اقتباس
فإذا آمنتَ أنَّ ما أنتَ فيه الآنَ من صَحةٍ أو مَرضٍ، من غِنىً أو فَقرٍ، من سَعادةٍ أو حُزنٍ، من يُسرٍ أو عُسرٍ، إنما هو تدبيرُ الحكيمِ الذي يعلمُ ما هو القضاءُ المناسبُ لكَ، وهو تقديرُ العليمِ الذي يعلمُ ما هو الحالُ الذي يصلحُ لكَ، وهو قضاءُ الرَّحيمِ الذي هو أرحمُ بِكَ من أمِّكَ ومن نفسِكَ، عندَها لا بُدَّ أن يتغلغلَ في قلبِكَ الرِّضا..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الخَلَّاقِ العَليمِ، الرَّزَّاقِ الكريمِ، البَّرِ الرحيمِ؛ أَفاضَ على عبادِه من رزقِه، ووَسعتْ رحمتُه كلَّ خلقِه، واختصَّ بها المؤمنينَ من عبادِه، نحمدُه على آلائه ونعمِه، ونَشكرُه على فَضلِه ومننِه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له؛ دَلَّتْ آياتُه ومخلوقاتُه على عَجيبِ صُنعِه، وعَظيم خَلقِه.
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الأنعام:102-103]، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، اصطفاهُ -تَعالى- واجتباهُ، وعَبدَ ربَّه حتى تَفطرتْ قَدماهُ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الأطهارِ، وأصحابِه الأخيارِ، والتَّابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ ما تَعاقبَ الليلُ والنهارُ، وسَلمَ تسليماً كثيراً.
أمّا بعدُ: سؤالٌ يدورُ في البالِ ما هو أجملُ شيءٍ في الدُّنيا؟، الذي تحلو به الحياةُ وتُنالُ به اللَّذةُ العُليا. هل أجملُ ما في الدُّنيا زوجةٌ حسناءُ، وذريةٌ من بناتٍ وأبناءٍ، فيعيشُ الإنسانُ بينَهم عِيشةَ السُّعداءِ، فهل هناكَ أجملُ من أن ترى حولَكَ الأحبابَ، تتجاذبونَ أطرافَ الحديثِ الخلَّابِ، حبٌّ واحترامٌ ومشاعرُ وذكرياتٌ، جمالٌ وتقديرٌ وعواطفُ وأمنياتٌ.
ولكن قد يأتيكَ من يُعارضُ ويقولُ: ألا ترى إلى أحوالِ النَّاسِ؟، فهذا لم يعرفْ الشَّقاءَ والعناءَ، إلا من الزوجةِ والأبناءِ، وذلكَ قد منعوه من صلةِ الأرحامِ، فلم يرهُ الوالدانِ والأقاربُ مُنذُ عامٍ، وذلكَ قد أشغلوهُ عن جَليلِ المعاني، وخاضَ الحرامَ ليُحقِّقَ لهم الأماني، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)[التغابن:14]، بل إذا فَقدتَ الزوجةَ والأولادَ في زَمانٍ، كانوا هم مصدرَ الشُّجونِ والأحزانِ، فتدخلَ البيتَ لتبحثَ عن الأحبابِ، فلا يُجيبُكَ إلا الجِدرانُ والأبوابُ.
لا تطرُق ِالبابَ.. تَدري أنَّهُم رَحَلوا *** خُذ ِالمَفاتيحَ وافتحْ، أيُّها الرَّجلُ
ستُبصِرُ الغُرَفَ البَكماءَ مُطفأة ً *** أضواؤها .. وبَقاياهُم بها هَمَلُ
قمصانُهُم.. كتبٌ في الرَّفِّ.. أشرِطة ٌ *** على الأسِرَّةِ، عافوها وما سَألوا
كأنَّ صَوتا ً يُناديني، وأسمَعُهُ *** يا حارِسَ الدَّارِ، أهلُ الدَّارِ لن يَصِلوا
إذن.. ليسَ الزوجةُ والأبناءُ هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا.. فما هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا؟
هل أجملُ ما في الدَّنيا المالُ، وما أدراكَ ما المالُ؟، بهِ العظمةُ والهيبةُ والجَلالُ، فالمالُ يُورثُ الكَمالُ ويَسترُ العيوبَ، فكثيرٌ من النَّاسِ لا ينظرُ إلا إلى الجيوبِ، كم قد رفعَ من وضيعٍ، وكم قد سترَ من شَنيعٍ، هو كما يقولونَ عصبُ الحياةِ، وهو عندَ أصحابِه مصدرُ النَّجاةِ، حتى قالَ قائلُهم:
كلُّ النِّدَاءِ إذا نَادَيْتُ يَخْذُلُني *** إلا نِدَائي إذا نَادَيْتُ: يَا مَالِي
ولكن قد يأتيكَ من يُعارضُ ويقولُ: ألا ترى إلى أحوالِ أهلِ المالِ؟، تَعبٌ في الحُصولِ عليهِ، وقلقٌ في الحفاظِ عليهِ، يحزنُ أحدُهم لو نقصَ منه ريالٌ، قد أذهبَ عنهم راحةَ البالِ، وهل شرٌّ من المالِ حينَ تموتَ؟، يُؤخذُ منكَ كلُّه، وتُسألُ عنهُ كلُّهُ، ويتخلَّى عنكَ حينَ تُناديَه، حتى تَقولَ: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)[الحاقة:28].
