عناصر الخطبة
1/ فضل أبي تراب، عليّ بن أبي طالب 2/ نسَبُهُ وشرفُهُ 3/ جهاده وفتكاته 4/ شذرات من حياته 5/ غلوّ غلاة الشيعة فيه 6/ نتائج ذلك الغلو وتداعياته 7/ مقتضيات محبتنا لعلي رضي الله عنه 8/ موقفه الحازم من الغالين فيه 9/ نحن أولى به منهم!.اهداف الخطبة
اقتباس
كان سابق المسلمين، كان من العشرة المبشرين، كان أبا الحسنين وزوجَ سيدة العالمين، ورابعَ الخلفاء الراشدين، كان أقضى الأمة، أعن علمه، أم فقهه، أم شجاعته، أم عن بيانه وفصاحته وبلاغته، أم ولايته، أم عن ماذا؟ قَدَر الحديث أن لا يكون له خطام ولا زمام، يكفينا شذرات من حياة هذا الإمام.
الحمد لله حمدا طيبا مباركا، عظيما كبيرا، يملأ السهل والوعرا..
حمدا يقل مداد البحر عن كنهه حصرا..
لك الحمد تعظيماً لوجْهِكَ قائماً *** يخصُّكَ في السَّرَّاءِ مِنَّا وفي الضَّرَّا
لك الحمد مقرونا بشكرك دائما *** لك الحمد في الأولى لك الحمد في الأخرى
أشهد ألا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك, شهادة ندخرها ليوم لا مرد لنا من الله، ما لنا من ملجأ يومئذ منك وما لنا من نكير.
وأشهد أن محمد بن عبد الله عبدك ورسولك,
اللهم صل على النبي محمد ما سبَّحَتْ رحمانَها فوق السماء الأنجمُ..
ما حام حول حمى حرامك مسلم..
وصلِّ على الآل والصحب ثم التابعين لهم *** ما أومض البرقُ مجتازاً على الظُّلَمِ
أما بعد: اذكروا لي ذِكْرَهُمْ وارْوُوا فمي *** عَبَقَاً مِن سيرةٍ مُشْتَهِرَهْ
إنْ عقمت أرحام النساء أن تلد رجالا يحركون مراكب التاريخ, فلن يَعْقَم رحِم التاريخ أن يزف لنا قصص رجالٍ:
... شحَّ الزمان بمثلهمْ *** إنَّ الزمانَ بِمِثْلِهِمْ لَبَخِيلُ!.
عزاؤنا إن مرت أجيال وأجيال وليس فيهم مَن يحسن التأريخ كتابة سطرٍ واحد عنهم, أنَّ هناك رجالا قد أحسن التأريخ كتابة سطور عنهم, بل أرتالاً وأسفارا!.
عزاؤنا إن رفع لنا الدهر ما يسوؤنا, أنا قد سمعنا الحسنى منه ما قرت به عيوننا، وطابت له أفئدتنا.
عزاؤنا إن لم يكن لنا حاضر أنه كان لنا ماضٍ لا تنخفض بذكره رؤوسنا.
ما عزاؤنا إلا بقول الأولِ: لن تنهض دولةٌ أو أمَّةٌ ليس لها ماضٍ تُسند عليه ظهرها!
أجل!.. وإذا سألت عن الماضي المجيد رأيتنا أبناءه، يا عِزةَ الأجدادِ!
أبناءُ صدق صدَّق الدهر علينا ختمة الأمجاد..
أجل! لن يكون تحجُّجُنا بالماضي سببا في تكلس حاضرنا, ولن تكون عظمةُ آبائنا سببَ الربوض بمرتع الآجام.
إنَّ الفتى مَن يقولُ ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقولُ كان أبي
لكن الإمام مالكاً -رحمه الله- عندما قال: "لن يصلح آخر هذه الأمةِ إلا بما صلُح به أولُها"، كان يعلم أن القيمَ التي أسسها الأولون, ليست صالحةً لكل زمان ومكان, بل هي الْمُصلحة لكل زمان ومكان؛ فمهما ابتغيتم العزة بغير ما أفلح به أولوكم فقد طلبتم محالا!.
