عناصر الخطبة
1/الشتاء آية من آيات الله 2/الشتاء ربيع المؤمن 3/ عبادات السلف في فصل الشتاء 4/طاعات تشق في البرد يعظم أجرهااقتباس
ولئن كان البرد يؤذينا فإنه لا ينبغي أن يعيقنا عن الطاعات وفعل الحسنات، فسلفنا الصالح كانوا يبادرون الخيرات صيفًا وشتاءً حرًّا وبردًا، وفي ذلك تعظيم لحسناتهم؛ لأن في فعل الطاعات في أوقات الشدّة مزيد مجاهدة للنفس...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الْـحَمْد لِلَّـهِ نَحْمَدُه، وَنَسْتَعِينُه، وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذُ بِاَللَّـهِ مَن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنّ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِه اللَّـهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنّ يُضْلِل فَلا هَادِي لَه، وَأَشْهَدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّـهُ وَحَدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أن محمداً عبدُهُ ورسوُلُه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْـحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الْـهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
أما بعد: فإن الزمان بما فيه من صيف وشتاء آية من آيات الله -تعالى-، تدعونا للتفكر فيها، وقد ذكر الله -تعالى- البرد والحرَّ في كتابه فقال -سبحانه-: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)[النحل: 81]، وقال -عزَّ وجلَّ-: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81].
كمْ يكونُ الشتاءُ ثم المصيفُ *** وربيعٌ يمضِي ويأتي الخرِيفُ
وارتحالٌ من الحرورِ إلى البردِ *** وسيفُ الرَّدَى عليك منيفُ
يا قليلَ المقامِ في هذه الدنيا *** إلى كم يغرُّك التَّسويفُ
يا طالبَ الزائلِ حتى متَى *** قلبُك بالزائلِ مشغوفُ
عجبًا لامرئ يذل لذِي *** الدنيا ويكفيه كل يومٍ رغيفُ
وفي الشتاء يشتد البرد فيؤذي الإنسان، فيتذكر برد جهنم -والعياذ بالله-، فكما يعاقب الله -تعالى- بالنار يعذّب بالزمهرير، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ؛ فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"، فاستعيذوا بالله -تعالى- من شدة البرد.
ولئن كان البرد يؤذينا فإنه لا ينبغي أن يعيقنا عن الطاعات وفعل الحسنات، فسلفنا الصالح كانوا يبادرون الخيرات صيفًا وشتاءً حرًّا وبردًا، وفي ذلك تعظيم لحسناتهم؛ لأن في فعل الطاعات في أوقات الشدّة مزيد مجاهدة للنفس، قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
فقراءة القرآن تطيب في الشتاء لأن ليله طويل، فيكون أقرب للخشوع والخلوة، كما قال -تعالى-: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[المزمل: 6]، وقال عبيد بن عمير واعظ التابعين -رحمه الله-: "يا أهل القرآن، طال ليلكم قراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
وكما تطيب قراءة القرآن في ليل الشتاء، يطيب قيام الليل لطول الليل في الشتاء، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مرحبًا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام"، ولما حضرت الوفاة عامر بن عبد القيس -رحمه الله- جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا؛ ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وعلى قيام الليل في الشتاء".
ويسهل الصيام في الشتاء كذلك لقصر النهار فيه وبردة الجوّ، فلا يشعر المسلم بالعطش؛ لذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه"(أخرجه أحمد وأبو يعلي عن أبي سعيد، وحسنه الهيثمي والمناوي)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة"(رواه أحمد وابن خزيمة والطبراني عن مالك ابن مسعود، وابن أبي عاصم وغيره عن أنس، وهو حسن).
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا عليَّ من الصلاةِ فيه؛ فإنَّ صلاتكم معروضةٌ عليَّ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أولى النَّاس بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاةً".
وبعـد: فمن الطاعات التي تتعسر في الشتاء الوضوء بالماء البارد؛ لذا رخّص الله -تعالى- للمسلمين المسح على الخفّين رحمةً بهم، ولكن من لم يجد الخفّين، أو أحب الوضوء بلا خفّين في شدّة البرد فله أجر المجاهدة ما لم يضرّ نفسه، فعن أَبي هريرةَ أَنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟"، قَالُوا: بَلى يَا رسولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ؛ فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ"(رواه مسلم)، وقال عمر -رضي الله عنه- يوصي ابنه عند موته: "عليك بخصال الإيمان"، قال: ما هي؟ قال: "الصوم في شدة الحر، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم".
ومما يشق في الشتاء الجهاد في سبيل الله، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لغزوة الأحزاب في شدّة البرد، كما قال حذيفة -رضي الله عنه-: "وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ هَوِيًّا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، يَشْرُطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ"، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، ثُمَّ يَرْجِعُ يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّجْعَةَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي"(رواه أحمد).
وأخرج أحمد والنسائي والطبراني من طريق أبي علي الحمداني عن أبي ريحانة: أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة، قال: فأوينا ذات ليلة إلى شرف، فأصابنا برد شديد حتى رأيت الرجال يحفر أحدهم الحفرة فيدخل فيها، ويلقي عليه حجفته -يعني ترسه- فلما رأى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يحرسنا الليلة، فأدعو له بدعاء يصيب فضله؟"، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، قال: "من أنت؟"، قال: فلان، قال: "ادْنُه"، فدنا، فأخذ ببعض ثيابه، ثم استفتح الدعاء، فلما سمعتُ قلتُ: أنا رجل، قال: "من أنت؟"، قال: أبو ريحانة، قال: فدعا لي دون ما دعا لصاحبي، ثم قال: "حُرِّمت النَّارُ على عينٍ حرستْ في سبيلِ اللهِ".
التعليقات