عناصر الخطبة
1/حقيقة الدنيا في الكتاب والسنة 2/ المقصود بذم الدنيا في الكتاب والسنة 3/ الدنيا مزرعة الآخرة 4/ الحث على الزهد في الدنيااهداف الخطبة
اقتباس
الدنيا طريق للآخرة، وسبيل لنيل الجنة، فلولا الحياة والعمل الصالح فيها، لما نال العبد ما نال من التوبة في الآخرة...الدنيا سبب لإعمار الآخرة، وهكذا يجب أن تكون، لا سبباً في خراب الآخرة، فمن أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى...قيل لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا ؟ قال: وما أصف لكم من...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، الخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض وهو الحكيم الخبير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وشفيعه يوم المحشر، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، ما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، لا يؤمن عبد حتى يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار علي نهجهم واقتفي أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله بالعمل بطاعته ومرضاته، واجتناب معاصيه، ومن تقوى الله اتقاء الدنيا، واتقاء النساء، فالنساء فتنة بني إسرائيل، والمال والدنيا فتنة أمة محمد صلي الله عليه وسلم.
أيها الأخوة في الله: ما الدنيا؟ وما زينتها؟ ما حقيقتها؟ وكم مدتها؟ وكيف حال أهلها فيها؟ هل عيشها دائم؟ أم هي ظل زائل؟
عباد الله: وما سميت الدنيا إلا لدنوها، وانحطاط قدرها.
وقد وصف الله لنا في كتابه الدنيا بضرب المثل بأصدق عبارة وكلام، فقال جل من قائل حكيماً: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 45- 46].
وقال الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر:5]. (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ -أي الحياة الهانئة الخالدة- لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت(64].
هذه هي حقيقة الدنيا التي نتكالب عليها ليل نهار، حتى شغلت الصغير والكبير، الذكر والأنثى، وما كان لها ذلك لو تأملنا حقيقتها وأدركنا قدر متاعها وزينتها.
فنحن في غفلة عن حقيقة هذه الدنيا، وإن تذكرنا فسرعان ما ننسى، حتى عميت قلوب البعض، فصارت الدنيا همهم، ولها جهدهم وبذلهم، وفي سبيلها يفنون أعمارهم، ويقضون حياتهم.
أيها الأخوة في الله: ومع أحاديث صحيحة من مشكاة النبوة؛ ننبه بطرف منها على حقيقة هذه الدنيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده، لتصبن عليكم الدنيا صباً، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هي، وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء".
"احذروا الدنيا فإنها خضرة حلوة".
"إن هذا الدنيا والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم".
"إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
"حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة".
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله -ليس بعوضة –جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء".
"ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غمس في البحر من مائة".
"ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل إلى اليم، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه فهو الدنيا".
"يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله: فيرجع اثنان ويبقي واحد: يرجع أهله وماله ويبقي عمله".
"يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب ".
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسكّ –أي صغير الأذن– ميت، فتناوله فأخذه بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت، فقال: "فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" [رواه مسلم].
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلاً للدنيا".
"إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم مثلاً، وضرب مطعم ابن آدم للدنيا، وإن قزحه – أي حسنه وبهره وتبله – وملحه".
"إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه، فانظر إلى ما يصير".
"يا أبا ذر ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا" عن يمينه وشماله ومن خلفه.
"يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وقليل ما هم".
"انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
"إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".
"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
"مالي وللدنيا ؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب أستظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
"اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء".
وقال: "قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد -أي الحظ والغنى- محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار" [متفق عليه].
"ألا إنما الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً".
قال ابن رجب رحمه الله: "فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي مبعدة عن الله؛ لأنها تشغل عنه، إلا العلم النافع الدال على الله، وعلى معرفته، وطلب قربه ورضاه، وذكر الله وما والاه، مما يقرب من الله، وهذا هو المقصود من الدنيا" أ. هـ.
ليس اعمارها بنسيان طاعة الله وما يقرب إليه فيها، فقد ذم الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة، فقال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)[القيامة:20-21].
" اثنان يكرهما ابن آدم يكره الموت والموت خير للمؤمنين من الفتن، ويكره قلت المال وقلت المال أخف للحساب".
قال بعض السلف: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله علمنا عملاً واحداً يحبنا الله عز وجل عليه، قال:" أبغضوا الدنيا يحبكم الله عز وجل".
وقال الحسن: "من أحب الدنيا وسرته، خرج حب الآخرة من قلبه".
وقال جندب بن عبد الله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة".
وقال عون بن عبد الله: "الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخف الأخرى".
وقال وهب: "إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان: إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة "
عباد الله: حقا إن الدنيا ذمت في القرآن، ولعنت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصح الناس بالتخلي عنها، وحبها، والتعلق بها، ولكن في أي مجال جاءت هذه التوجيهات في القرآن والحديث؟
لقد جاءت في مجالين اثنين: حين تكون الدنيا –أي حبها والتعلق بها– حاجزاً بين الناس وبين الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل للآخرة، أو حاجزاً بينهم وبين الجهاد في سبيل الله.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة:38].
قال الله تعالى: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [يونس:7].
قال الله تعالى: (اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ)[إبراهيم:2-3].
وأما عن حب الدنيا الذي يصرف عن الجهاد بالأنفس والأموال، والتخلي عن الدين، وبذل النفس والجهد والمال في سبيله.
