هذا البيت؛ لقيتَ الله -عز وجل- وأنت خفيف الظهر"، وعن الأسود بن يزيد قَالَ: قَالَ عبدُ الله بنُ مسعود: "نُسُكان أحبّ إليَّ أنْ يكونَ لكل واحدٍ منهما: شعثٌ وسفرٌ"، قَالَ: فسافر الأسود ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وسافر عبد الرحمن بن الأسود ستين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما"، وقال ابنُ شوذب: "شهدتُ جنازة طاوس بمكة سنة ست ومائة، فسمعتهم يقولون: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! حَجَّ أربعين حجة"، وممن ذُكر أنه حجّ أكثر من أربعين حجة: سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وأيوب السختياني، وهمام بن نافع، وغيرهم كثير.
ثانيا: اهتمام السلف بالإخلاص والتجريد:
ومن فقه السلف الصالح -رحمهم الله-: عنايتهم بتصحيح النية في أعمالهم، ومن ذلك: الحج، وإخلاصهم في أدائه، فلا يقصدون بحجهم رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرًا ولا خيلاء، إنما يقصدون به وجه الله ورضوانه، فكان أحدهم يتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه، وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لأصحابه وهو بطريق مكة: "تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحون ولا تريدون بذلك شيئًا من عرض الدنيا، ما نعلم سفرا خيرًا من هذا" يعني الحج، وروي عنه أنه قال: "إنما الحاج الشعث التفل"، وروي عن بعض التابعين قال: "رب مُحْرِم يقول: لبيك اللهم لبيك، فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك، هذا مردود عليك، قيل له: لم؟ قال: لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم ورحلًا بمائتي درهم ومفرشًا بكذا وكذا، ثم ركب ناقته ورجل رأسه ونظر في عِطْفيه -يقصد أصابه العجب والخيلاء-، فذلك الذي يرد عليه"، وقال رجل لابن عمر: "ما أكثر الحاج" أجابه ابن عمر بقوله: "بل ما أكثر الركب وما أقل الحاج"، ثم رأى رجلا على بعير، على رحل رثّ، خطامه حبل، فقال: "لعل هذا"، وقال شريح: "الحاج قليل والركبان كثير"، فما أكثر الذين يعلمون الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجه الله، وما أكثر من يقصد البيت الحرام لحج أو عمرة لكن قد تكون نفقته من حرام، أو يكون حجه أو عمرته رياء وسمعة، وتكثرا أو مباهاة عند الناس، أو يكون حجه على غير سنة ولا موافقة للشريعة.
ومن الناس من أعانهم جل وعلا على إخلاص نياتهم وطيب مكاسبهم وحل أموالهم، ثم وفقهم سبحانه وتعالى لأداء الحج أو العمرة حسب السُّنَّة، موافقة لعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة الأسوة.
ثالثا: أحوال السلف في السفر إلى الحج:
كثير من الناس لا تعلم طبائعهم ولا خصالهم إلا إذا صحبتهم في السفر أو تعاملت معهم بالدينار والدرهم، وإنما سمي السفر بذلك؛ لأنه يسفر أو يكشف عن طبائع الناس.
وكان السلف يعلمون حق رفيق السفر، فيحسنون صحبته، ويواسونه بما تيسّر لديهم من طعام وشراب، وكان كل واحد منهم يريد أن يخدم أخاه ويقوم بأعماله، لا يمنعه من ذلك نسبٌ ولا شرفٌ ولا مكانة عالية، قال إمام التفسير مجاهد بن جبر -رحمه الله-: "صحبت ابن عمر -رضي الله عنهما- في السفر -يقصد سفر الحج- فكان يخدمني"، وكانوا رحمهم الله يبذلون أموالهم للرفقة، ويصبرون على الأذى، ويطيعون الله -تعالى- فيمن يعصيه فيهم، يروى أن يُهَيْماً العجلي ترافق مع رجل تاجر موسر في الحج، فلما كان يوم خروجهم للسفر، بكى بُهَيْم حتى قطرت دموعه على صدره، وقال: ذكرت بهذه الرحلةِ الرحلةَ إلى الله، ثم علا صوته بالنحيب. فكره رفيقه التاجر منه ذلك، وخشي أن يتنغّص عليه سفره معه بكثرة بكائه، فلما قدما من الحج، جاء الرجل الذي رافق بينهما إليهما ليسلِّم عليهما، فبدأ بالتاجر فسلّم عليه، وسأله عن حاله مع بُهَيْم، فقال له: والله ما ظننت أن في هذا الخلق مثله؛ كان والله يتفضّل عليّ في النفقة، وهو معسّر وأنا موسر! ويتفضل عليّ في الخدمة، وهو شيخ ضعيف وأنا شاب! ويطبخ لي وهو صائم وأنا مفطر. ثم خرج من عنده فدخل على بُهَيم، فسلّم عليه، وقال له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: خير صاحب، كثير الذكر لله، طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة، متحمّل لهفوات الرفيق، فجزاك الله عني خيراً.
