عناصر الخطبة
1/ أهمية دراسة تأريخ عصر الخلفاء. 2/هجوم الأعداء على تأريخ الإسلام وتشويههم وتحريفهم له. 3/ فضل أبي بكر –رضي الله عنه- ، ونسَبه. 4/صفاته الخَلْقية والخُلُقية. 5/ ثمار دعوته. 6/ ملازمته للنبي –صلى الله عليه وسلم- وهجرته معه.اهداف الخطبة
اقتباس
لقد كان أبو بكرٍ كنزاً من الكنوزِ، ادَّخره الله تعالى لنبيِّه، وكان من أحبِّ قريش لقريش، فذلك الخلُق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطَّئين أكنافاً، من الذين يَألَفون ويُؤلفون؛ والخلُُقُ السَّمْحُ وحده عنصرٌ كافٍ لألفةِ القوم، وهو الذي قال فيه، عليه الصلاة والسلام: "أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بكر" ..
أيها المسلمون: إن تأريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر، فتأريخ الخلافة إذا أُحسن عرضه فإنه يُغذِّي الأرواح، ويُهذِّب النفوس، وينوِّر العقول، ويشحَذُ الهِمَم، ويُقدِّم الدروس والعِبَر، ويُنضج الأفكار؛ فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم، وتربيته على منهاج النبوة؛ ونتعرَّف على حياةِ وعصرِ من قال الله فيهم: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ، رضي اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عنه، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) [التوبة: 100]، وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا..) [الفتح: 48]؛ وقال فيهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم"؛ وقال فيهم عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: "من كان مُستنَّاً فليسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة".
أولئك أصحاب محمد، كانوا، واللهِ، أفضلَ هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرِفوا لهم فضلهم، واتَّبعوهم في آثارهم، وتَمَسَّكوا بما استطَعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدْيِ المستقيم.
أيها المسلمون: قام الصحابة بتطبيق أحكام الإسلام، ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، فعصْرُهم خير العصور، فهم الذين علَّموا الأمةَ القرآن الكريم، ورَوَوْا لها السنن والآثار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتأريخهم هو الكنزُ الذي حفظ مُدَّخَراتِ الأمة في الفكر، والثقافة، والعلم، والجهاد، وحركة الفتوحات، والتعامل مع الشعوب والأمم؛ فتجد الأجيال في هذا التأريخ المجيد ما يُعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهجٍ صحيحٍ، وهَدْيٍ رشيد، وتعرِفُ من خلاله حقيقةَ رسالتها، ودورها في دنيا الناس.
وقد عرف الأعداءُ من اليهود والنصارى والعلمانيين والروافض وغيرهم خطورة التأريخ، وأثرَه في صياغةِ النفوس، وتفجيرِ الطاقات، فعمِلوا على تشويهه وتزويره وتحريفه، وتشكيك الأجيال فيه، فقد لعبت فيه الأيدي الخبيثة في الماضي، وحرَّفته أيدي المستشرقين في الحاضر.
ففي الماضي تعرَّضَ تأريخنا الإسلامي للتحريف والتشويه على أيدي اليهود والنصارى والمجوس، والرافضة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، إذ رأوا أن كيد الإسلام على الحيلة أشدّ نكاية فيه وفي أهله، فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم الإسلام، وتفتيت دولته، وتفريق أتباعه، وذلك عن طريق تزييف الأخبار، وترويج الشائعات الكاذبة.
واليوم يتعرض تاريخنا الإسلامي لهجمة أخرى من قِبل القوى العالمية بأقلام العلمانيين والليبراليين في الصحف والمجلات، عبر مقالات يطعنون من خلالها في التاريخ الإسلامي بأساليبَ عديدةٍ.
أيها المسلمون: من الضروري جداً أن يُقرأ التاريخ على أبناء الجيل ليتعرفوا على الصفحات المشرقة التي هي محل القدوة ليتأسوا بها؛ واليوم، نقلب بعض صفحات إمام هذه الأمة بعد نبيها، أبوبكر الصديق-رضي الله عنه- ذلك الجبل، وتلك الشخصية المثالية التي يجهل عدد من المسلمين الكثير عن حياتها.
أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- هو سيِّدُ الصِّدِّيقين، وخير الصالحينَ بعد الأنبياء والمرسلين، فهو أفضل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وأعلمُهم وأشرفُهم على الإطلاق، فقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكر، ولكنْ أخي وصاحبي"؛ وقال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عمر أيضاً: "اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر"؛ وشهد له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله: "أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقال عنه علي بن أبي طالب لما سأله ابنُه محمد بن الحنفية: "أيّ الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر".
أيها المسلمون: إن حياة أبي بكر -رضي الله عنه- صفحة مشرقة من التأريخ الإسلامي الذي بهَر كلَّ تأريخ وَفَاقَه، والذي لم تَحْوِ تواريخ الأمم، مجتمعةً، بعضَ ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد، والدعوة لأجل المبادئ السامية.
اسمه: عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التَّيْمي، ويلتقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في النسب في الجد السادس مرة بن كعب، ويكنى بأبي بكر، لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتيق، فقد قال له -صلى الله عليه وسلم-: "أنت عتيق الله من النار"، ولقبه أيضاً بالصدّيق، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحُداً، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان".
وقد لُقِّب بالصدّيق لكثرة تصديقه للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وقد أجمعت الأمَّةُ على تسميته بالصدّيق لأنه بادر إلى تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولازمه الصدق، فلم تقع منه هناة أبدًا.
ولد بعد عام الفيل، ونشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعزُّ في قومهما، مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه.
كان أبيضَ تخالطه صفرة، حَسَنَ القامة، نحيفاً، خفيفَ العارضين، لا يستمسك إزاره فيسترخي عن حقْويه، رقيقاً معروق الوجه، غائر العينين، يخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
تزوج- رضي الله عنه- من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، عبد الرحمن وعبد الله ومحمد، وأسماء وعائشة وأم كلثوم؛ ولا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا آل أبي بكر الصديق، وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم.
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدركه أيضاً بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء، فكلهم آمنوا بالنبيّ وصحبوه، فهذا بيت الصدّيق، فأهله أهل إيمان، ولا يعرف في الصحابة مثل هذه لغير بيت أبي بكر -رضي الله عنهم- وكان يقال: للإيمان بيوت، فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبيت بني النجار من بيوت الإيمان من الأنصار.
كان أبو بكر الصدّيق في الجاهلية من وُجَهاء قريش وأشرافهم، وأحد رؤسائهم، وكان من خيارهم، يستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكةَ ضيافات لا يفعلها أحد، وقد اشتهر بالعلم بالأنساب والتجارة، وارتحل بين البلدان، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم، وكان موضع الألفة بين قومه وكانوا يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم، والخلق الكريم، لم يشرب الخمر في الجاهلية، وقد أجاب الصدّيق على من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: أعوذ بالله، فقيل: ولِمَ؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مُضيّعا لعرضه ومروءته.
ولم يسجد لصنم قط، قال أبو بكر -رضي الله عنه- في مجمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما سجدت لصنم قطُّ، وذلك أني لما ناهزت الحُلُم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشمُّ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني! فلم يُجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني! فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه.
فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة، ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
لله در الصدّيق -رضي الله عنه- فقد كان في المجتمع القرشي قبل الإسلام يحمل رصيدا ضخما من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والسجايا الكريمة؛ وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل، ولم يُعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب، ولا نقصه، ولا استرذله، كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله.
كان إسلام أبي بكر -رضي الله عنه- وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، وكان قد سبق أن سمع ببعثة نبيٍّ، من حوارٍ سمعه بين زيد بن عمرو بن نُفيل وأميَّة بن أبي الصلت، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل، وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصدر، فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسبا، ولي علم بالنسب، وقومك أوسط العرب نسبا؛ قلت: يا عم، وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له، إلا أنه لا يَظلم، ولا يُظلَم، ولا يُظالم؛ فلما بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمنت به وصدقته.
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بَحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسرّ ذلك أبو بكر في نفسه.