فقال الله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
لقد كانت الدنيا في حس الجيل الأول ومن بعدهم تسير جنباً إلى جنب من الآخرة، لا تضارها، ولا تصرف عنها، بل هل مزرعة للآخرة، الدنيا لعمارة الآخرة وإن تمتعوا بها، فحقيقة الزهد في الدنيا ليس هو التخلي عنها وتركها، وإنما نيلها، ومن ثم بذلها في مرضاه الله.
بارك الله لي ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى)[الضحى:4]. وقال: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى} [الأعلى: 16-17]، والصلاة السلام على أزهد الناس في الدنيا، وأرغبهم فيما عند الله القائل: "يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة "، وقال عن كسرى وقيصر وما هم فيه: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن دنياكم هذه ما جعلت إلا لتعمروها بطاعته ومرضاته، لا لتلهيكم عن الآخرة والعمل لها.
فالدنيا طريق للآخرة، وسبيل لنيل الجنة، فلولا الحياة والعمل الصالح فيها، لما نال العبد ما نال من التوبة في الآخرة.
فالدنيا سبب لإعمار الآخرة، وهكذا يجب أن تكون، لا سبباً في خراب الآخرة، فمن أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى.
فالدنيا وكل ما فيها متاع غرور، ولهو ولعب وزينة وتفاخر يفضي إلى الشرور، لا يدوم خيرها ولا يؤمن شرها.
قيل لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا ؟ قال: وما أصف لكم من دار: من صح فيها أمن، ومن سقم فيها ندم، ومن أفتقر فيها حزن، ومن استغني فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها النار.
وفي هذا أحسن من قال:
مالي وللدنيا وليست ببغيتي *** ولا منتهى قصدي ولست أنالها
ولست بميال إليها ولا إلى *** رياستها تباً وقبحاً لحالها
هي الدار دار الهم والغم والعنا *** سريع تقضيها وشيك زوالها
مياسرها عسر، وحزن سرورها *** وأرباحها خسر، ونقص كمالها
إذا أضحكت أبكت، وأن رام وصلها *** غبي فيا سرع انقطاع وصالها
فأسأل ربي أن يحول بحوله *** وقوته بيني وبني اغتيالها
فيا طالب الدنيا الدنية جاهداً *** ألا اُطلب سواها إنها لا وفا لها
فكم قد رأينا من حريص ومشفق *** عليها فلم يظفر بها أن ينالها.
قال الحسن رحمه الله: "والذي نفسي بيده أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه".
رحم الله الحسن، هذا قوله في زمانه، فماذا لو رأى زماننا ورجالنا؟ وكيف تكالب الناس على الدنيا؟
فباعدت بين الإخوان، وقطعت الأرحام، وغدى حديث الناس عن أموال فلان، وما جمع فلان!
لا يتورع البعض عن نيلها من حلال أو حرام، يكذب ويخادع، يحتال ويماطل، يحلف بالزور، ويأكل أموال اليتامى والمساكين، ثم تراه معجباً مسروراً، ومن ورائه نار تلظى، لا يموت فيها ولا يحيى، نعوذ بالله من الخذلان وعذاب النيران.
قال بعض السلف: أربعة طلبناها فأخطأنا طرقها: طلبنا الغنى في المال، فإذا هو في القناعة، وطلبنا الراحة في الكثرة فإذا هي في القلة، وطلبنا الكرامة في الخلق، فإذا هي في التقوى، وطلبنا النعمة في الطعام واللباس، فإذا هي في الستر والإسلام".
أيها الإخوة المؤمنون: تأملوا معي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدا حماه من الدنيا، كما يحمي أحدكم سقيمه الماء".
وفي رواية: "إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه" [رواه الإمام أحمد وهو صحيح].
إن علامة محبه الله للعبد أن يحميه من الدنيا.
قد كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأشرف وأزكى البشر، لا أن ينالها، ولا أن يفتن بها، وتغره عن الآخرة، وسيد ولد آدم حماه الله من الدنيا وزينتها هو وذريته وآل بيته وصحابته، ومن تبعهم وسار على نهجهم، ليكونوا من أهل الآخرة والنعيم والمقيم والمنزل الكريم عند رب العالمين.
فقد كان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة شعار أنبياء الله وأوليائه وأحبائه، ولكن يصدق فينا قول عمر بن العاص رضي الله عنه: "ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، إنه كان أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها".
نستغفر الله ونتوب إليه، نستغفر الله ونتوب إليه.
أيها الإخوة في الله: يكفي في قدر الدنيا ومعرفة حقارتها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أدنى أهل الجنة منزلة من له مثل ملك من ملوكها وعشرة أضعاف.
هذا آخر أهل الجنة دخولاً إليها، وقال: "لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة لملأت ما بين السماء والأرض ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
ويكفي المؤمن البصير، الحريص على مرضاة ربه، والعمل لآخرته قول نبيه صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها".
وقوله: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".
"لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس".
فما قيمة دنيا لا تساوي رباط يوم، أو روحة يروحها العبد، أو ركعتا الفجر، أو قول أربع كلمات خفيفات!!
اللهم زهدنا في الدنيا، وارزقنا القناعة فيها.
اللهم اجعلها عونا لنا على طاعتك، وزيادة لنا في كل خير يا حي يا قيوم.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم اجعل خير أيامنا آواخرها، وخير أعمالنا آواخرها، وخير ساعاتنا ساعة لقائك يا أرحم الراحمين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
التعليقات