عناصر الخطبة
1/من فضائل أبي بكر رضي الله عنه 2/ موسم الخير (رمضان) وأهمية استغلالهاقتباس
وبعدَ أيامٍ يطلّ علينا موسمٌ كريم، وشهرٌ عظيم، يهلَّ علينا شهرُ رمضانَ بأيامِهِ المباركة، ولياليهِ الفاضلة، ونظامِهِ الفريد هو من خصائص هذه الأيام، وفيه من الفضائل الشيء الكثير.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدهُ ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ ومَنْ تبعهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقوا اللهَ -أيُّها المؤمنون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ: تحدّثْنا في الجمعةِ الماضية عن صورٍ من السيرةِ العطرة للصّحابي الجليل أبي بكر الصديق -رضيَ اللهُ عنهُ-، وفي هذه الخُطبةِ نكملُ حديثَنَا عنهُ، فنقولُ وباللهِ التّوفيق:
لقد أثنى الله -جلَّ وعلا- عليه في قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى*الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى)[الليل:18ـ 21].
قال ابنُ كثير -رحمه الله-: "وقولُهُ تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)؛ أي: سيزحزحُ عن النارِ التّقيُّ النقيُّ الأتقى، ثم فسّره بقولِهِ: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)؛ أي: يصرفُ مالهُ في طاعةِ ربِّهِ ليزكّي نفسهُ ومالهُ وما وهبهُ اللهُ مِن دينٍ ودنيا، (وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى)؛ أي: ليس بذلُهُ مالَهُ في مكافأةِ من أسدى إليه معروفاً فهو يعطي في مقابلةِ ذلك وإنما دفعُهُ ذلك، (ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى)؛ أي: طمعًا في أن يحصلَ لهُ رؤيتُهُ في الدّارِ الآخرةِ في روضاتِ الجنّاتِ قال الله تعالى: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى)؛ أي: ولسوف يرضى من اتّصفَ بهذهِ الصّفاتِ…..
حُكِىَ الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شكّ أنّه داخلٌ فيها وأولى الأمة بعمومِهَا فإن لفظَها لفظُ العمومِ، وهو قولُهُ تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى*الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى)؛ ولكنه مقدّمُ الأمةِ وسابقُهم في جميعِ هذه الأوصافِ وسائرِ الأوصافِ الحميدةِ.
ومن فضائله -رضيَ اللهُ عنهُ- أنّهُ كانَ أسبقُ الصّحابةِ إسلامًا:
روى البخاري بسنده قال: سمعت عمارًا يقول، رأيتُ رسولَ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- وما معهُ إلا خمسةُ أعبدٍ وامرأتانِ وأبو بكر.
ومن فضائله -رضي الله عنه-: ما رواه البخاري عن عروةَ بن الزبيرِ قالَ: سألتُ عبداللهِ بن عمرو عن أشدّ ما صنعَ المشركونَ برسولِ الله -صلى الله عليه وسلّم-؟ قالَ: رأيتُ عقبةَ بنَ أبي معيطٍ جاءَ إلى النّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلّي، فوضعَ رِدَاءَهُ في عنقهِ فخنقهُ بهِ خنقًا شديدًا، فجاءَ أبو بكر حتى دَفَعَهُ عنهُ فقالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ). وقد بيّنَ هذا الحديثُ شجاعةَ الصديقِ -رضي الله عنه-، وأنه تمثّل بالقرآنِ عند دفاعهِ عنِ الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ومن فضائلِهِ -رضي الله عنهُ- اختيارُ النبيّ -صلى اللهُ عليهِ وسلّم- لصُحبتهِ في رحلةِ الهجرةِ إلى المدينةِ دون غيرِهِ من سائرِ الصّحابةِ.
ومن فضائلِهِ -رضي اللهُ عنهُ- أنّه كانَ مِن أحبّ الناسِ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلّم-: فقدْ سألهُ عمرو بن العاصِ -رضي الله عنه-: أيّ النّاس أحب إليك؟ قال: "عائشةُ"، فقلت: من الرجالِ؟ قال: "أبُوها"، قلتُ: ثمّ منْ؟ قالَ: "ثمّ عمر بن الخطاب" فعدَّ رجالاً. (رواه البخاري).
ومن فضائلهِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنّه كانَ أفقهُ الصّحابةِ وأعظمهم على الرسولِ منَّة في المال والصحبة: روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللهُ عنه-، أنّ رسولَ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-، جلسَ على المنبرِ، فقالَ: "إنّ عبدًا خيَّر الله بينَ أنْ يؤتيهُ منْ زهرةِ الدنيا ما شاءَ، وبينَ ما عندهُ، فاختارَ ما عندهُ" فبكى أبو بكرٍ، وقالَ: فديناكَ بآبائنا وأمهاتِنا. فعجبنا له وقالَ الناسُ انظروا إلى هذا الشيخ، يخبرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- عن عبدٍ خيّرَهُ اللهُ بينَ أنْ يؤتيهُ مِنْ زهرةِ الدنيا وبينَ ما عندهُ، وهو يقول: فديناكَ بآبائنا وأمهاتِنا. فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- هو المخيَّر، وكان أبو بكرٍ هو أعلمُنَا به.
وقال رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: "إنّ مِن أمنِّ النّاس عليّ في صحبتِه ومالِه أبا بكر، ولو كنتُ متّخِذًا خليلاً مِنْ أمّتِي لاتّخذتُ أبا بكرٍ، إلا خُلّةَ الإسلامِ . لا يبقينّ في المسجدِ إلا خوخةُ أبي بكر"(رواه البخاري).