وعندما نزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أول اختياره على الصدّيق -رضي الله عنه - فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- بصدقه وأمانته وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟ فعندما فاتحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوة الله أسلم الصدّيق ولم يتلعثم، وتقدّم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهد، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حقه: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟"، وبذلك كان الصدّيق -رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال الأحرار. وبإسلام أبي بكر عمَّ السرور قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كان أبو بكر كنزا من الكنوز ادَّخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يَألَفون ويُؤلفون؛ والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه، عليه الصلاة والسلام: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر".
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون: أسلم الصدّيق -رضي الله عنه- وحمل الدعوة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام دين العمل، وقد كان الصدّيق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة، أينما تحرك أثَّر وحقق مكاسب عظيمة للإسلام.
كانت أول ثمار الصدّيق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام، وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم-رضي الله عنهم؛ وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العُدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبهم أعزه الله وأيده؛ وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجا، رجالاً ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا، على قلة عددهم،كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة، لم يسبقهم سابق، ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.
أيها المسلمون: اهتم الصدّيق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة، والخلال العظيمة، والأخلاق الكريمة، التي تجسدت في شخصية الصدّيق، عاملاً مؤثِّرا في الناس عند دعوتهم للإسلام.
وقد أوذي أبوبكر -رضي الله عنه- وحُثي على رأسه التراب، وضُرِبَ في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يُعرف وجهه من أنفه، وحُمل إلى بيته في ثوبه وهو ما بين الحياة والموت، فقد روت عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، ألح أبو بكر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال: "يا أبا بكر! إنّا قليل"، فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس، فكان أولَ خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله.
وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووُطِئ أبو بكر وضُرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرفهما لوجهه، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجْلَتِ المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنّ عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل والده وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟.
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمَّله الصدّيق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى؛كما تعطي ملامحَ واضحةً عن شخصيته الفذّة، وشجاعته النادرة.
إن الصدّيق -رضي الله عنه- أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله، وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا إلى الله، وكان الذراع اليمنى لرسول الله، وتفرّغ للدعوة وملازمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان للصدّيق -رضي الله عنه- شرف صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الهجرة المباركة، تلك الرحلة التي بكى فيها أبوبكر من شدة الفرح، تقول عائشة- رضي الله عنها- في هذا الشأن: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، إنها قمة الفرح البَشَريّ، أن يتحول الفرح إلى بكاء.
وَرَدَ الكتابُ من الحبيبِ بأنَّه *** سيزورني فاستَعبرَتْ أجفاني
غلب السرورُ عليَّ حتى إنني *** من فَرط ما قد سرَّني أبكاني
يا عينُ صار الدمع عندك عادةً *** تبكين من فرحٍ ومن أحزانِ
فالصدّيق -رضي الله عنه- يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشر يوما على الأقل، وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز؟ أن ينفرد الصدّيق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعا، برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة!.
ولقد قام بعدها بتسخير جميع أفراد أسرته لخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-في هجرته، فكان لابنه عبدالله دور، ولعائشة دور، ولأسماء دور، بل حتى خادمه ومولاه عامر بن فهيرة كان له دور في الهجرة.
أيها المسلمون: من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لا يفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقونه، لذا أدَّب الصدّيق -رضي الله عنه- عامر بن فهيرة وعلَّمه، فأضحى عامر جاهزا لفداء الإسلام وخدمة الدين؛ وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصدّيق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها، ويعاملونهم على كونهم بَشَرا أولاً، ثم يُعلّمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.
اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم هذه الأمة، وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان أدوم اجتماعا به ليلاً ونهارا، وسفرا وحضرا، وكان يسمر عند النبي، عليه الصلاة والسلام، بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه؛ وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه.
ولم يستخلف أبو بكر غيره، لا في حج ولا في صلاة؛ وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيره، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقضي ويفتي بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُقرّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان الصديق-رضي الله عنه- يجيد تأويل الرؤى، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها رأت كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبيها فقال: "إن صدقت رؤياك ليدفننّ في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة"، فلما قبض النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "يا عائشة! هذا خبر أقمارك".
وللحديث بقية ..
التعليقات