عناصر الخطبة
1/مأساة الطلاق 2/أسباب كثرة وقوع الطلاق 3/نصائح لمن يريد الطلاق 4/الطلاق التعسفياقتباس
ما إن يتنكب الزوجان، أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله، حتى تُفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزيناً كسيراً، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: كلمة طالما أبكت العيون، وروَّعَت القلوب، وفرَّقَت الأُسَر، ومزَّقَت الشمل؛ يا لها من كلمةٍ صغيرةٍ! لكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، هل تعلمون ما هي هذه الكلمة؟ إنها كلمة: الطلاق.
كلمةٌ أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروَّعَت قلوب الأبناء والبنات. أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولاً صلباً، يُهدَم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفراداً وجماعات، وتُنشئ تزلُّفاً وشفاعات؛ لرأب ما صدعت، وجمع ما فرَّقَت؟ لا غرابة في ذلك لو عُلم أن تلكم الكلمة هي كلمة: الطلاق!.
إنها كلمة أبكت عيوناً، وأجهشت قلوباً، وروَّعَت أفئدة؛ إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب؛ إنها كلمة ترتعد الفرائص بوقعها، لأنها تقلب الفرح ترحاً، والبسمة غُصّة.
إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، والجحيم والألم الذي لا يطاق.
فلله! كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قُطِّعَت من أواصرَ للأرحامِ والمحبِّين، وكم فرّقَتْ مِن شملٍ للبنات والبنين!
يا لها من ساعةٍ حزينةٍ! يا لها من ساعةٍ عصيبة أليمة، ولحظة أسيفة! يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها، وودَّعت أولادها، وفارقت زوجها، ووقفت على باب بيتها، لتُلقي آخر النظرات، على بيتٍ مليءٍ بالذكريات! يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!.
أيها المسلمون: الزواج نعمةٌ من نِعَم الله، ومنةٌ من أجلِّ مِنَن الله، جعله الله آيةً شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته؛ لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، ولكن ما إن يتنكب الزوجان، أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، وبعدها يتفرَّق شمل المؤمنين، وتتقطَّع أواصر المحبين.
أيها المسلمون: لقد كثُر الطلاق اليوم؛ هل تعلمون لماذا؟ كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يرعى الذمم، وعندما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً، ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلة حزينة باكية، مُطَلَّقَةً ذليلة.
كثُر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيَّعوا الأماناتِ والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخِّرةٍ، وضياعٌ لحقوق الزوجات، والأبناء والبنات، يُضحك الغريب، ويُبكي القريب، يؤنس الغريب، ويوحش الحبيب.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثُر الحُسَّاد والواشون؛ كثُر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يغفر الزلة، ويستر العورة والهنة، حينما فقدنا زوجاً يخاف الله، ويتقي الله، ويرعى حدود الله، ويحفظ العهود والأيامَ التي خلت، والذكرياتِ الجميلةَ التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات، الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقةَ اللسان، طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاّجة إلى الأسواق، إلى المنتديات واللقاءات، مُضَيِّعَةً لحقوق الأزواج والبنات؛ يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ!
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير؛ والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير، وجليل وحقير؛ حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال الآباء والأمهات يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج؟!
كثر الطلاق اليوم لما كثرت المسْكِرات والمخدِّرات، فذهبت العقول، وزالت الأفهام، وتدنَّت الأخلاق، وأصبح الناس في جحيم وألمٍ لا يُطاق.
كثر الطلاق اليوم لما كثرت النعم، وبطر الناس الفضل من الله والكرم، وأصبح الغني الثري يتزوج اليوم ويطلق في الغد القريب، ولم يعلم أن الله سائله، وأن الله محاسبه، وأن الله مُوقِفُهُ بين يديه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون.
لقد كثُر الطلاق اليوم لما فُقِدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبَّان غفلةِ تقهقُرٍ عن مصدر التلقِّي من كِتَابٍ وسُنَّة، ورَكَنَ فئامٌ من الناس إلى مصادرَ مريضةٍ، قلَبَتْ مفاهيمَ العُشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
أيها المسلمون: الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولا بُدَّ لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة. إن الرجل أحق بالرئاسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك، وإنَّ ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لَمِن الانحراف الصرف، والضلال المبين.