كان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم اغتناماً لأجر ذلك، منهم عامر بن عبد قيس، وعمر بن عتبة بن فرقد، مع اجتهادهما في العبادة، وكان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم، وكان إذا أراد الحج من بلده "مرو" جمع أصحابه وقال: من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم، فيضعها في صندوق ويغلقه، ثم يحملهم، وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من هدايا، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاماً، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كل واحد نفقته.
رابعا: عبادة السلف في الحج:
عند الإحرام والتلبية: كان السلف يستشعرون معنى الإحرام، فهو يعني عندهم الإنخلاع من جميع الشهوات الأرضية، والتوجه بالروح والبدن إلى خالق السموات والأرض، لذلك فقد كانوا يضطربون عند الإحرام، فتتغير ألوانهم، وترتعد فرائصهم خوفاً من عدم القبول، فكان أنس بن مالك إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه، وهذا عليُّ بن الحسين لما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك؟ فقال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك. ولما حجّ جعفر الصادق فأراد أن يلبي، تغيّر وجهه، فقيل له: ما لك يا ابن رسول الله؟ فقال: "أريد أن ألبي وأخاف أن أسمع غير الجواب"، وكان شريح القاضي إذا أحرم كأنه حيّة صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله -عز وجل-.
ولئن كان كثير من حجاج هذا الزمان لا يلبون، وأغلب الذين يلبون لا يجهرون بالتلبية، ولا يرفعون بها أصواتهم، فقد كان السلف على خلاف ذلك، قال أبو حازم: "كان أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أحرموا لم يبلغوا الرّوْحاء حتى تُبَحُّ أصواتهم".
بكاؤهم ودعاؤهم وصلاتهم وخوفهم: فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يبكي، فقال: "يا عمر هاهنا تسكب العبرات"، وقال ابن كثير في تاريخه: "لما فرغ عمر بن الخطاب من الحج سنة ثلاث وعشرين، ونزل بالأبطح دعا الله -عز وجل-، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمنَّ عليه بالشهادة في بلد النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء".
خوفهم فوات الأجر والثواب: أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج، فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: "من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا"، قالت: فالآخذ بها، والتارك لها من أصحابه، قالت: فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة، وكان معهم الهدي، فلم يقدروا على العمرة، قالت: فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"، قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: "وما شأنك؟" قلت: لا أصلي، قال: "فلا يضيرك إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها"، قالت: فخرجنا في حجته حتى قدمنا منى فطهرت، ثم خرجنا من منى فأفضت بالبيت، قالت: ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: "اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا ثم ائتياها هنا، فإني أنظركما حتى تأتياني"، قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر، فقال: "هل فرغتم؟" فقلت: نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس، فمرَّ متوجهاً إلى المدينة".
وكان سالم بن عبد الله بن عمر يطوف بالبيت ومعه في المطاف الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وما إن وقعت عين الخليفة على حفيد الفاروق وهو من علماء عصره، ومن ذي الورع فيهم؛ حتى سارع إليه ممسكاً بيديه قائلاً: "يا سالم ألك حاجة؟"، فبادره سالم بقوله: "والله يا أمير المؤمنين إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته"، ويتركه الخليفة حتى يفرغ من طوافه، حتى إذا كان خارج المطاف بعيداً عن البيت الحرام أعاد القول عليه: "أليست لك حاجة أقضيها لك يا سالم؟" فعاجله بقوله: "إني لأستحيي أن أسأل غير الله وأنا ملكه".
قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: "حَجّ مَسروقٌ (هو: ابن الأجدع) فَمَا نَامَ إلاّ سَاجدًا"، قَالَ ابنُ مفلح: "باتَ عند الإمام أحمد رجلٌ فَوَضع عنده ماء، قالَ الرجلُ: فلم أقمْ بالليل، ولم أستعمل الماء، فلمَّا أصبحتُ قال لي: لِمَ لا تستعمل الماء؟ فاستحييتُّ وسكتُ، فقالَ: سبحان الله! سبحان الله! ما سمعت بصاحب حديثٍ لا يقوم بالليل"، وجرت هذه القصة معه لرجلٍ آخر، فقال: أنا مسافر، قالَ: وإن كنت مسافرًا، حَجَّ مسروقٌ فما نام إلاّ ساجدًا. قال الشيخ تقيّ الدين: فيه أنه يُكره لأهل العلم ترك قيام الليل، وإن كانوا مسافرين"، وقالَ ضمرةُ بنُ ربيعة: "حَججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعًا في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب"، قَالَ ابنُ المبارك: "جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهمِلان، فالتفت إليَّ، فقلت له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قَالَ: الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم".
وقال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: إن من أعظم خصال البرّ في الحج: إقام الصلاة، فمن حج من غير إقام الصلاة -لا سيما إن كان حجه تطوعاً- كان بمنزلة من سعى في ربح درهم، وضيّع رأس ماله وهو ألوفٌ كثيرة"، وقد كان السلف يواظبون في الحج على نوافل الصلاة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يواظب على صلاة النافلة على راحلته في أسفاره كلّها ويوتر عليها"، وكان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليله أجمع في محمله، يومئ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يُشغل عنه الناس بسماع صوت الحادي، فلا يُتَفَطّن له، وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني يحجّ من اليمن ماشياً، وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلةٍ ثلث القرآن، فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورده، ثم يلحق بالركب متى لَحِقَ، فربما لم يلحقهم إلا في آخر النهار.
حال السلف يوم عرفة: وقـد كان سلف الأمة حريصين أشدَ الحرص على استغلال هذا اليوم العظيم والإفادةِ منه، والمحرومُ من حرم فضلَ الله وجودَه، والشقي من تمر عليه هذه الأزمانُ الفاضلة، والأوقاتُ الشريفة دون استغلالٍ لها، أو إفادة منها، فكانت أقوالهم حاثّةً على شغل هذا اليوم بما هو جدير به من الأعمال الصالحة، وكـانت أحوالُهم وأفعالهم تطبيقًا لذلك؛ فعن علي -رضي الله عنه- قال: "ليس في الأرض يوم إلا للّه فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتقًا للرقاب من يوم عرفة، فـأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحـلال، واصرف عني فسقة الجن والأنس "، وكان حكيم بن حزام -رضي الله عنه- يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة -أي من العبيد الأرقاء- فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيدَه، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار"، وقال ابن المبارك: "جئت إلى سفيان الثوري عشيةَ عرفة وهو جـاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلتُ له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم"، وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى الناس وتسبيحِهم وبكائِهم عشية عرفة فقـال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني سدسَ درهـم- أكـان يـردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرةُ عند الله أهونُ من إجابة رجل لهم بدانق.
هذه الأحوال والأعمال التي كان عليها السلف حال موسم الحج ليست أحوالاً وأعمالاً إعجازية أو مستحيلة بل يستطيع كل مسلم مخلص أن يـأتي منها قدر استطاعته، فالسلف كانوا أولاً وأخيراً بشراً مثلنا يعتريهم ما يعتري سائر البشر، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم كانوا أكثر انتباهاً لمزالق الشيطان، وأكثر وعياً بحقيقة الدنيا، وأكثر إتباعاً وفهماً لنصوص الشريعة، ومن أراد الوصول إلى مراقيهم السامقة، فليحذو حذوهم ويسير على دربهم ويقتفي أثرهم، عندها تنفتح علي العبد أنواع المعارف والفيوضات والمعارف اللدنية، ويشعر بلذة العبادة وآثارها كما حدث مع السلف -رضوان الله عليهم-.
التعليقات