وإذا كان كذاك؛
فاذكروا ذكراهمُ وارْوُوا فمي *** عبقا من سيرةٍ مُشْتَهِرهْ
حدِّثوني عن الأماجد إني سَغِب *** وفؤادي الظمآنُ جيلَ الخيرية
متى تصلُ العِطاش إلى ارتواءٍ *** إذا استقت البحار من الركايا؟!
اقصدوا البحر وخلّوا القنواتِ وخُذُوا من الزاد العظيم مَزادا؛ عبُّوا من المكرمات أزوادكم،
ولا تَرِدُوا إلا الْمُحِيطَ فإِنَّمَا *** جداولُها عن غُلَّةٍ ليس تنقع
في تضعضع الدول ورجالها, لن يشفيَ غليل ظمئنا إلا رجالٌ يروونها، ولكن بالحكايات التي كُتبت بالطّرس من ماء الذهب.
أيتها الحكايات القديمة: اذكروا صَبَّاً إذا غَنَّى بكم *** شَرِبَ الدَّمْعَ وعاف القَدَحَا
من أين ابتدئ الحديث؛ وحديثنا ما كان عن لُبنى ولا سَلمى ولا ليلى، ولا عن قصة الحب التي سلفت، ولا عن فارس الأحلام حين تحقَّقَتْ أحلامُهُ في يوم دارةِ جُلجُل.
ليس عن ذاك أحدثكم، وحاشا مقامٍ كهذا أن يكون الحديثُ فيه ذاكا!.
إنه؛ لما خلق الله الخلق اصطفى منهم خواصه وأولياءه, واصطفى من أوليائه أنبياءه، وجعل أنبياءه خيرةَ خلقه.
اجعلونا نستريحُ بِذِكْرِهِمْ *** ليس الصحيحُ إذا مَشَى كَالْمُقْعَدِ
تشرف هذا المنبر بذكرى رحمة رجل الأمة الأول أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-، ثم تشرف بعد ذاك بذكرى شموخِ رجل الأمة الثاني بعد نبيها، عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه-، ثم تشرف ثالثة بذكرى حياء وجود رجل الأمة الثالث أبي عبد الله عثمانَ بنِ عفانٍ -رضي الله عنه-، وقد آن للفارس الهزبر ابنِ عم الهزبر أن يترجل لنا عن صهوات بعده، ليُحيِّينا برائحته الزكية، طُيّبت من زَكاء!.
هذا الرجل،
أخُو الحرب إنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا *** وإنْ شمَّرتْ عَنْ ساقِها الحربُ شَمَّرَا
ألا حيَّا الله بركاتِ هذا الإمام, وحيا الله شجاعتَه, وفروسيته, وبأسه، وبلواءه في سبيل الحق.
عدِّدُوا لي من أسلم من الصبيان في أول الإسلام! عددوهم! عددوا الذين اتخذوا أول قراراتهم الأبدية يوم أن كانوا صغارا، عددوا لي الذين لم تأخذهم كبوة في دين الله حين دُعوا إلى دين الإله بقوة وثباتِ!.
عددوا لي الذين اتخذوا هذا الدين، وشوارب لهمُ ما شعشعت زغبا، تجدون عليا هو أولهم، وأكملهم، وأفضلهم، وأعلاهم يدا، وأرجحهم كفة وعقلا، وميزاناً وعدلا.
إذا توقدت الأقمار في أُفُقٍ *** قالوا: أأقمارها أم ذي أبو الحسنِ؟
"اللهم إني أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن"، تلك كانت دعوة عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- لعليِّ بنِ أبي طالب بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلابِ بن مرةَ بن كعبِ بن لؤيّ القرشيِّ الهاشميِّ، ابنِ عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ورث المكارم كابرا عن كابرٍ *** والمعضلاتُ لكُرهِها حلّالُها
الشخصية الفذة في علي، لها أول ولا يكاد أن يكون لها آخر، له من كل سماءٍ أفق، وأشعة الأنوار في محرابه.
إذا أردت أن تعرف أيَّ شرف ناله أبو الحسن، فلا أظنه يغيب عن علمك أن الصحابة -رضي الله عنهم- لما هاجروا من مكة إلى المدينة، آخى النبي أخوة الإسلام بين المهاجرين والأنصار، ولكن عليا -رضي الله عنه- لم يسعه ما وسع الناس، ولم تكن له كفة ككفافهم، أيرضيك يا أبا السبطين أن يؤاخيَ النبيُّ بينك وبين نفسه؟ لقد كان يرضيك، أيرضيك يا أبالحسن أن النبيَّ قال لك حينها: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".