إن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجلّ؛ وكلٌّ من الزوجين بشَرٌ تام، له عقل يفكِّر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل، قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة:228]؛ كما أن قوامة الرجل لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله -عز وجل- يقول: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[البقرة:187].
أيها المسلمون: الطلاق مصيبة عظيمةٌ. فيا من يريد الطلاق! اصبر، فإن الصبر جميل، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل؛ يا من يريد الطلاق! إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أياماً، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعواماً؛ يا من يريد الطلاق! انظر إلى عواقبه الأليمة، ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدِّد شملها، وتفرّق قلبها، بسبب ما جناه الطلاق عليها.
يا من يريد الطلاق! صبرٌ جميلٌ، فإن كانت المرأة ساءتك فلعلَّ الله أن يخرج منها ذريةً صالحةً تقر بها عينك.
إن المرأة تكون عند زوجٍ تؤذيه وتسبّه، وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله، ويحتسب أجره عند الله، فما هي إلا أعوامٌ حتى يقرّ الله عينه بذريةٍ صالحةٍ، وما يدريك؟ فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيماً، لعلها أن تكون بعد أيام سلاماً ونعيماً؟! وما يدريك؟ فلعلّها تحفظك في آخر عمرك! اصبر، فإن الصبر عواقبه حميدةٌ، وإن مع العسر يسراً.
فإذا أردت الطلاق فاستخِر الله، وأنزل حوائجك بالله، واستشر العلماء، وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه، وخذ كلمة منهم تثبتك، ونصيحةً تقوّيك.
فإن كنت مريداً للطلاق فخذ بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ، فتلك حدود الله، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[الطلاق:1]، وإذا طلقتها فطلِّقْها طلقةً واحدةً، لا تزد. جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، طلقتُ امرأتي مائة تطليقة. فقال -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ حَرُمَت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً".
أيها المسلمون: اللجوء إلى الطلاق كاللجوء إلى بتر عضو من الجسم، فهو الحل الأخير للضرر الذي يصيب أحد الزوجين أو كليهما، ومن حكمة الله تعالى أن جعل الطلاق ثلاث مرات، قال تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة:229]. سأل أبو رزين الأسدي النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: سمعت الله يقول: (الطلاق مرتان). فأين الثالثة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أو تسريح بإحسان"(رواه أبو داود).
والطلاق يكون حراماً إذا كان لغير سبب أو ضرورة؛ فالزواج نعمة، والطلاق من غير حاجة إليه فيه ضرر على الزوج والزوجة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا ضرر ولا ضرار"؛ ونرى اليوم -مع الأسف!- بعض الرجال ممن لم يُقدّر إكرام الله له، بجعل الطلاق بيده، يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائجَ وخيمةٍ عليه وعلى زوجه وذريته.
وربما ثار فيطلق ثلاثًا بلفظ واحد متكرر، غير آبِهٍ لذلك، ولا مهتم أنه طلق طلاقاً بدعياً، ناسياً أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه، وتذكر صيحات أطفاله يركضون في جنبات البيت؛ إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم، وذرف دموع الحسرة والألم، وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها، ويتتبع الآراء الضعيفة، مذلاً نفسه، مضيِّعاً وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: من أشدِّ أنواعِ الطلاقِ: الطلاقُ التعسفيُّ، إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفاً وعدواناً:
أولها: الطلاق حال مرض الموت، الذي يطلق زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته ليَحرِمها من إرثها منه، فيقترف عدواناً لا يرضاه الله، وتأباه المروءة.
وثانيها أن يطلقها لسبب غير معقول فقد تكون فقيرة أو عجوزاً لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها، ولؤم في معاملتها، وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى، إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها. لقد أكرم النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة عجوزاً زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قال: "إنها كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
أيها المسلمون: إن الله -عز وجل- لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام، إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟ وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها؟
إن النسيم لا يهبّ عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع؛ وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوعُ وَهْمٍ، ومن العقل توطينُ النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها. (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء:19]؛ وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر"(رواه مسلم).
إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلاً محمود السيرة، طيب السريرة، سهلاً رفيقاً، ليناً رؤوفاً، رحيماً بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا؛ وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تُحدِث عنده لغطا.
اللهم أصلح نيَّاتِنا، اللهمَّ أصلِحْ أزواجَنا وذُرِّيَّاتِنا، وخُذْ بِنَوَاصِينَا إلى ما يُرضيك عنا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
التعليقات