حَقيقةٌ لو وَعاها الجَاهِلونَ لمَا *** تَنافَسوا في معانِيها ولا احتَرَبوا
ما قِيمةُ النَّاسِ إلَّا في مبَادِئهم *** لا المالُ يَبقى ولا الألقابُ والرُّتبُ
إذن.. ليسَ المالُ هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا .. فما هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا؟
هل أجملُ ما في الدُّنيا الصِّحةُ والعافيةُ، فبِها يرى الإنسانُ ألوانَ الحياةِ صافيةً، وبِها يرى حقيقةَ السَّعادةِ والجمالِ والأمانِ، وهل تطيبُ الأفراحُ والملذاتُ إلا بصحَّةِ الأبدانِ، فعندَمَا دَعَا الحجَّاجُ أعرابيًّا للطَّعَامِ، وَقَالَ له: إنَّهُ طَعامٌ طَيبٌ، فردَّ الأعرابيُّ: ما طيَّبَهُ طبَّاخُكَ ولا خبَّازُكَ؛ إنَّما طيَّبَتْه العَافيةُ، وصدقَ.. فكيفَ يطيبُ الطعامُ، مع المرضِ والأسقامِ، ولذلكَ فضلُّوهُ على المالِ والولدِ، كما قالَ الشَّاعرُ:
إِنّي وَإِن كانَ جَمعُ المالِ يُعجِبُني *** ما يَعدِلُ المالُ عِندي صَحَّةَ الجَسَدِ
المالُ زَيْنٌ وَفي الأَولادِ مَكرُمَةٌ *** وَالسُّقمُ يُنسيكَ ذِكرَ المالِ وَالوَلَدِ
ولكن قد يأتيكَ من يُعارضُ ويقولُ: ألا ترى إلى أحوالِ المرضى؟، فذلكَ لا يستطيعُ المشيَ والكلامَ، وذلكَ لا يرى جمالَ السَّماءِ والغمامِ، وذلكَ في سَهرٍ وأنينٍ على السَّريرِ طَريحٌ، لا يعرفُ طعمَ النَّومِ الهادئ المُريحِ، بل تجدُ الرَّجلَ المُعافى الصَّحيحَ، في قلقٍ .. يخافُ من مَرضٍ يُزيرهُ الضَّريحَ.
إذن.. ليسَ الصَّحةُ والعافيةُ هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا.. فما هو أجملُ ما في هذه الدُّنيا؟
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ كما يَنبغي لجلالِ وجهِه وعَظيمِ سلطانِه، ولهُ الشكرُ كما يَنبغي لجزيلِ عفوِه وجميلِ إحسانِه، وله الثناءُ الحَسَنُ كما ينبغي لعظيمِ رحمتِه وسعةِ غُفرانِه، له الحمدُ حَمدًا لا يُحصيه العَددُ، ولا يَقطعه الأبدُ، وأَشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وليُّ الصَّالحينَ، وأَشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ المتقينَ، أما بعدُ:
أتعلمونَ ما هو أجملُ ما في هذهِ الدُّنيا؟ إنَّه الرِّضا بما قَسمَ اللهُ -تعالى- لكَ.
فإذا آمنتَ أنَّ ما أنتَ فيه الآنَ من صَحةٍ أو مَرضٍ، من غِنىً أو فَقرٍ، من سَعادةٍ أو حُزنٍ، من يُسرٍ أو عُسرٍ، من اجتماعٍ أو فُرقةٍ، إنما هو تدبيرُ الحكيمِ الذي يعلمُ ما هو القضاءُ المناسبُ لكَ، وهو تقديرُ العليمِ الذي يعلمُ ما هو الحالُ الذي يصلحُ لكَ، وهو قضاءُ الرَّحيمِ الذي هو أرحمُ بِكَ من أمِّكَ ومن نفسِكَ، عندَها لا بُدَّ أن يتغلغلَ في قلبِكَ الرِّضا؛ لأنَّ أمرَكَ بيدِ الذي يُحبُّ لكَ الخيرَ والهُدى.
تَأَمّلْ في الوجودِ بِعينِ فِكرٍ *** تَرى الدُنيا سَرَاباً كالخَيالِ
ومن فيها جَميعاً سَوفَ يَفْنى *** ويَبقى وجهُ رَبِكَ ذُو الجلالِ
عِندها سترى كلَّ شيءٍ بصورةٍ مُختلفةٍ.. سترى في الزَّوجةِ والأبناءِ نعمةً تستحقُّ الثَّناءَ، وسترى في عقوقِهم بلاءً يستثيرُ الدُّعاءَ، وسترى في فقدِهم مُصيبةً فيها عظيمُ الجزاءِ، وسترى في الغِنى سبباً للحصولِ على كثيرِ الحَسناتِ، وسترى في الفقرِ سِتراً عن كثيرٍ من الطُّغيانِ والشَّهواتِ، وسترى في الصَّحةِ عوناً على الطَّاعةِ والعباداتِ، وسترى في المرضِ تكفيراً عن الخطايا والسَّيئاتِ، وسترى في كلِّ قضاءٍ، سِرَّ السَّماءِ.
حينَها سترى الوجودَ جميلاً، وستَعيشُ سَعيداً على أيِّ حالٍ أنتَ فيه، وسترى الخيرَ في كلِّ حالٍ أنتَ فيه، ولن تشتكيَ من قضاءِ اللهِ العزيزِ المُتعالِ، ولن تبحثَ عن الجمالِ إلا في تقديرِ ذي الجلالِ.
أيُّها الشَّاكي وَما بِكَ داءٌ *** كُنْ رَاضياً تَرَ الوُجودَ جَميلا
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَنا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً، اللَّهُمَّ اكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ إِمَامَنا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
التعليقات
زائر
15-02-2021شكرا يا شيخ جعلها الله في ميزان حسنات والديك