لقد كان يرضيك يا أبا الحسن،
تُعطى العطيَّاتِ الكبيرةَ قدرَها *** والناسُ قد مدُّوا إليك يمينا
أيرضيك أن تكون خيرَ صهر في الإسلام، بأن ينكحك النبي ريحانتَهُ، التي هي منه وهو منها؟
لقد كان يرضيك يا أبا تراب، عبثا إذا كنتُ ها هنا سأجمل فضائل أبي تراب، بمقام كهذا، ومن لأبي ترابٍ أن يعدد فضله!.
إن الجبال الشم عنه تسيح! وإني لأستحي من الله أن تكون هذه الخطراتُ هي قسط أبي الحسن منا!.
حدثنا عن بركاتك أيها الإمام، عن فدائك لمحمد بن عبد الله منذ أن كنت صغيرا حتى بلغت الحلم، ثم الشباب.
نطلب ذلك ونحن نعلم أن المقام لا يتسع لذكر مأثرتِك يا أبا تراب عندما فدَّيت نبي الإسلام برقادك في منامه، لتُعمِّيَ عن المشركين أثرَ نبيك وابن عمك، ثم نجحت خطتكما، ليكتبها التأريخ باسمك، باسمك أنت فحسب، ومن لهذه المعضلةِ إلاك يا أبا الحسن؟!.
حدثنا عن جهادك وغزواتك مع نبي الإسلام والتي ما تخلفت منها في غزاة واحدة إلا يوم تبوك، وقد عذرك الله يومها، وقد قلت للنبي -عليه الصلاة والسلام- حين استخلفك في المدينة: "أتخلّفني يا رسول الله بين النساء والصبيان؟" ليجيبك نبيُّ الهدى: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي".
لقد سجل التأريخ لك هذه، لك أنت فحسْب، معَ أنك يا أبا تراب، رضي الله عنك، بطل الأبطال، وفارس الفرسان، ومن
قومٍ إذا حمِيَ الوطيسُ لديهمُ *** جعلوا الجماجم للسّيوف مَقِيلَا
ما يضيرك يا أبا تُراب، أن تحدثنا عن فتكاتك الحمر بهام المشركين؟ لقد حدثنا عنك سعدُ بن أبي وقاصٍ -رضي الله عنه- أنه رآك يوما، وأنت تخطر بالسيف هام المشركين، ثم تنشد فرحاً وتقول: سنحنح الليلُ كأني جِنِّي!.
أم كان يضيرك -يا أبا تراب- أن تحدثنا عن فروسيتك واصطفائِك يوم خيبر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عندما أبت حصونُ خيبر أن تُفتح على يد غيرك: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" ثم لا يعطيها إلا أنت.
أولا حدثتنا عنك وعن فروسيتك عندما أبى عليك حصن من حصون خيبر أن يُفتح، لتطلب قائد الحصن وهو أشجع فرسانهم واسمه مرحب، ليخرج عليك بخطراته وكبره، رافعا عقيرته:
قد علِمَتْ خيبرُ أَنِّي مرحبُ *** شاكي السلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحروب أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
لتسخر من تجربته الطويلة بسيفك ذي الفِقار، وأنت ترد عليه منشدا وخاطرا:
أنا الذي سمتني أمّي حيدرهْ *** كليثِ غاباتٍ كريهِ المنظره
أوفيهمُ بالصاعِ كيلَ السندره
ثم تفعل ما تقول، أوفيت يا أبا تراب! أوفيته بالصاع كيل السندرة!.
ثم كان الفتح على يديك!
لا سيف إلا ذو الفقا *** رِ ولا فَتَىً إِلّا عَلِيّ
كان سابق المسلمين، كان من العشرة المبشرين، كان أبا الحسنين وزوجَ سيدة العالمين، ورابعَ الخلفاء الراشدين، كان أقضى الأمة، أعن علمه، أم فقهه، أم شجاعته، أم عن بيانه وفصاحته وبلاغته، أم ولايته، أم عن ماذا؟ قَدَر الحديث أن لا يكون له خطام ولا زمام، يكفينا شذرات من حياة هذا الإمام.