ومن فضائِلِهِ -رضي اللهُ عنهُ- أنّهُ كانَ أعظمَ النّاسِ إيماناً: فعنْ أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ-، قالَ: صلّى رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمّ-، صلاةَ الصّبحِ ثم أقبلَ على الناسِ، فقالَ: "بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً إذ ركبها فضربَها. فقالتْ: إنّا لمْ نُخْلَقْ لهذا؛ إنّما خُلِقْنَا للحرثِ" فقال النّاسُ: سبحان الله! بقرةٌ تكلم؟ فقال: "فإني أؤمن بهذا، أنا وأبو بكر وعمرُ" وما هما ثمَّ. "وبينما رجلٌ في غنمِهِ إذْ عدا الذئبُ فذهبَ منها بشاةٍ فطُلِبَ حتى كأنّه استنقذها منه، فقال له الذئبُ: هذا، استنقذتَها منّي، فمن لها يومَ السبعِ، يوم لا راعي لها غيري؟" فقال الناسُ: سبحانَ الله ذئبٌ يتكلمُ؟ قالَ: "فإنّي أؤمنُ بهذا أنا وأبُو بكر وعمرُ" وما هما ثمَّ (رواه البخاري).
ومن فضائلهِ -رضي اللهُ عنهُ- أنّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلّم- استخلفهُ في الصلاةِ؛ فعنْ عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها- أنّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلّم- قال في مرضهِ: "مروا أبا بكرٍ يصلي بالناسِ". قالت عائشةُ: قلت: إن أبا بكرٍ إذا قامَ مقامَك لم يُسمع النّاسَ من البكاءِ، فمرّ عمرُ فليصل، فقالَ: "مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالناسِ"، فقالتْ عائشةُ: فقلتُ لحفصةَ قولي (له): إنّ أبا بكر إذا قامَ مقامَك لم يُسمعِ الناسَ من البكاءِ، فمر عمرَ فليصلّ بالناسِ، ففعلتْ حفصةُ، فقال رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ-: "إنّكُنّ لأنتُنّ صواحبُ يوسفَ، مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالناسِ"، فقالت حفصةُ لعائشةَ: ما كنتُ لأصيبُ منك خيرًا. (رواه البخاري ومسلم).
ومن فضائلهِ -رضي اللهُ عنهُ- شهادةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخلافتهِ وهو في حياتهِ: فقد روى البخاريّ عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قالَ: أتتْ امرأةٌ النبيّ -صلى اللهُ عليه وسلّم- فأمرها أنْ ترجعَ إليهِ، قالتْ أرأيتَ إن جئتُ ولمْ أجدْك، كأنّها تقولُ الموتُ، قال عليه الصلاة والسلام: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر".
ولمّا حصلَ بينهُ وبينَ عمر -رضي الله عنهُ- قالَ صلى الله عليه وسلم: "إنّ اللهَ بعثني إليكُمْ فقلتمْ كذبت، وقالَ أبو بكر صدقَ، وواساني بنفسِهِ ومالِهِ، فهلْ أنتمْ تاركوا لي صاحبِي"، مرتين. فما أوذي بعدُ بعدها.
توفي رضي الله عنه لثلاثٍ وستينَ سنة -رضي الله عنه وأرضاهُ-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح:29].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ إنّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانية:
الحمد للهِ ربّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدٌ بن عبد اللهِ الذي علَّم أمّتهُ كلّ خيرٍ، وحذَّرهمْ من كلِّ شرٍّ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
أمّا بعدُ: فيا أيّها المؤمنونَ تمرُّ الأيامُ سريعةً، وتمضي الشهورُ عجلى، وتنقضي السنواتُ وهي من أعمارِنا.
وبعدَ أيامٍ يطلّ علينا موسمٌ كريم، وشهرٌ عظيم، يهلَّ علينا شهرُ رمضانَ بأيامِهِ المباركة، ولياليهِ الفاضلة، ونظامِهِ الفريد هو من خصائص هذه الأيام، وفيه من الفضائل الشيء الكثير.
إذا دخلَ فتّحتْ أبوابُ الجنة، وغلّقت أبوابُ النارِ، وصفدت الشياطين، فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهر، مَنْ صامَ نهارَهُ إيمانًا واحتسابًا دخلَ الجنّة، ومن قامَ لياليهِ إيمانًا واحتسابًا دخلَ الجنّة، ومنْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا دخلَ الجنّة، ومنْ قامَ مع الإمامِ حتى ينصرف كُتبَ لهُ قيامُ ليلة.
شهرُ رمضان ميدان للعمل الصالح، وموسم يفيضُ الله فيه على عبادهِ العفو والمغفرة والرحمة، العامل فيه رابِح، والمفرّط المقصّر المتكاسِل خاسِر.
فاستقبلوهُ رعاكمُ اللهُ بالبشرِ والتفاؤلِ، وعليكمْ بالنيةِ الصالحةِ، وشمّروا عنْ ساعدِ الجدّ في عملِ الصّالحاتِ، فرسولُكم صلى الله عليه وسلم يجتهدُ فيهِ ما لا يجتهدُ في غيرهِ، وكانَ عليه الصلاة والسلام في رمضان أجود بالخيرِ من الريحِ المرسلة.
فاجتهدوا في حفظِ جوارِحِكُمْ، وكثرة التلاوة، والصدقة، وإعانة الضعفاء والمحتاجين، واحرصوا على سلامة صدوركم فقد أقبل عليكم موسم الخيرات، وميدان المنافسات، ومجال المسابقات.
فهنيئاً لمن بلغه الله رمضان، فعمره بالطاعة والإحسان، وفاز بالجنة ورضا الرحمن.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:٥٦].
التعليقات