لتبرأ ذمةٌ شغلتها الترهات من سوى تلك السير، لنقول للأجيال: أن عليا -رضي الله عنه- رهينٌ إيمانكم بحبه، فقد روى مسلم أن عليا -رضي الله عنه- قال: "إنه لعهد النبي الأمي ألا يحبني إلا مؤمنٌ، ولا يبغضني إلا منافق".
تجتمع فضائلُ أبي السبطينِ -رضي الله عنهم- بقوله، كما روى عنه ابن عساكرٍ أنه قال:
محمد النبيُّ أخِي وصِهْرِي *** وحمزةُ سيِّدُ الشهداءِ عَمِّي
وجعفرٌ الذي يمسي ويضحى *** يطير مع الملائكةِ ابنُ أُمّي
وبنت مُحمَّدٍ سَكَنِي وعِرْسِي *** مَسُوطٌ لحمُها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها *** فأيكمُ لهُ سهمٌ كسهمي؟
ليس لأحد سهمٌ كسهمك يا أبا تراب، فسهمك فيهمُ القدح المعلى، وغيرك في السفيح وفي المنيح!.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان:7-12].
روى ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها نزلت في علي -رضي الله عنه- حين أطعم مسكينا ويتيما وأسيرا من طعام اشتراه في يوم واحد, وقد بات ذلك اليومَ طاويا.
رضي الله عن أبي تراب، وعن كل رضِيٍّ ترضّى على أبي تراب، ولا رضِيَ الله عن كل من ناصبه أو رفضه، غاليا فيه عن قيود بشريته، وما زعم الزاعمون!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: لكم أن تسمعوا ما لم يسمعه أبو تراب، اسمعوا وعُوا: أنا عندي مفاتيح الغيب، لا يعلمها بعد رسول الله إلا أنا، أنا ذو القرنين المذكورُ في الصحف الأولى، أنا صاحبُ خاتم سليمان، أنا وليّ الحساب، أنا صاحب الصراط والموقف، قاسمُ الجنةِ والنارِ بأمر ربي, أنا آية الجبار, أنا حقيقة الأسرار، أنا مورق الأشجار، أنا مونع الثمارِ، أنا مفجر العيونِ, أنا مجري الأنهار، أنا خازن العلم، أنا عين اليقين، أنا حجة الله في السماوات والأرض، أنا الراجفة، أنا الصاعقة، أنا الصيحة بالحق، أنا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، أنا مخرجُ مَن في القبور، وصاحب يوم النشور، أنا صاحب نوح ومنجيه، وصاحب أيوب المبتلى وشافيه، أنا أقمت السماوات بأمر ربي، أنا الذي لا يبدل القول لدي، وحساب الخلق إلي، أنا سر الله في بلاده، وحجته على عباده، أنا صاحبُ إبراهيم، أنا سر الكليم, أنا الناظر في الملكوت، أنا أمْر الحي الذي لا يموت!.
أستغفر الله من هذا الكفر البارد، ورضي الله عنك يا أبا تراب، أما لو سمعت ما قيل فيك كما سمعنا لأحرقت من قالوهن بالنار مثلَ يوم قنبر، اللهم إنا نبرأ إليك من كل غال في صاحب نبيك، وكل غلوٍ لا يليق إلا بذاتك العلية.
من ها هنا كانت أول نكبات الأمة، ومن ها هنا كان مصرعها الكبير، ومن هاهنا افترقت الأمة مِزعا وأشتاتا، من حيث لا يرضاه أبو تراب، ولا ربُّ أبي تراب! مَن الذي أخرج عليا -رضي الله عنه- عن طوق بشريته؟ أيُّ مذهبٍ سَلوقٍ مَحوقٍ، يعبد الله بالكذب ليجعل من عليٍّ -رضي الله عنه- بشرا ليس كالبشر له طينة مزجت أمشاجها من غير طيناتنا؟ أيُّ مذهب اتخذ من هذا الغباء سبيلا، حتى اعتُقد في عليٍ -رضي الله عنه- ما لم يُعتقد في محمد بن عبد الله؟ كبرت غشاوة رانت على ما بقي منهم، حين غلوا في الفرع حتى نسوا الأصل، والأصل والفرع من مذهبهم بريئان!.
أي مذهب هذا الذي عبد الزندقة في غلوٍ كهذا حتى أخرجها ولها رائحة الضرابين؟! ما ضرَّك حين ابتليت يا أبا تراب، فقد ابتلينا منهم كما ابتليت، وليت أمر الغلو والفحشاء كان في الغلو بحبك وحب ابنيك سيديْ شباب أهل الجنة, بل كانت عقيدتهم فيك نارا أكلت أخضرنا ويابسنا، ومزقتنا شيعا، حتى وُلد من الطوائف التي اتخذت الغلو فيك أكثرَ من عشرين طائفة!.
إن كل مظلمةٍ، ولطميةٍ، وحسينيةٍ، ونعراتٍ وثاراتٍ، ارتكبوها فيمن شهد ألا إله إلا الله إنما كانت لأجلك وأجل آل بيتك، وكأن ما بيننا وبينك غير الحب والترضي والموالاة! نحن أحق بك منهم يا أبا تراب!.
لا زال التأريخ يَروي حادثة حرقك الشهيرة فيهم، حين ابتُليت رضي الله عنك ممن ادّعوا محبّـتك، وحين ادعوا أنك إلهُهُم وقالوا: أنت ربنا! فاغتظت عليهم، وأمرت بهم فُحرّقوا بالنار، فزادهم ذلك فتنة وقالوا: الآن تيقنا أنك ربنا! إذ لا يعذب بالنار إلا الله!.
ولا زلنا نذكر قولك الشهير: "يهلك فيّ اثنان: محب يُقرّظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحقّ عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم".
ولا زلنا نذكر كذلك في الرواية التي حسنها ابن حجر حين قيل لك: إن هاهنا قوماً على باب المسجد يدّعون أنك ربّهم، فدعوتَهم، ثم قلت: ويلكم! ما تقولون؟ فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا! فقلت لهم: ويلكم! إنما أنا عبدٌ مثلكم؛ آكلُ الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا.
فلما كان الغد غدوا عليك، فجاء غلامك قنبر فقال لك : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقلتَ لغلامك: أدخلهم، فقالوا: كذلك، فلما كانت الثالثة قلتَ لهم: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقلتَ: يا قنبر، خُدَّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، واحفروا فأبعدوا في الأرض، وجِئْ بالحطب واطرحه بالنار في الأخدود، ثم قلتَ لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذفت بهم فيها حتى إذا احترقوا قلت: لما رأيتُ الأمر أمراً مُنْكَرَاً *** أوقدتّ ناري ودعوتُ قُنْبرا
إن حبنا لعليٍ -رضي الله عنه-، وموالاتَنا له، وترضّينا عليه، لا يمكن أن يكون هذا حائلا بيننا وبين إنصافه وإحلالِه منزلة قدَّرها الشرع له، وكل فضل صحيح قيل في أبي الحسن -رضي الله عنه-، هو حجة على السقيم من غيره، وإنه؛ كما يقول ابن حجر رحمه الله: وقد ولَّد الرافضة لأبي السبطين مناقبَ موضوعةً هو في غنى عنها.
لن تكون محبتنا لعلي -رضي الله عنه- مفاصلة بين حبنا لغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم-, والذين يجعلون من حب علي -رضي الله عنه- تبرأً من حب غيره، ما هو في سبيل الحقيقة إلا مشروعُ إسقاط علاقة مباركة بين أصحاب رسول الهدى، ولتسقط معهم شرعة الله!.
حُبُّ الصحابةِ كلّهم ليَ مَذْهَبٌ *** ومودة القُرْبى بها أتوسَّلُ!
إن حبنا لعليٍّ -رضي الله عنه- لن يكون غمطا لحقه أو حقِّ غيره، ولا غلواً فيهما، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.
إن حبنا لعلي -رضي الله عنه- ومقتضى محبتنا له ألا نهبه فضلا ليس له، ولا منزلة هو دونها.
إن عليا -رضي الله عنه- قد أنصف نفسه قبل أن يُنْصفه خلوف السفهاء، أصحابِ العمائمِ الرُّمْد، مقبَّحةٌ أفهامهم والمعاطنُ!.
ليتهم علموا أن عليا نادى في الناس يوما وقال: لا أؤتى برجلٍ فضلني على أبي بكر وعمر، إلا جلدته حدَّ المفتري.
وليتهم علموا أن البخاريَّ روى عن محمد بن الحنفية انه سأل عليا -رضي الله عنه- قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله؟ فقال: أبو بكر، قلتُ: ثم أي؟ قال: عمر، فخشيتُ أن يقول عثمان، قلتُ: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
إن مقتضى محبتنا لعلي -رضي الله عنه- هو بالترضي عنه وتوليه، وسؤالُ الله أن يجمعنا به في جنته, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
من الذي أراد من عليٍّ -رضي الله عنه- أن يجعله أخدودا يفرق به بين الأمة غلوا وبغضا، والأمة لم تضع سيفها في جرابها بعدُ من قتال أئمة الكفر الذين لا خلاق لهم من غيرهم.
من ذا الذي أراد أن يجعل منه جِسرا تُنصب به المشانق، فمن لم يغل في علي فهو من أعداء أهل البيت! ومن لم يقل فيه كما قالوا فهو في النار, وسيصلى نارا تلظى في أولاهم وأخراهم!.
من هؤلاء الذين ساموا أبا السبطين سوء التعب والنصب، حتى قال -رضي الله عنه- عن أجدادهم -شاهت الأجدادُ والأحفادُ-: اللهم إنهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير طبيعتي وأخلاقٍ لم تكن تُعرف لي، اللهم أبدلني خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللهم أمت قلوبهم موت الملح في الماء.
من هؤلاء الذين استجيبت فيهم دعوته -رضي الله عنه-، فتبصرهم أينما اتجهت بك الأقطار، ميتي القلوب، موقدي في أبدانهم الحروب، أبناءِ العيوب،
أبناء متعة ما يصح سبيلهم *** إلا بعقد أثامة وحرامِ
نحن أَولى بعلي من قوم جعلوا حبه وحب ابنيه -رضي الله عنهم- حُطمةً يُصلون بها سواهم ممن لا يرى ما رأوا!.
نحن أولى بعلي وسبطيه منهم، ولا زالت صحائف الحقيقة تزف لنا خبر ما اغتاظوا منه من مصاهرةِ عمرَ لعلي، وتسميةِ الحسين وذريته بأبي بكر وعمر وعثمان، فما الذي ينقمونه من الأمة، وهم الذين لم يسلم منهم حتى علي؟.
ما سمعنا هجاءً قبلُ في قاتل علي منهم، بل إن عبدَ الرحمن بنَ ملجم الخارجيَّ، كان من شيعة علي، فلما لم يرتض منه ما أراد نال منه ما نال.
نحن أولى بعلي وسبطيه ممن عذبهم الله بأيديهم وأيدي المؤمنين، فالحسينيات شاهدة على ما فعلوا، وحقن الكره على ما يفعلون بهم شهود أيضا، نحن أولى به وبابنيه منهم، والضلال المبين فيهم مبين، نحن أولى به...
نحن أولى بالحسنين وأبيهما من أناس قتلوا أولياء الله في الشام وفي كل مكان باسمهما، وتشفوا في قتل إخواننا بكل أداة قتل، وكم من غصن زيتونة قطعوه ثم دنسوه ثم قتلوه!
وشبابٍ سامه المجرم سوء الإغتيال..
زُلزِلتْ تحتهم الأرضُ فراحوا كالهباء..
مَزَّقوا الليلَ بأصوات الحيارى، واستغاثات العذارى..
وحماةُ الدار، يا لَلعارِ، في نومِ السُّكارى..
لم تَفتْ أسماعَهم تلك النداءاتُ ولكن شاهت الأوجه صمّت عن صريخِ الأبرياء..
هذه الأشلاءُ! يا ويلي عليها! مَن بكاها؟ مَن رثاها؟!..
لم تجدْ قلباً يناجيها، ولا قبراً يواريها، ولا شَيَّعها لحنُ صلاةِ..
ذهبتْ كالحُلُم العابر لم يترك من الأصداءِ غيرَ الصُّعَداء..
أين أشبالُ الميامينِ هُداةِ العالمينا؟..
أين أحفادُ عليٍّ؟..
قف ها هنا ولا تسأل عن علي!
فعليٌّ سافَرَتْ أرواحه غضبى على قوم مجوس..
لا تسل، نحن استسغنا الصفع من أيدي القرود..
نحن صُنَّاع الهوان..
نحن صناع الهوان..
نحن صناع الهوان.
والخطبة القادمة تحت عنوان: صُنَّاعُ الهوان!.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد..
التعليقات